نسبة القبائح والفواحش إلى الملك القدوس، وهو ما يسميه الوهابيون توحيد الأفعال. فعندهم أن كل حركة في الكون من طاعة أو معصية أو حسن أو قبيح أو نكاح أو زنا أو لواط أو صلاة وصيام أو عدل وإحسان أو كفر وكذب وطغيان أو صدق وكذب فهو من الله، والله خالقه.
فإذا قلت: إن المعصية من الإنسان. قالوا: أنت مشرك، لأن تمام التوحيد عندهم أن كل فعل هو من الله لا يشركه في أي فعل شريك.
نعم، الاستدلال على أن الإنسان مختار في تصرفاته كالاستدلال في المسألة السابقة، من أن الواحد نصف الإثنين، فالقول بالجبر والإضطرار مذهب خرافي لا يليق بأهل العقول الإشتغال به، ولا تحرير القال والقيل، فالعقل بفطرته يسفهه ويرذله جملة وتفصيلاً، وفي الحقيقة هو مذهب وثني قال تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) [الأنعام:148] إلى آخر الآية، تسرب إلى أفكار ضعيفة الإيمان، كما تسرب حب عبادة العجل في بني إسرائيل.

ولكن العلماء رحمهم الله زيفوا هذا المذهب بكل ما آتاهم الله من البينات والحجج، وبَيَّنُوا شناعتَهُ لِمَا يترتب عليه من هدم قواعد الإسلام من أساسه، ولِمَا أوجب الله عليهم من البيان للناس، ومن أدلتهم على بطلان الجبر والاضطرار ما يجده العاقل من نفسه بالضرورة من الفرق بين حركة المرتعش من البرد وبين حركته الطبيعية، وما هو إلا أن الأخرى متوقفة على إرادته وإختياره دون الأولى، وكذلك حركة الحيوان وحركة الجماد، ومن هنا لم يحسن أن نقول للطويل: لِمَ طالتْ قامتُكَ؟، وللقصير: لِمَ قَصُرَتْ قامتُكَ؟، كما يَحْسُنُ أن نقول للظالم: لِمَ ظلمتَ؟، وللكاذب: لِمَ كذبتَ؟.
وهناك آيات من الكتاب العزيز يستدلون بها على أن الإنسان غير مختار في أفعاله، وهذه الآيات لها وجوه متعددة يمكن أن تفسر بأكثر من تفسير واحد.

فأئمتنا عليهم السلام فسروا كل آية بالتفسير المناسب لفطرة العقل، واللائق بعدل الله وحكمته، والموافق لنصوص القرآن، والذي ينبغي معرفته أن آيات القرآن بعضها محكم وهو الأصل وعليه الاعتماد في بناء العقائد الاسلامية، وبعضها متشابه لا يجوز الأخذ بظواهر معانيها ولا الاعتماد عليها في تأسيس العقائد. ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُإِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب)) [آل عمران:7]، وللإمام الهادي عليه السلام في أجوبته على ابن الحنفية تفسير لأكثر الآيات في هذا الباب، فمن أرادها فهي موجودة في المجموعة الفاخرة.
نعم، والمتشابه هو الذي يمكن أن يفسر بأكثر من تفسير، فأئمتنا عليهم السلام يفسرونه بالتفسير المتوافق مع المحكم، صيانةً للكتاب من التناقض والاختلاف لو فُسِّرَ بغيره.
[شبهة وجوابها]
ومما استدل به المخالفون على نفي الاختيار قولهم، سبق في علم الله ما سيفعله الإنسان، فلا يقدر على الخروج مما علمه الله تعالى.

وأجيب: بأنَّ العلم تابع للمعلوم، وبأنه يلزم أن لا يكون الله تعالى مختاراً، إذ سبق علمه في الأزل بما سيفعله تعالى، فلا يقدر على الخروج من علمه وإلاَّ انقلب العلم جهلاً، وقد حصل الاتفاق على أنه تعالى مختار.
[بطلان تكليف ما لا يطاق]
هذا والقول بتكليف ما لا يطاق مترتب على هذه المسألة، فبطلانها يبطل القول به، ومما يدل على بطلانه قوله تعالى: ((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) [البقرة:286]، ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]، وأيُّ عُسْرٍ أعظم من تكليف ما لا يطاق، وقوله تعالى في سورة التوبة: ((وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَامَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [التوبة:42]، فكَذَّبَهُم سبحانه في دعواهم نفي الاستطاعة، ودلت الآية أن للإنسان قدرةً متقدمة.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ((إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وقوله تعالى: ((وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) [الكهف49]، ويلزم القول به نفي العدل والحكمة عن الحكيم سبحانه وتعالى، وقد كثر القيل والقال في هذه المسألة بين الجبرية والعدلية، وطال النزاع والجدال عبر قرون كثيرة، وامتلأت صفحات الكتب الأصولية ـ علم الكلام ـ والتفاسير ووضعت لذلك كتب خاصة.

وبعد فهو مذهب لا ينبغي أن يُعَدَّ أهلُهُ من المسلمين، كيف وقد نسبوا إلى ربهم كلَّ فاحشةٍ وكلَّ قبيح وكلَّ معصية، ونزَّهُوا أنفسَهُم من ذلك، ونزَّهُوا الشيطان، وقالوا: كلُّ زنا وكلُّ معصية وقعت فالله تعالى هو الذي فعله وخلقه وشاءه وقدَّرَهُ ليس لأحد فعل، لم يلتفتوا إلى آيات القرآن التي ترد عليهم وتكذبهم، وكما في القرآن من أمثال قوله تعالى: ((تصنعون))، ((تفعلون))، ((تعملون))، ((تتخذون))، ((تكذبون))، ((وتخلقون إفكاً))، ((تدعون)).
[الشفاعة]
ومنها الشفاعة، فعند أئمتنا عليهم السلام أنها خاصة بالمؤمنين، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18]، ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [البقرة:270]، وقوله تعالى:
((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)) [البقرة:123]، وغيرها من الآيات.
وما يلزم القائلين بأنها لأهل الكبائر من الإغراء بالمعاصي والكبائر، وهذا معناه هدم الدين والتكذيب بمعنى نحو قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)) [النحل:90]، وهذا في الواقع فكرة شيطانية، فهو الذي يُهّوِّنُ الجرائمَ، ويُصَغِّرُ العظائمَ.

أما الأحاديث التي رووها في الشفاعة، فلا يجوز قَبُولُهَا لأنَّها من الآحاد، والآحادُ لا تُفيد العلمَ، فلا يُعمل بها في الأصول، هذا على فرض صحتها، ولكنها لَم تصح لمصادمتها قطعي القرآن، وإن كان قد صححها بعضُ أئمة الحديث، فليس تصحيحهم حجة ولا دليلاً، فلا يجوز الركون إليهم ولا الاعتماد عليهم، إنما الحجة اللازمة كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم التي حكم بصحتها أهل بيته عليهم السلام، إذ تصحيحهم حجة ودليل يلزم العمل بها بشهادة حديث الثقلين، المشهور عند علماء الأمة الثابت عن الرسول بلا شك ولا امتراء، أو ما كان من السنة ثابتاً عن الرسول باتفاق الأمة سواء بالتواتر أو بغيره.

[الخروج من النار]
من دخل النار فإنه لا يخرج منها، سواءاً كان من المسلمين أم من غيرهم، والقول بأن الموحدين لا يخلدون في النار ليس من دين الإسلام، بل هو مبدأ يهودي حكاه الله سبحانه في القرآن ورد على قائليه ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ () بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:81،80]، وفي هذه الآية دليلٌ واضحٌ، وحجةٌ قائمةٌ على من يدَّعي خروجَ الموحدين من النار، وأن ما رووه عن النبي ليس بصحيح، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف القرآن، ولا يأتي بغير ما حكم به الرحمن، وليس بينه وبين أحد من خلقه هوادة، فحكمه في الأولين والآخرين واحد، مبني على العدل والحكمة والرحمة ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)) [الأحزاب:62].

هذا رسول الله الخاتم صلى الله عليه وآله وسم يقول الله تعالى عنه ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ () لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) [الحاقة:44ـ 46]، ويقول سبحانه: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الزمر:65]، ويقول سبحانه: ((لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً () إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ)) [الإسراء:75]، ولم يقل تبارك وتعالى له: اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويقول سبحانه مخاطباً لأمهات المؤمنين: ((يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)) [الأحزاب:30]، ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)) [التحريم:10]، ويقول سبحانه قطعاً للأماني: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)).
وكم في القرآن من الوعيد بالخلود للعصاة على العموم، وللقاتل وللزاني والعائد إلى الربا على الخصوص، هذا وقد أخرج الله سبحانه آدم من الجنة وهو المخصوص من الله بالكرامة العظيمة بمعصية، وطرد إبليس من الجنة ولعنه بمعصيته، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة.

[الكلام على الصحابة]
ومنها: أنَّ الصحابة كغيرهم فيهم المؤمن والمنافق كما قال سبحانه: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)) [التوبة:101]، وقال سبحانه: ((مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران:152].
وفي الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي فيه: ((فأقول أصحابي أصحابي فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: سحقاً سحقاً))، ومن أراد البحث عن معرفة هذا الحديث فعليه بمقدمة الاعتصام للإمام القاسم بن محمد عليه السلام ([6]).
وقال الله سبحانه مخاطباً للصحابة أولاً وغيرهم ثانياً ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))، بل ربما تكون المعصية منهم أقبح وأشنع فيكونون أولى بمضاعفة العذاب، كما قال سبحانه في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)).
_________________
([6]) ـ انظر الاعتصام للإمام الحجة المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد عليهما السلام [ج1/ص 36].

[الإمامة]
هذا والإمامة عند أهل البيت عليهم السلام ومن معهم أصل من أصول الدين جملة وتفصيلاً.
أما جملةً: فللأدلة القاطعة المتكاثرة على وجوب إتباعهم ومودتهم، وحرمة معاداتهم ومخالفتهم.
وأما تفصيلاً: فقد نص الدليل القاطع على إمامة أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام.
وأمَّا الأئمة من ذريتهما: فقد وقع الإجماع الفعلي المستمر من الأئمة والخلفاء والسلاطين من هذه الأمة على محاربة الخارج عن الإمام الممتنع عن تأدية الحقوق إليه.
وأيضاً فالإمام العادل خليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونائبٌ منابه، فإذا وجبت معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجبت معرفة خليفته لتأدية حقه من السمع والطاعة.
وأيضاً فإن كثيراً من فرائض الإسلام مترتب عليه كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ الصدقات والخراج، وتوزيع ذلك، وإقامة الحدود والإنصاف بين الناس، وتأمين السبل، وضم الشمل للمسلمين، وجمع الكلمة إلى غير ذلك مما لا يتم إلا به.
قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام راوياً عن العترة سلام الله عليهم: معرفة إمامة علي عليه السلام فرض عين فتارك النظر فيها مخطٍ، إذ معرفة إمام الزمان فرع على معرفته. انتهى من تتمة الاعتصام.

6 / 11
ع
En
A+
A-