وهكذا يفسر نحو قوله تعالى: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22]، بأنَّ المعنى على تقدير: وجاء أمر ربك أو وعد ربك ووعيده أو نحوهما، وهكذا كلما جاء فيه ذكر مجيء الله أو نزوله كما جاء في بعض الأحاديث، فنقدر نزول أمره أو رحمته، وذلك للسلامة كما قدمنا من لزوم التشبيه والتجسيم المتفق على نفيهما عند جميع طوائف المسلمين، فما جاء في الكتاب أو السنة مما يوهم ذلك فإن الواجب تفسيره بما لا يتنافى مع ما أجمع عليه أهل الملة.
أما تفسير ما جاء من ذلك بما يلزم منه التجسيم والتشبيه، فذلك تخبط وجهالة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
[بحث في اللازم]
وقال بعض الوهابيون: إن لازم المذهب ليس بمذهب، وذلك فراراً من لصوق التشبيه والتجسيم بهم حين ألزمهم خصومهم بذلك.
ولكن الوهابيين أنفسهم لم يلتزموا بهذا بل نراهم يكفرون خصومهم بلوازم وهمية أو ظنية كبناء القباب أو مجرد وجود القباب بين ظهراني قوم، وليس ذلك لازماً عقلاً ولا عادة، وكتعليق قرطاس في الرقب أو ما شابه ذلك كالتمسح بالتراب أو تقبيل القبر أو الطواف عليه إن فرض صحة ذلك كما ادعوا، فألزموا فاعلي ذلك بالشرك وأجروا عليهم أحكام المشركين فقتلوهم وتغنموا أموالهم وحرموا مناكحتهم إلى آخر أحكام المشركين.
فأفرطوا في استعمال اللوازم حتى عملوا بالموهومة والمظنونة، حتى إذا ألزمناهم باللوازم الضرورية التي تحكم بها فطر العقول قالوا: لازم المذهب ليس بمذهب، ((رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)) [الأنبياء:112].

[معنى الرضا والغضب في حقِّ الله تعالى]
الرضا من الله سبحانه وتعالى: ليس بِرقَّةٍ كما هو في المخلوق، لأنَّ الله تعالى لا تحله الأعراض التي هي من توابع الأجسام، تعالى سبحانه عن مشابهة المخلوق، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
إذاً فالرضا من الله سبحانه وتعالى هو: الحكم باستحقاق الثواب وزيادة الهدى والتنوير والألطاف.
والغضب: هو الحكم باستحقاق العقاب، وسلب الهدى والتنوير، والألطاف الزائدة على الهداية العامة التي لا يصح التكليف للمكلف إلاَّ بوجودها.
والدليل على ما قلنا: أن الرضا والغضب بمعناهما الحقيقي لا يجوزان على الله تعالى، لأن العرض من خصائص الأجسام كما قدمنا بيان ذلك، فإذا أُطلقا على الخالق تعالى فإنما هما كناية عمَّا ذكرنا، والكناية أبلغ من التصريح بإجماع أئمة البيان، والكناية باب عريض عند العرب، فلم نخرج في تفسيرنا عن لغة العرب واستعمالاتها.
[الإرادة والكراهة]
الله سبحانه وتعالى مريد لا بإرادة، كما أنه سبحانه وتعالى فاعل لا بحركة، والإرادة قد ذكرها أئمتنا عليهم السلام وحققوا معناها، إذا أُطلقت على الباري تعالى، والمذكور في تفسيرها عنهم قولان ذكرهما المنصور بالله في الأساس:
الأول: أنها نفس المراد، وذلك لاستحالة المعنى الحقيقي في حقه تعالى، لأنها بمعناها الحقيقي عرض، وقد عرفت أن الأعراض من خصائص الأجسام.
الثاني: أنها علم الله سبحانه باشتمال الفعل على الحكمة والمصلحة، فإذا علم سبحانه باشتمال الفعل على ذلك في وقت خلقه.

والكراهة: هي خلاف الإرادة، وهي بمعناها الحقيقي مستحيلة في حق الله تعالى، وهي علمه سبحانه بإشتمال ذلك الفعل أو الترك على المفسدة، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَيُرِيدُ وَلا يُضْمِرُ، يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ))، وقوله: ((وَمَشِيئتُهُ الإنْفَاذُ لِحُكْمِهِ، وَإرَادَتُهُ الإمْضَاءُ لأُمُورِهِ))، ذكرها في مجموع السيد حميدان.
وفي كتاب الإتقان قال الرازي: جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح، والسرور والغضب، والحياء والمكر، والاستهزاء لها أوائل ولها غايات، مثاله: الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حقِّ الله لا يُحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار.
وكذلك الحياء أوله إنكسار يحصل في النفس، وله غاية وغرض، وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حقِّ الله يحمل على ترك الفعل لا على إنكسار النفس

[بحث في الجهل والتعطيل]
واعلم أن الذين يفسرون ما قدمنا في حق الله سبحانه وتعالى بما تفسر به في المخلوق فقد شبهوا الله تعالى وجهلوا خالقهم وذلك كفر نعوذ بالله منه، والسبب في ذلك هو إعراضهم عن أهل بيت نبيهم صلوات الله عليهم.
ثم اعلم أنَّ التعطيل هو إنكار الصفات رأساً ونفيها عن الباري تعالى.
أما نفي صفات المخلوقين عن الخالق جل وعلا فهو عين التوحيد، وليس بتعطيل كما يقوله الوهابيون.وقد فسروا صفات الله تعالى كلها على حسب ما يعهدون ويشاهدون، فصوروا الله تعالى بصورة المخلوقين، فأثبتوا له وجهاً وعيناً وجنباً ويدين ورجلين، ووصفوه بالصعود والنزول، والمجيء والاستقرار على العرش، والحلول في الغمام والمجيء فيه، وجعلوا كلَّ ذلك ثابتاً له تعالى حقيقة.
فحين ألزموهم بالتشبيه والتجسيم، هربوا من ذلك بقولهم: بلا كيف، مفارقة بزعمهم بين الخالق والمخلوق.
ومذهبهم هذا قد جمع بين التشبيه والتعطيل، وبيان ذلك: أنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبتوه على الحقيقة، فلزمهم التشبيه والتجسيم.
وعطَّلُوا خالقهم عن صفات الإلهية، وذلك معنى قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)).
..

[العدل]
اتفقت الأمة الإسلامية على أنَّ الله سبحانه وتعالى عدل حكيم، لا يظلم مثقال ذرة، وأن أفعاله تعالى كلها حسنة، وأنه لا قبيح في أفعاله، فهذه الجملة لا خلاف فيها، وهناك تفاصيل لهذه الجملة عندها نشأ الخلاف.
فمِّما حصل فيه اختلاف حكم العقل بالحسن والقبح، بمعنى: هل يحكم العقل بمفرده بحسن شيءٍ أو قبحه، نحو حسن العدل أي أنَّ فاعله يستحق المدح والثواب؟، وقبح الظلم أي أنَّ فاعله يستحق الذم والعقاب؟.
فالذي عليه الزيدية وطوائف من المسلمين بأنَّ العقل يستقل بمعرفة ذلك ابتداءاً أي قبل ورود الشرائع.
وقال قوم: إنَّ العقل لا حُكْمَ له ولا يُدْرِكُ ذلك، وإنما جاء التحسين والتقبيح من قِبَلِ الشرائع السماوية، فما ورد الأمر به فهو حسن بسبب الأمر، فالأمر هو الذي حَسَّنَهُ، والقبيح يقبح بسبب النهي، لا دخل للعقل في ذلك الحكم ولا طريق له إلى معرفة شيء من ذلك، فإن حكم العقل بمجرده فلا وثوق بحكمه.

والجواب: أنَّ حكم العقل يحسن نحو العدل، ويقبح نحو الظلم من الضروريات العقلية التي لا تحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بالجوع والعطش والآلام والفرح والسرور، وكالعلم بأني موجود، وماذا هذا حاله فلا يحتاج إلى التدليل، وكثرة القال والقيل، غير أنه لَمَّا صار لأهل هذه المقالة الشاذة كيان وكثرة أتباع دعت الحاجة إلى بيان الحقِّ ونصب الأدلة، كما دعت الحكمة من قبل إلى نصب الأدلة وتوضيح البراهين، لرد مذاهب المشركين الوثنية، ومزاعم السوفسطائية، وهي عند العقل باطلة بضرورته وبديهته.
فإن قلت: وكيف راجت هذه المذاهب عند المشركين وفيهم ذووا العقول الراجحة ولا سيما قريش.
قلت: للمجتمع والنشأة والتربية دور في تربية الخرافات ونموها مع ما يصحب ذلك من التخيلات والتوهمات المدعاة للأوثان، ومن الأمثلة على أن الخيال قد يسيطر على العقل:..

ما يجده بعض من الناس من الخوف من الظلام وإن كان المكان خالياً من أي مخوف، فالعقل يحكم ضرورة بحكمه وهو بطلان الوهم والخيال، والخيال والوهم يحكم بحكمه وهو الأشباح المفجعة والدواهي الموحشة. فإذا ما سيطر الخيال على الإنسان فإن العقل يضيع ويضعف حكمه، هذا مع ما في ذلك من الموافقة لرغبات النفس وميل غريزتها، وتماماً كما قال تعالى: ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ))[النجم:23].
فنقول وبالله التوفيق: الاستدلال هنا بالعقل مصادرة في الظاهر، وبما أن المخالفين لنا في حكم العقل هم من المنتمين إلى القرآن فنكتفي في الاستدلال على بطلان مذهبم به.
قال تعالى: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)) [النحل:90]، ففي هذه الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر ولم ينه إلا بما يتوافق مع الفطرة، ويتمشى مع العقل السليم، فهو يأمر بكذا وكذا ينهى عن كذا وكذا فلأي شيء يهربون من الدين، ويكفي للعلم بأنه حق أن يتذكر الإنسان يراجع عقله، وينظر في الأوامر القرآنية، فما أمرت إلاَّ بما ترغب فيه النفس وتميل إليه الفطرة، ولم ينه إلاَّ عن ما يتفاحش في العقل، وتستنكره الفطرة.

والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم إلاَّ بالمعروف ولم ينههم إلاَّ عن المنكر، فالمعروف والمنكر مرتكزان في الفطرة، ومعلومان عند العقل، فيكفي في صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم إلا بما تعرفه عقولهم، ولم ينههم إلا عن ما تنكره قلوبهم.
فهو إذاً معروف منكر من قبل الأمر والنهي، والمعروف حسن، والمنكر قبيح، قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ () الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران:190-191]، ففي هذه الآية ونحوها دليل على أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار مليء بالآيات، وأن هذه الآيات مجال ومسرح لأهل العقول يتفكرون في آياتها ويعرفون من خلالها حكمة الخلق والتكوين وتنزيه الخالق سبحانه وتعالى عما نسب إليه الجاهلون.

وقال تعالى: ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)) [الغاشية:17]، ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى)) [الواقعة:62]، ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [يس:79]، ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22]، وكان المشركون يسمون نكاح زوجة الأب نكاح المقت: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ)) [فاطر:19-22]. وآية الشورى: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ)) [غافر:58].
ومن قبل الشرائع كانت الأمم تذم الكاذب والخائن والغادر، وتمدح الصادق والأمين والوفي، جاءت بذلك تواريخ الأمم والملوك وأشعار الجاهلية، ومن تتبع اليوم أخبار العالم في الصحف والمجلات أو عبر الأثير وجد تصديق ما قلنا.
هذه دول الشيوعية المنكرة للأديان كالصين والروس ينددون بإسرائيل ويذمونها، ويمدحون داعي السلام والأمن بل ربما يقدمون له الجوائز.

ومما يمكن الاستدلال به قوله تعالى: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) [الشمس:8]، ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد:10]، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)) ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) [الإنسان:3].
والمخالفون لما أنكروا حكم العقل قالوا: لا يقبح من الله قبيح، فلو فعل تعالى كل قبيح تعالى عن ذلك لكان حسناً، لأنه رَبٌّ، وقالوا: إنما قبحت منا القبائح لأنا عبيد مربوبون أو مأمورون ومنهيون، فما قبح من الظلم إلاَّ لورود النهي وكذا الكذب والعبث، وكذا لم يحسن الصدق والوفاء والعدل إلاَّ لورود الأمر بذلك، وقالوا: لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الأفعال أو قبحها ألبتة.
[من مسائل العدل التي حصل فيها اختلاف]
ومنها: اختيار المكلف، وأنه ليس بمضطر، ولا بمجبر على الفعل أو الترك، فهو قادر على الفعل وعلى تركه بقدرة متقدمة ليس بموجبة للمقدور.
وهذه المسألة هي إحدى المسائل الخلافية الكبيرة التي يتفرع عليه لزوماً مسائل عظيمة هي:
تكليف ما لا يطاق، ومن هنا قال الرازي في المحصول: إن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق.
تخليد أهل النار وتعذيبهم بغير ذنب، وهذا عين الظلم، تعالى الله عن ذلك.
إبطال الفائدة في إنزال الكتب، وبعث الرسل، وفي هذا هدم حكمة الحكيم.
قيام الحجة للفاجرين، ودحض حجة أحكم الحاكمين.
الرد والتكذيب لآيات الكتاب الكريم.

5 / 11
ع
En
A+
A-