واستدل أيضاً الإمام المنصور بالله على ذلك بما معناه أنه قد ثبت بالدليل أنهم خيرة الله سبحانه، وأنه اصطفاهم لإرث كتابه وللشهادة على الناس وهو سبحانه لا يختار إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق ، والحق لا يجوز خلافه، وكلما لا يجوز خلافه فهو حجة.
وقال أيضاً: إن العترة إذا أجمعت على حكم من الأحكام وخالفهم فيه جميع الخلق لم يسع لهم خلافهم عند أهل البصائر، وردتهم الأدلة إليهم صاغرين، ومتى أجمعت الأمة أَسْوَدُهَا وأَحْمرها وخالفهم واحد من أهل البيت عليهم السلام على قول ساغ له خلافهم، ولم يصح ادعاء الإجماع في تلك المسألة على قول الكافة، وهذا غاية الاختصاص بالشرف الكبير ، والتميز بالحال الخطير.
[التمييز بين الرجوع المأمور به والتقليد المنهي عنه]
قال -رضي الله عنه وأرضاه-: فصل:
فإذا تقررت هذه القاعدة فاعلم أن الرجوع المأمور به إليهم ليس على وجه التقليد المنهي عنه وهو اعتقاد قبول قول الغير من غير حجة، والحجة على إيجاب الرجوع إليهم واضحة، والأعلام لمتبعهم لائحة.

قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ثم اعلم أيضاً أن ذلك على سبيل العموم كما تقدم في القول والعمل والاعتقاد إلا أنه يمكن أن يقال: أما العلوم النظرية أو ما كان أصله مقطوعاً عليه من العلوم الشريفة فإنما يرجع إليهم على سبيل التنبيه والنظر والاستقراء والبحث فيما وضعوه وأصلوه من العلم ، لأنهم لا يخالفون الكتاب ولا يختلفون فيه، وكذلك السنة المقطوع عليها والإجماع لما تقدم بيانه من الأدلة الدالة على تنزييهم -سلام الله عليهم- من ذلك.
ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل التمسك بهم كالتمسك بالكتاب، فكما أنه يجب التنبيه والنظر والاستقراء والبحث فيما يجب من ذلك كذلك يجب مثله فيما وضعوه، لأنهم تراجمته وحفظته وأهله.
ولأنهم عليهم السلام وقفوا في أنظارهم على الجملة التي استقر عليها دين الإسلام، ودان بها الرسول سيد الأنام، والأنبياء قبله عليهم السلام، ودعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المكلفين كافة إليها ، وأجاب من سأله عنها، ونهى عن الزيادة عليها، وحكم بهلاك من خالفها، وهي الاعتقادات التي لا تتم العبادة السمعية إلا باعتقادها دون ما عداها مما حدث من الخلاف بعده صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك أمر باتباعهم، ونهى عن مخالفتهم لما علم من حدوث الخلاف بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد نهى الله ورسوله عن الاختلاف ، وأمر جميع الخلق بالائتلاف، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] .
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)} [آل عمران] .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فليس منا وهو رد عليه)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) ..إلى غير ذلك من الأخبار.

قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وأما ما لم يكن له أصل مقطوع عليه من الأدلة بل يسوغ فيه الاجتهاد فإنه يجب الرجوع إليهم، لأن الله تعالى أمر الجاهل بذلك حيث قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
وقد صح أنهم المخصوصون بذلك بما تقدم ذكره والأمر يقتضي الوجوب؛ فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم -عَلَيْهم السَّلام- وإن اختلفوا فيما هذا حاله فليس باختلاف على الحقيقة، لأنهم يستنبطونه ويستخرجونه من أصول الأدلة المتفق عليها؛ لأن الله قد جعل لهم من الألطاف ما يوفقهم للآراء الصائبة، والأنظار الثاقبة.
فإن وافق اجتهادُ غيرهم في مسألة اجتهاد المجتهد منهم لم يمتنع جواز الرجوع إليه؛ لأنه في الحكم كالراجع إليهم راكباً في السفينة وغير خارج عنها.
وإن لم يوافق أحداً منهم؛ فهو مخالف مأمور بالرجوع إلى موافقتهم والسلوك في مذاهبهم، لما تقدم من الأدلة الدالة على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها.
قلت: هذا الكلام في حكم الرجوع إلى العترة النبوية فإن موضعه الفصل الثالث؛ لأنه كلام في أن تقليدهم والتزام مذهبهم أولى إن لم يكن واجباً على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

[الرد على اعتراضات المخالف في حجية إجماع العترة(ع)]
فصل: نذكر فيه ما يعترض به المخالف في كون إجماع العترة حجة.
قالوا: إن المراد بآية التطهير ، وحديث: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به..الحديث)) أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- والحسنان وفاطمة دون من ذكرتم من أولادهما.
قلنا: أما الآية فإنها إذا أفادت كون إجماعهم حجة كان قول أولاد الحسن والحسين حجة، لأنه لا أحدٌ قال بأن إجماع أولئك حجة إلا قال أيضاً بأن إجماع أولاد الحسن والحسين حجة في كل عصر.
قالوا: ليس في الآية إلا أن الذي يجمعون إليه صواب، وليس فيه أنه حجة يجب اتباعها.
قلنا: قد أجمعت العترة النبوية على أن قولهم حجة وأنه يجب اتباعها، فإذا كان صواباً لزم ما ذكرناه ، ذكر هذا الكلام حي سيدنا العلامة فخر الدين عبدالله بن حسن الدواري -رحمة الله عليه- في (تعليق الخلاصة) ، وهي دلالة كنت ذكرتها في كتاب (التنويه في إبطال التمويه) [طُبع عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية]، وكتبَ بعضُ الأصحاب حاشية عليها: إن هذا الكلام يؤدي إلى الدور؛ لأنه لا يُعرف أن قولهم حجة إلا بإجماعهم على أن قولهم حجة، ولا يعرف أن إجماعهم حجة إلا بقولهم أن إجماعهم حجة.

قال: والأولى في الدليل على أن إجماع أهل البيت حجة ما ورد من حديث مقارنتهم بالكتاب العزيز، وحديث تشبيههم بسفينة نوح لأن المتمسك بالكتاب ناج من الهلاك، ويجب مثله في المتمسك بأهل البيت، وهذه هي الفائدة في أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قرن بين العترة والكتاب، وجعل التمسك بهما مُنْجِياً لمن تمسك بهما من ذوي الألباب، ومثله حديث السفينة كما قررناه.
وأما قول المعترضين بأن حديث التمسك مقصور على أمير المؤمنين والحسنين وفاطمة -عليهم السلام- فغير صحيح، لأن عترة الرجل ولده وولد ولده.
فإن قيل: فيلزم خروج أمير المؤمنين من اسم العترة؛ لأنه ليس من أولاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
قلنا: إنه من أهل البيت لحديث الكساء فهو -عَلَيْه السَّلام- رأسهم وأساسهم، وشمسهم ونبراسهم.
قالوا: التمسك لفظ مجمل لا ظاهر له.
قلنا: السابق إلى الأفهام الاقتداء بهم، كما إذا قال أحدنا لغيره تمسك بفلان فإنما يريد اقتد به في أفعاله وأقواله وأحواله؛ سيما إذا كان المأمور بالتمسك جاهلاً والمتمسك به عالماً.
قالوا: إنما أمن الضلال من تمسك بالكتاب والعترة لأجل الكتاب لا لأجل العترة.
قلنا: لا يحسن الجمع من الحكيم بين شيئين ويردف عليهما حكم إلا وهما سيّان في تعليق الحكم بكل واحد منهما، وإلا كان ذلك تلبيساً لا يليق بالحكيم.
قالوا: أراد بالتمسك مودتهم لا غير.

قلنا: لا تنافي بين المودة والاقتداء؛ بل السابق إلى الأفهام هو الاقتداء بهم؛ فإن قدرت أن لفظ التمسك مشترك بينهما حملناه عليهما إذ لا تنافي بينهما.
[فائدة]
فائدة في حكم إجماع العترة والفرق بينه وبين إجماع الأمة:
أما حكم إجماع العترة فالذي ذكره جدي المرتضى -رحمه الله- أنه يجب اتباعه وتحرم مخالفته، واحتج لذلك وأطال، وكان من جملة ما أورده من الحجة: أن الله تعالى أمر بالسؤال لهم والرد إليهم ، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] .
وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
وقد صح أنهم المخصوصون بذلك، والأمر يقتضي الوجوب لغة وشرعاً؛ أما اللغة: فإن السيد إذا قال لعبده أسرج الفرس، أو اشتر اللحم علم العقلاء من أهل اللغة أنه يجب عليه امتثال ما أمره به بمجرد ظاهر الأمر ، ولذلك يذمونه إذا لم يفعل، قال شاعرهم: [الطويل]
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني .... فأصبحت مسلوب الأمارة نادما
فسماه عاصياً لمخالفته ما أمره به.

وأما الشرع: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)} [النور] ، فلولا أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب لما توعّد الله تعالى على مخالفيه بالعذاب الأليم، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أُمِرْتُ أن أضحّي ولم تُؤْمروا)) أي أوجبت عليّ الأضحية ولم توجب عليكم، فصحّ أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
حتى قال في مسائل الاجتهادات: إذا وافق اجتهاد مجتهد غيرهم في مسألة اجتهاد المجتهد منهم لم يمتنع جواز الرجوع إليه لأنه في الحكم كالراجع إليهم، راكباً في السفينة وغير خارج منها، وإن لم يوافق واحداً منهم في الاجتهاد فهو مخالف مأمور بالرجوع إلى مذاهبهم والسلوك في مناهجهم.
قال [رحمه الله]: لما تقدم من الأدلة الدالة على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها ، وإلا كان لا معنى لهذا الواجب ولا لهذا التحريم، فثبت ما رمناه. هذا كلامه -رحمه الله- بلفظه وقد تقدم شيء منه.

وأما كلام الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- فإنه فرق بين الإجماعين؛ فقال: إجماع الأمة متى حصل على حكم من الأحكام فإنها تحرم مخالفته لكونه قاطعاً، ويفسق المخالف له لما في ظاهر الآية من الوعيد على من خالفه، وأدنى درجات الوعيد الفسق، ويحرم وقوع الاجتهاد على مخالفة حكمه من جهة أن الإجتهاد على مخالفة المقطوع ممنوع، كما لو اجتهد على مخالفة النص كان فاسداً فهكذا هاهنا.
وأما إجماع العترة فهو حقّ وصواب لظاهر الآية والخبر، ولا يفسق من خالفه لعدم الدلالة على فسقه، والفسق إنما يكون بدلالة قاطعة شرعية، وليس في ظاهر الآية والخبر ما يدل على فسق من خالفه، وهل يكون قاطعاً فيما يتناوله أم لا؟ فيه تردد ونظر.
قال عليه السلام: والأقرب أن دلالته ظنيّة كالظواهر القرآنية ونصوص السنة المنقولة بالآحاد ، وكالإجماعات من جهة الأمة التي نقلت على طريق الآحاد، لما في ظاهر الآية والخبر الدالين على كونه حجة من الاحتمال.
قال الإمام عليه السلام: وإذا كان مظنوناً جاز مخالفته بالاجتهاد، ولهذا فإنك ترى كثيراً من المسائل التي وقع فيها إجماع العترة الخلاف من جهة الفقهاء فيها ظاهر، والاجتهاد فيها مضطرب من غير نكير هناك في المخالفة ولا تأثيم للمخالف ولا تجريح عليه، ولو كان إجماعهم قاطعاً لحرم الاجتهاد ولكان الخطأ مقطوعاً به، وفي هذا دلالة على كونه ظنياً، وأنه لا يحرم الاجتهاد.

[ما رواه أئمة العترة وعيون الزيدية من أحاديث فضل أهل البيت (ع)]
فصل:
نؤيد ما ذكرناه من فضل أهل البيت عليهم السلام بذكر أحاديث مما رواه أئمة العترة النبوية وعيون علماء الزيدية.
فمن ذلك: ما رواه سيدي وجدي المرتضى بن المفضل قدس الله روحه قال في (كتاب البيان): وروينا عن ابن مسعود: (أن لأمة محمد فرقة وجماعة، فجامعوها إذا اجتمعت فإن افترقت فكونوا في النمط الأوسط ثم ارقبوا أهل بيت نبيكم ، فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزولوا معهم حيث زالوا ، فإنهم مع الحق لن يفارقهم ولن يفارقوه).
وقال [رحمه الله ورضي عنه]: وذكر الحاكم في التنبيه في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130)} [الصافات] ، قيل: آل محمد -عليهم السلام- وياسين من أسمائه فكأنه قال: سلام على آل محمد –صلى الله عليه وعليهم أجمعين-.
قال رضي الله عنه: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن رجلاً لقي الله عز وجل بعمل سبعين نبياً؛ ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله منه صرفاً ولا عَدْلاً)) .
قال -رحمه الله-: وهو لنا سماع.

10 / 39
ع
En
A+
A-