ومن مجازات القرآن قوله تعالى: ((فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً)) [النمل:13]، إذ لا بصر للآيات، وقوله تعالى: ((قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ)) [الأنعام:104]، وقوله تعالى: ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) [ص: 45]، فمدحهم الله تعالى، والمدح لا يتعلق بالجوارح إنما يتعلق بالصفات.
ومن مجازات القرآن قوله تعالى: ((وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا)) [الطلاق: 8].
[تتمة للبحث في اليد]
وقالت المشبهة: إن لله تعالى يداً تليق بجلاله، زادوا قولهم تليق بجلاله فراراً من التشبيه، ولا مهرب لهم في ذلك ما داموا واصفين ربهم بحقيقة اليد، والقبضة، والأصابع، وهذا عظم اليد وكبرها لا ينفي التشبيه، فإنهم مهما بالغوا في وصف اليد والأصابع حتى جعلوا السموات على إصبع، والأرضين على إصبع إلخ ما جاءوا به من التفصيل، فإنهم لم يخرجوا من التشبيه والتجسيم، وكبر الأصابع زيادة في تحقيق التجسيم، ومبالغة في التشبيه، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
والحق الذي عليه علماء الزيدية في قوله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [97الزمر]، أنها تصوير لقدرة الله تعالى العظيمة تقريباً إلى تفهيم البشر بعض عظمة الله وقدرته التي لا تحيط بها فهمهم، وذلك عن طريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وليس ثمة قبضة، ولا يمين، ولا أصابع، هذا كقولنا: فلان في يد فلان.
أما الأحاديث التي رويت في تفسير قوله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِِ))، فيجب أن تفسر بالتفسير الذي فسرت به الآية القرآنية، وإلا وجب طرحها، وذلك لأنها من الأخبار الآحادية، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، والمطلوب فيما نحن فيه هو العلم.
والذي يدل على صحة هذا التفسير هو ما ثبت من أن الله تعالى ليس بجسم كما قدمنا من بيان الدلالة على ذلك عقلاً وسمعاً كقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)) [الشورى:11]، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، فحين تعذر المعنى الحقيقي فسرنا ذلك بالمعنى المجازي الذي جاء في غاية الحسن وغاية الكمال، في التعبير عن قدرة الله العظيمة، وتصويره لذلك بالصورة المحسوسة تقريباً إلى الفهم البشري القاصر.
[معنى الاستواء والكيف]
قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، بهذه الآية أثبت بعضهم لله تعالى حقيقة الاستواء من غير تكييف، ولا تمثيل بزعمهم، ولهم في ذلك مقولة رووها عن الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونقول: الكيف الذي يذكره المتكلمون على حسب ما فهمته كقول حفيد محمد بن عبد الوهاب: إن له يدين بلا كيف، وعينين بلا كيف، هو الصفة كالطول والقصر والألوان والأشكال والحركة والسكون والقيام والقعود والإضطجاع والكبر والصغر إلخ، فالمعنى بأن له يدين بلا صفة إلخ.
وقولهم: هذا فرار من التجسيم والتشبيه، لأن الكيف من خصائص الأجسام، والتشبيه عندهم كفر، ففروا من الكفر بقولهم: بلا كيف، فلا بد على قولهم هذا من أحد أمرين: التجسيم، والقول بالمحال، لأن حصول حقيقة الإستواء مع عدم الكيف محال بحكم العقل، ومع الكيف تجسيم، ولا يصح الإيمان بالمحال.
وقولهم: الاستواء معلوم، فإن أرادوا اللفظ فلا خلاف في معلوميته، وإن أرادوا معناه الحقيقي فيلزم منه التجسيم والتشبيه، والتشبيه عندهم كفر.
وقولهم: الإيمان به واجب، إن أرادوا حقيقة الاستواء ففاسد، لاستحالة ذلك على الله بحكم العقل، وإن أرادوا ذلك مع عدم الكيف فلا يصح التصديق بالمحال.
وإن أرادوا أنَّا نؤمن به على حسب المعنى الذي أراده الله تعالى، وإن لم نعلمه تفصيلاً، فإن إثباتهم لحقيقة الاستواء ينافي هذا الفرض والتقدير، وهكذا إثبات اليدين، والعينين والوجه بدون الكيف.
فإن كانت بمعانيها الحقيقية لزم اعتقاد المحال لاستحالة المعاني الحقيقة بدون الكيف، ومع الكيف يلزم التجسيم.
نعم، عندنا أن الإيمان بالشيء متفرع على معرفته، فيلزمنا أولاً: أن نعرف ما أريد بهذا اللفظ، هل معناه الحقيقي أو المعنى المجازي، فإذا كان المعنى الحقيقي مستحيلاً فلا يكون جحوده تعطيلاً وكفراً كما يقوله الوهابيون.
[الأعين]
إذا كانت الأعين في قوله تعالى: ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)) [القمر:14]، بالمعنى الحقيقي محالاً، لاستلزامها التجسيم والتشبيه، وكان قولهم: له جل وعلا أعينٌ حقيقة بلا كيف، محالاً بمقتضى العقل والفطرة.
إذاً يتعين المجاز، والقرينة: العقل، والمعنى: بحفظنا وكلائتنا من المجاز المرسل، ويشهد لهذا المعنى: السياقُ، والذوقُ السليم.
أمَّا إذا حملناها على الظاهر اختل المعنى وبطل، وانظر معي في قوله تعالى: ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))، في وصف سفينة نوح عليه السلام إذا حملت على الظاهر كما يقوله الوهابيون أفادت الآية أن لله تعالى أكثر من عينين، وأن السفينة تجري في هذه الأعين، والواقع ليس كذلك، إذ أنها تجري بهم في موج كالجبال، وكذلك قوله تعالى: ((وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)) [هود:37]، الواقع أنَّ نوحاً عليه السلام صنع الفلك على وجه الأرض من الألواح والدُّسُرِ ([5])، ولم يصعد إلى العرش الذي يستقر عليه الرحمن بزعمهم، فيصنعها في عيونه، أَبْعَدَ اللَّهُ الجهلَ إلى أيِّ مدًى يصل بصاحبه، وتعالى ذو العزة والجلال عما يقولون علواً كبيراً.
_________________
([5]) ـ الدِّسار ـ بالكسر ـ واحد الدُّسُرِ، وهي خيوط تشدُّ بها ألواح السفينة، وقيل: هي المسامير، قال الله تعالى ((عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، انتهى من مختار الصحاح، وانظر أيضاً القاموس المحيط.
[حول رؤية الله في الآخرة، وبيان الحقِّ في ذلك]
قد ثبت أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس بجسم، كما تقدم من أنَّه غني عن المكان، لأنه كان الله ولا مكان، فلو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، وقد اتفق المسلمون على أنَّ الله تعالى هو خالق الأمكنة والسموات والأرض والعرش والكرسي والماء، والرؤية لا تصح إلاَّ للجسم وتوابعه من الأعراض.
وقولهم يُرى بلا كيف لا يقبلها العقل، فلا يصح أن يُرى سبحانه يوم القيامة لا في جهة فلا يراه الرائي أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه أو يساره، أو فوقه أو تحته. هذا من المحالات الفطرية التي فطر الله العقول عليها، وقد قال تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103]، وقال تعالى: ((لَن تَرَانِيِ))، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)).
فما ورد مخالفاً في الظاهر لهذه الأدلة القرآنية والعقلية، فيجب تفسيره بما يوافقها، فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه كما قدمنا.
ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ))، عموم أوقات الدنيا والآخرة، أنها وردت في ضمن مدائحَ سردها الله سبحانه وتعالى، قبلها وبعدها، ولا يتمدح الله سبحانه وتعالى إلاَّ بما يختص به جلاله وعظمته، ويخالف به مخلوقاته.
فلو أنه سبحانه وتعالى سيراه المؤمنون يوم القيامة، لما صح ذلك التمدح، ولم يكن مختصاً بتلك الصفة، بل قد يشاركه كثير من المخلوقات المحدثات المدفونة تحت أطباق الثرى، والمحجوبة في غيابات الفضاء، قال تعالى: ((وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [النحل:8]، وقال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِم وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)) [يس:36].
إذاً فلا يتم التمدح إلا إذا كان المعنى على أنه تعالى مفارق لجميع المخلوقات مفارقة ذاتية لا تمكن معها الرؤية، ولا يجوز الإدراك.
فلو قلنا مثلاً: إنه سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وقلنا تعقيباً على ذلك: ولكنه يجوز أن يرى، ويمكن أن تدركه الأبصار، فإنه أيضاً لا يصح التمدح وسرد ذلك بين صفات الإلهية والجلال.
نعم، لما كان معنى قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))، نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق كانت مدحاً، وكان معنى هذا التمدح كمعناه في قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
فلو لم يتضمن ذلك معنى هذا لم يكن مدحاً ولم يكن من صفات الله التي يختص بها.
[شبهة وجوابها حول قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ () إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ]
قوله تعالى ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة:22-23]، تَعَلَّقَ بعضُ طوائف المسلمين بهذه الآية وبمفهوم قوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))، [المطففين:15] وبنحو قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُولِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وبما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر) الحديث.
ونقول: في الجواب تعارضت الأدلة القرآنية في الظاهر، وتناقضت مدلولاتها، ولا يصح ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والنسخ لا يصح هنا في سائر المسائل الإلهية، وكذلك لا يصح تخصيص العام بعد فترة من الزمن، والدليل على هاتين المسألتين النَّسخ والتخصيص.
[امتناع النسخ والتخصيص]
أما الأولى: فلأن صفات الله سبحانه وتعالى لا تتغير، فلا يصح أن يخبرنا ثانياً بأنه قد تغير عن حالته الأولى إلى حالة أخرى، لأن صفاته ذاتيه، فلا يصح أن يخبرنا أولاً أنه لا يُرى، ثم بعد فترة من الزمن يخبرنا أنه سوف يُرى، وكذلك سائر صفات الذات نحو أن يخبرنا أولاً أنه يعلم الغيب ثم بعد فترة ـ على سبيل الفرض ـ يخبرنا أنه لا يعلم الغيب.
أما الثانية: وهي التخصيص بعد فترة من الزمن، فالدليل على أنه لا يجوز في تلك المسائل التي تقدمت أنه نسخ في الحقيقة لبعض ما تناوله العام، فما دام أنه نَسْخٌ فقد أبطلنا النسخ، فبطل هذا.
وزيادة على ما قدمنا، فإن العام قبل مجيء التخصيص مُوْقِعٌ للمكلَّفين في اعتقاد الجهل والخطأ، فهو إذاً تلبيس وتغرير للمكلفين، وذلك لا يقع من الحكيم تعالى، وقد قال تعالى: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا)) [النساء: 87]، ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)) [النساء:122]
، وقال في صفة القرآن: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت:42].
أما التخصيص المتصل فلا مانع، إذ لا تغرير ولا تلبيس.
إذا عرفت ذلك وأن النسخ والتخصيص ممتنع، والترجيح بين القطعيات لا يصح، وإنما هو بين الظنيات، لأنها التي تقبل القوة والضعف ويزيد الظن فيها وينقص، أما القطعيات فلا تقبل ذلك فتدبر.
[نتيجة البحث]
إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أن هناك أصولاً اتفق عليه المسلمون منها قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)). ومن هنا اتفقوا على أن الله تعالى ليس له شبيه ولا مثيل، فهذا الأصل المتفق عليه يرد إليه كل ما اختلف فيه.
فلما رأينا طوائف المسلمين اختلفت في تفسير قوله تعالى: ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)).
فمنهم من قال: إن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة.
ومنهم من قال: إن المعنى إلى ربها منتظرة.
فإن النظر يستعمل لغة بمعنى: الإنتظار، كقوله تعالى: ((فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:35]، وكقوله تعالى: ((لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)) [البقرة:104]، وقوله تعالى: ((انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ)) [الحديد:1].
ومنهم من قال: إن المعنى المراد نظر العين إلى الله تعالى جل جلاله.
ومع الاختلاف فإنما اتفقوا عليه حاكم على ما اختلفوا فيه، وقد قال الله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)), ومعنى أنه أم الكتاب، أنه أصل الكتاب الذي يرد إليه ما اشتبه معناه.
ونحن إذا نظرنا إلى تفاسير الطوائف المختلفة حول هذه الآية، رأينا التفسير الثالث يدل بالالتزام دلالة عقلية واضحة لا شك فيها، أن الله سبحانه وتعالى جسم، لأن الرؤية لا تكون إلا للأجسام وتوابعها من الأعراض.
وقولهم: إن الله سبحانه يُرى بلا كيف، بزيادة بلا كيف، هروب منهم إلى غير مهرب، فإن من لازم الرؤية الكيف، ومحال أن تَرى شيئاً وهو في غير جهة من الجهات، فيلزمهم بالضرورة إما التجسيم أوالقول بالمحال وكلاهما باطل، أما الأول فبالإجماع، وأما الثاني فبضرورة العقل.
أما التفسيران الأولان فلا يلزم منهما ما لزم من التفسير الثالث، بل أكثر ما نقدا به هو أنهما خلاف ظاهر الآية، ولا يجوز التفسير بغير ظاهر المعنى لأنه تحريف، فكان الواجب من أهل التفسيرين أن التفسير بغير الظاهر لا يجوز كما قلتم، ولكن التفسير بالظاهر هنا مناقض لتلك الأصول المتفق عليها، ولا يصح ولا يجوز تناقض القرآن، وضرب بعضه لبعض، وإبطال بعضه ببعض، فعدلنا إلى خلاف الظاهر للضرورة، مع أنا لَم نخرج في تفسيرنا عن لغة القرآن فقد فسرنا النظر بمعنى الإنتظار وهو شائع في اللغة وفي القرآن كقوله تعالى: ((فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:35]، ((انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُم))، ((وَقُولُواْ انظُرْنَا واسمعوا)). بل إن كثيراً مما ورد في القرآن من النظر ومشتقاته بمعنى الإنتظار، وقد روي من شعر حسان قولُهُ:
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ .... إلى الرحمن يأتي بالخلاصِ
وحذف المضاف وإبقاء المضاف إليه غير قليل في اللغة وفي القرآن، وقد وضع له في علم النحو فصل مستقل كما في مغنى اللبيب، وذكره علماء البيان وسموه إيجاز القصر، هذا في باب الإيجاز والإطناب والمساواه، وذكروه ثانياً في باب المجاز، وسموه مجاز الحذف، والقرينة على الحذف عقلية وهي استحالة الرؤية.
ويؤيد ذلك من سياق الآية: أنَّ الله ذكر في الآية التي تليها صفتين للأشقياء فقال: ((وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25))) [القيامة:24-25]. فقابل بين باسرة وناظرة، وعلى ما قلنا قابل أيضاً بين ((تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ))، وبين انتظار الثواب، وعلى قول أهل التفسير الثالث لا يتم التقابل إلاَّ بين الوصفين الأولين، والمناسب لجمال البلاغة هو الأول.
وقوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))، وقوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُولِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) ونحوهما من الآيات.
فسبيلها سبيل ما تقدم فيقدر عن ثواب ربهم يومئذ لمحجوبون، فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه، والملجأ إلى تقدير ذلك استحالة رؤية الله.