قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: هذا الحسين بن علي وأهل بيته، وزيد بن علي وولده يحيى بن زيد فرائس بني أمية، وهذا محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخوه إبراهيم ويحيى والحسين بن علي الفخي، ومحمد بن إبراهيم في طوائف من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم حصائد سيوف بني العباس.
قال عليه السلام: ولم نذكر إلا الأئمة السابقين، والعيون المنتجبين، الذين يشهد لهم بالفضل من قتلهم؛ فأما أرباب السجون والسموم والغيلة فكثير جداً؛ هذا أولاد الحسن بن الحسن على اشتهار فضلهم، وقرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم: عبدالله، والحسن، وإبراهيم، وداود؛ أبناء الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام ماتوا جميعاً في سجن أبي جعفر الدوانيقي، إلا الديباج محمد بن إبراهيم فإنه دفن حياً، وما يعلم تحت أديم السماء أفضل منهم ولا أكمل.
ولقد كان يقال: من أكرم الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أعلم الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أصبح الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ فإذا قيل: من أفضل الناس؟ قيل: عبدالله بن الحسن؛ جمع خصال الكمال، وكان يصلي الفجر بوضوء العشاء الآخرة ستين سنة؛ ثم يسجد ويقول: اللهم إني لم أعبدك حق عبادتك غير أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً؛ فحبسهم أبو جعفر حتى هلكوا، ولم يعلم كيف كان موتهم.
[شذرات من دعوة الإمام الناصر الديلمي العامة]
ومن كلام الإمام الناصر أبي الفتح بن الحسين المعروف بالديلمي عليه السلام في دعوته العامة التي ذكر فيها ما جرى على العترة الطاهرة من الحوادث.
قال -بعد حذفنا لأول كلامه-: المشتكى إلى الله من أمة ظلّت سواء السبيل، ودخلت في شريعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بالتغيير والتبديل، وجازَتْ بَنِيْه بالبغي والتقتيل، وفرقت ما جمعه، وابتذلت ما حماه ومنعه، ووالت أعداءه، وعادت أولياءه، وتبعت من قهره، وخذلت من نصره، ورفعت من وضعه، ووضعت من رفعه، وآوت من ناواه، وناوت من آواه، ونبذت كتاب الله تعالى الجامع للأمر والزجر كأنهم عنه عَمِهُون، وعن جوار بنائه تائهون، وعن واضح آياته حائرون، وإلى العمى والتيه صائرون، قد ألفت طريقة الزيغ والعناد، واستوطنت مراكب الجور والفساد، قرناً فقرنا، وزمناً فزمنا، وخلفاً وسلفا، من لدن الأيام الأموية والعباسية إلى هذه الغاية في أهل هذا البيت الشريف، والمحل المنيف، الذين رفع الله ذكرهم وأجَلَّ قدرهم، وجعلهم مفازاً للمتمسكين، وملجأ للمعتصمين في يوم لا ينفع فيه الندامة، وتقوم فيه القيامة، وتطم الأهوال، وتعظم الأوجال، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)} [الشعراء] .
وكانوا -عليهم السلام- في تلك الأعصار المظلمة والمدة المدلهمة بين مقتول ومطرود، ومخذول وشريد، ونفي وقصي، ومستور ومنكور، ومسلوب ومحروب، مقرهم قنن الجبال، ومأواهم معادن الأوعال، خائفون هائبون سائحون على الأرض شاردون، فكم من أَخْمُص مطهرة، وقدم منزهة قد شِيْكَت في الهرب، ودَمِيَتْ خوفاً من درك الطلب، وعَيْنٍ قد قرحت بالسهاد، وناظر حَرُمَ طعم الرقاد، وحُرّ وجهٍ لوحته الهجائر والسمائم، ومُصُوْنُ بدنٍ أنصبته الموامي والديامم، يظلون بأكباد حَرَّى طاوية، ويبيتون بأبدان سَلْبَى عارية، قد برتها الأسفار، وعَرّقَتْها البراري والقفار.
إلى أن قال: وكل من قام من هذه العترة الطاهرة للانتقام والانتصار، والاقتصاص والإيثار، رموه بالدواهي، وأخذوا عليه الموامي، وسددوا إلى مَقَاتِلِه المرامي.
فانظروا رحمكم الله كيف فُعِل بزيد بن علي صُلب (بالكناسة)، وقطع رأس ابنه يحيى بن زيد في المعركة، وخنق عبدالله بن الحسن في حبس الدوانيقي، وقتل ابناه محمد وإبراهيم على يدي عيسى بن موسى العباسي، وهزم إدريس (بفخ) حتى وقع إلى (الأندلس) فريداً، ومات عيسى بن زيد ببلاد (الهند) طريداً شريداً، وقتل يحيى بن عبدالله بعد الأمان والأَيْمَان، وبعد ما كُتِبَ له العهد والضمان.
هذا غير ما فُعِلَ (بسادة طبرستان) وقَتْل محمد بن زيد، والحسن بن القاسم الداعي على يد (آل سامان)، وغير ما فعل أبو الساج (بسادة المدينة) حملهم بلا غطاء ولا وطاء من الحجاز إلى (سِرْ مَنْ رَأى)، وحَسْبُكم أنه ليس في بيضة الإسلام بلدة إلا وفيها لقتيلٍ طالبيٍ تربة، تَشَارَكَ في قتله الأموي والعباسي، شعر لدعبل: [الطويل]
فليس حي من الأحياء نعرفه .... من ذي يمانٍ ولا بَكر ولا مُضَرِ
إلا وهم شُرَكَاءُ في دمائهم .... كما تَشَارَك أيسار على جزر
قادتهم الحمية إلى المنية، وكرهوا عيش الدنية، فماتوا موت العزة، ووثقوا بما لهم عند الله تعالى في الدار الباقية، فسخت نفوسهم عن هذه الدار الفانية.
حتى قال وقد ذكر بني أمية: سلطوا الحَجَّاجَ على الحِجَازَيْن ثم العِرَاقَيْن، فتلعب بالهاشميين، وأخاف الطالبيين، وأذل الفاطميين؛ فقتل شيعة علي عليه السلام، ومحا آثار أهل بيت النبي، وجرى منه ما جرى، واتصل البلاء مدة المروانية إلى أيام العباسية.
وكان في آخر أيامهم ارتكبوا عظيم آثامهم قام في بقية الحق المهمل والدين المعطل زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- فخذله منافقوا أهل العراق، وقتله أحزاب أهل الشام، وقُتِلَ معه من شايعه وتابعه، حتى من زوّجَه وآواه، حتى مَنْ كَالَمَهُ وَمَاشَاه؛ فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الذنب العظيم، غضب الله عليهم فانتزع الملك منهم، وسلط عليهم أبا مُجْرِم لا أبا مُسْلِمٍ، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة الطالبية في الدين، ولين العباسية، فترك هداه واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وتابع الظلمة بني العباس وسلطهم على الناس، وسلط طواغيت خراسان، وخوارجي سجستان، وأكراد أصبهان على آل أبي طالب، يقتلونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل ووعر، وحَلب الدنيا للدوانيقي يخبط فيها عسفاً، ويقضي فيها جوراً وحيفاً، إلى أن مات، وقد امتلأت سُجُوْنُه من أهلِ بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، يتتبع غائبهم، ويلفظ حاضرهم.
قتل عبدالله بن محمد بن عبدالله بن الحسن (بالسِّنْد) فما ظنك بمن قرب منه، وهذا قليل في جنب ما فعله هارون بهم، وركبه موسى قبله منهم، وما جرى على الحسين بن علي، وعلى أحمد بن عيسى، وعلى القاسم بن إبراهيم، اهتموا بحصد شجرة النبؤة، وقلع غرس الإمامة ولكن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً، {الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)} [العنكبوت] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(37) } [الأحزاب] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)} [الأحزاب] ، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)} [التكاثر] ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)} [الشعراء] .
حتى قال: واعلموا رحمكم الله أن بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن، وأتباع الشيطان، جهدوا في دفن مآثر الوصي ، وطمس مفاخر المرتضى الرضي، واستأجروا من كذب الأحاديث على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وبذلوا في إغفال هذا الأمر الأموال، وقَلَّدُوا عليه الأعمال، واصطنعوا فيه الرجال، فما قدروا على دفن حديث من أحاديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ولا تحريف آية من كتاب الله تعالى..إلى آخر كلامه في هذه الدعوة.
وقد أودعها -عَلَيْه السَّلام- محاسن كثيرة، وعلوماً غزيرة، وإنما أردنا الإشارة إلى ما مُنيَ به أهل هذا البيت النبوي والمنصب المصطفوي، ولولا إرادة الله تعالى لبقائهم تصديقاً لما ورد عن الصادق المصدوق -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي)) .
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في حديث مقارنتهم للقرآن: ((فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ؛ لكان في بعض ما وقع عليهم من أرباب الدولتين ما يبيد خضراءهم، ويستأصل شأفتهم.
[رسالة الخوارزمي إلى شيعة أهل البيت(ع)]
ونذكر نبذاً من كلام محمد بن موسى الخوارزمي في رسالته التي كتبها إلى (شيعة نيسابور) يذكر فيها أنواع المحن الحادثة على أبناء الحسين والحسن، لما قصدهم واليها:
سمعت أرشد الله سعيكم، وجمع على التقوى أمركم، بما نكبكم به السلطان الذي لا يتحامل إلا على أهل العدل، ولا يميل إلا على جانب الفضل، ولا يبالي إن يمزق دينه إذا أوفى بدنياه، ولا يفكر إن تعَدَّم رضاء الله إذا وجد رضاه، وأنتم ونحن أصلحنا الله وإياكم عصابة لم يرض لنا الله الدنيا، فادخر لنا الدار الأخرى، ورغب بنا عن ثواب العاجل، فأعد لنا ثواب الآجل، وقسمنا قسمين: قسماً مات شهيداً، وقِسْماً عاش حميداً؛ فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عما جرى عليه.
قال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام: (المحن إلى شيعتنا أسرع من الماء إلى الجدول) وهذه مقالة قد أسست على المحن، وولد أهلها في طالع الهزاهز والفتن، حياة أهلها نغص، وقلوبهم كلها غصص، والأيام عليهم متحاملة، والدنيا عنهم مائلة.
فإذا كنا شيعة أئمتنا عليهم السلام في الفرائض والسنن فينبغي أن نتبع لواءهم في بلوى وحزن؛ غُصِبَت فاطمة الزهراء ميراثها من أبيها يوم السقيفة، وأُخِّر أمير المؤمنين عن الخلافة وهو الخليفة، وسم الحسن سراً، وقتل الحسين جهراً، وصلب زيد بن علي بالكناسة، وقطع رأس يحيى بن زيد في المعركة، وخنق عبدالله بن الحسن في حبس الدوانيقي.
الكلام الذي ذكره أبو الفتح الديلمي، ولا أدري أيهما أقدم فيكون الثاني الآخذ من كلام الأول؛ لأنهما تطابقا فيه تطابقاً يبعد أن تتفق فيه الخواطر، إلا أنه زاد على كلام الديلمي، وذكر من الأحداث ما لم يَذْكُر على أهل هذا البيت الفاطمي.
قال: هذا بعد قتل قتيبة بن مسلم الباهلي لابن عمر بن علي حين أخذه، وقد ستر نفسه ووارى شخصه يصانع حياته، ويدافع وفاته ولا كما فعله الحسين بن إسماعيل [المصعبي] بيحيى بن عمر الزيدي خاصة، وما فعله مزاحم بن خاقان بعلوية الكوفة كافة.
حتى قال: تساوى في قتلهم الأموي والعباسي، وأطبق عليهم العدناني والقحطاني، وذكر جملة من الأحداث من قتل الطالبيين، وأعيان شيعتهم الأكرمين.
والقصد بهذا كله الإشارة إلى مخالفة الأمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيما أمر به من محبة عترته الطاهرة، والتمسك بموالاتهم باطنة وظاهره.
وخلاصة الأمر أن فقهاء الأمة المنتسبة إليهم المذاهب الأربعة كانوا خالصين من هذه المحن العظيمة، وسالمين من هذه النوائب الجسيمة، فتوفرت علومهم وكثرت أتباعهم، وتفرغ كُلُّ إمام من هؤلاء الأئمة الأربعة لنشر العلم والتصنيف، وإفادة أهل هذا الدين الحنيف.
وأئمة العترة على ما نزل بهم من الامتحان مشغولون بجهاد أعداء الرحمن، وباذلون لأنفسهم الكريمة في حماية حوزة الإيمان، ولهم مع هذه المرتبة الشريفة، والخصائص اللطيفة، من التفنن في العلوم والتبقر في المسموع منها والمفهوم، ما برزوا فيه إلى غاية الاجتهاد، وجمعوا في الفصل بين العلوم والجهاد، وصنفوا وحققوا، وأوغلوا ودققوا، فعلومهم بحمد الله صافية المشارب، مشهورة إلى المشارق والمغارب، ولولا ما خصهم الله به من هذه الفضيلة، تصديقاً لما ورد عن صاحب الحوض والوسيلة؛ لكانت علومهم لما جرى عليهم من المحن مطموسة، وتصانيفهم لما خُصوا به من البلاء مرموسة، فكان بقاءهم وبقاء علومهم من أعلام المعجزات النبوية؛ لأنها تواردت الروايات بأنهم لا يفارقون القرآن حتى يردوا عليه الدار الأخروية.
فإذا أنصف الناظر، وأعمل الفكر والخاطر، فأيما أولى بالتقليد في الفروع الفائزون بهذه الصفات المحمودة، والمواطن المشهودة، والأخبار السابقة، والآثار الفائقة؟ أم غيرهم؟
[رجوع إلى بيان ترجيح التقليد لأهل البيت(ع) فيما يسوغ فيه التقليد]
ونحن نورد هاهنا ما رواه الفقيه الحافظ محمد بن يوسف الكنجي في (كتاب الكفاية) يرفعه بإسناده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي عز وجل فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهماً وعلماً، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي)).
وهذا الحديث نص في موضع الخلاف، وأمر ظاهر باتباعهم والرجوع إليهم، والتعويل في أمر الدين عليهم.