الكتاب : نظرات في ملامح المذهب الزيدي وخصائصه المؤلف : السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى |
[اختلاف الأمة وتفرقها]
لا شكَّ في حصول التفرق والاختلاف بين الأمة الاسلامية منذ العصر الأول وإلى اليوم، يستحل بعضهم دماء بعض، ويكفر بعضهم بعضاً، وتماماً كما حكى الله عمن قبلهم من أهل الكتاب ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ)) [البقرة:113]، وكلا التفرق والاختلاف مذموم، لا فرق بين تفرقوا واختلفوا، كما فَرَّقَ بعضُ المتطفلين بجواز الاختلاف دون التفرق، أَوَ لَم يقرأْ هذا المتطفل قوله تعالى: ((وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ)) [البقرة: 253]، ((فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ)) [البقرة:213]،((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَات وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران: 105].
إذاً فالاختلاف والتفرق معصية كبيرة، بدلالة وعيد القرآن، ولا يتسع المقام لتفصيل أدلة ذلك، وإذ قد قامت الدلالة على أن أهل البيت مع الحق والحق معهم، وأنهم طائفة الحق الظاهرة، وأنَّ الاختلاف والتفرق من كبائر العصيان، فإذاً جماعة أهل البيت جماعة الحق، التي لا يجوز التفرق عنها ومخالفتها، والمسلمون جميعاً متفقون جملة، ومختلفون تفصيلاً، مع العلم أنهم معترفون أنَّ هناك طائفة واحدة على الحق، وكلٌّ يَدَّعِي أنَّه تلك الطائفة، ولهم في دعاويهم شبهٌ واهيةٌ مذكورةٌ في كتب الكلام مع الرد عليها، كينابيع النصيحة والأساس وغيرها، غير أن طائفة الزيدية أثبتت دعواها بالأدلة المتكاثرة، والحجج المتظاهرة المتظافرة، مع أنه يكفي لإثبات دعواها حديث الثقلين الذي روته وصححته تلك الطوائف المختلفة.
[مَنْ هم أهل البيت المذكورون في حديث الثَّقَلين]
هم أهل الكساء وما تناسل منهم، بدليل حديث الكساء المروي عند جميع المسلمين، وإن شئت فانظر تخاريجه في شرح الغاية للحسين بن القاسم، وتفاسير القرآن العظيم عند قوله تعالى ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب: 33].([3])
وأيضاً فإنا لم نعلم أحداً من علماء الأمة قديماً وحديثاً ادَّعى أن المراد بحديث الثقلين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألبتة.
______________
([3]) ـ وانظر أيضاً: الشافي للإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام [ط1/ج1/ص 75]، وكتاب الاعتصام بحبل الله المتين للإمام الحجة المنصور بالله القاسم بن محمد عليهما السلام [ج1/ص66]، وكتاب لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى بتأييده [ط1/ج1/ص54، ط2/ج1/ص 87].
[بيان المقصود]
وليس المقصود هنا أن نبين الأدلة الدالة على أن الحق في جانب العترة وشيعتهم وبيان المراد بأهل البيت، بل الغرض بيان مذهب الزيدية في ما وقع فيه الخلاف من أمهات المسائل الأصولية، ليكون المكلف على بصيرة بعقيدته، وعقيدة أئمته وأهل نحلته، ولم نأت بشيء جديد غير أنَّا اخترنا بعض المسائل المهمة التي كثر حولها النزاع، ولم نتعرض لغيرها إلاَّ ما لا بدَّ منه، أو دعت إليه حاجة.
[السبب أو الداعي للتأليف]
والذي دعاني إلى هذا أن المذهب الزيدي وعقائده تتعرض للتشويه والتحريف، ومحاولة الطمس، وذلك من قبل بعض الشباب المؤمن، فاخترت هذه المسائل لطلبة العلم ليوجهوا إليها عنايتهم، فإنها مميزات المذهب وخصائصة التي يتميز بها.
وقد سلكنا أقرب السبل وأسهلها إلى التوضيح، واقتصرنا على الأدلة القريبة الفهم، ليسهل على القاريء تناولها، ولم نستوعب الأدلة وذلك لأنها موضوعة للطلبة الزيديين، وإنما المقصود هو التعريف لهم بمذهبهم والإشارة إلى دليل المسألة. والحمد لله رب العالمين.
[التوحيد]
[الإيمان بالله تعالى]
الإيمانُ بالله هو أول الواجبات المتعلقة بالمكلَّفِ، ولكن الإيمان بالله لا يحصل إلاَّ عن طريق النظر، وتقليب الفكر فيما أُودع في هذا الكون، فيجب حينئذ النظر والتفكر تبعاً لوجوب الإيمان.وقد أرشد الله سبحانه في كتابه إلى طرق التفكير، ووسائل التصديق العقلية، ولا سيما في السور المكية، وبصفة أخص في الجزء الثلاثين ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)) [النبأ]، ((فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)) [عبس:6-31]، ((فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)) [الطارق:5-7]، ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) [الغاشية:17-20]، ((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27- 33]، ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)) [الإنفطار:6-8]، ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى)) [الأعلى:1_5]، ((فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس)) [التكوير:15-18]، ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ)) [الإنشقاق: 16-18]، ((وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)) [الفجر:1-4]، ((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)) [الشمس:1-7]، ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى)) [الليل:1-3]، ((وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)) [الضحى:1-2]، ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)) إلخ.
وفي بعض ما تلونا دعوة إلى النظر في مشاهد هذا الكون، وصيحات تنبه الغافلين، وتوقظ النائمين، استيقظوا، انظروا، تلفتوا، تفكروا، تدبروا أنَّ هنالك إلهاً ومُدَبِّرَاً، إنَّ وراء ذلك قدرة عظيمة، ومدبراً حكيماً، فكأنما كانت هذه الآيات في هذا الجزء يد قوية تهز الغافلين، وتوجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذه الخلائق العجيبة التي تنادي بما وراءها من التدبير والتقدير.
نعم، مركوز في الفطرة أنَّ المسببات مربوطة بأسبابها، وأن الحوادث ناتجة عن فاعلها، ومن هنا قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) [الواقعة:58-59]، ((أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)) [الواقعة:63-64]، ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)) [الواقعة:68-69].
أمَّا وجود الأشياء من غير موجد ألبتة فذلك مرفوض عند العقل، ولا تقبله الفطرة، وعلى هذا أهل الملل بأسرها، وإنما اختلفوا في الذي ترتب عليه الوجود.
فمنهم من قال: طبيعة، ومنهم من قال: عقل، ومنهم من قال: إنه نجم، ومنهم من قال: إنه علة، ومنهم من يقول: إنه فاعل مختار.
أما القائلون بأن العالم قديم لا أول لوجوده فقد انقرضوا ولا وجود لهم، وقد زَيَّفَ فكرتَهُم هذه علمياً علماءُ المادة في هذا القرن، وقولنا: علمياً جَرْيَاً منَّا على اصطلاحٍ جديدٍ عَمَّ البلادَ العربية بعد البلاد الغربية، ولا يقال علمياً في هذا الاصطلاح إلاَّ ما دخل تحت الحس والتجربة.
نعم، هذا الخلق العجيب، والترتيب البديع، والتناسق المحكم، والقانون الدقيق، يدل على أن وراءه قادراً عظيماً، وصانعاً حكيماً، وعليماً خبيراً، لا تخفى عليه خافية.
لنصغ إلى هذه الآيات في تأمل: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [النمل:59-64]، فأي برهان أصدع من هذا البرهان؟!، وأي حجة أبلغ من هذه الحجة؟!، وإذا لم يخضع العقل لهذه الحجة، ويذعن لهذا البرهان، فإنه لا يَخضع لبرهان، ولا يُذْعِنُ لحجة ((وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)) [النور: 40].
[الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم]
ادَّعَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم النبوة، وأنه رسول من عند الله تعالى، وجاء بالقرآن شاهداً على دعواه، ومؤيداً لنبوته قال تعالى: ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة: 23]، فأعرض المكذبون عن هذا المطلب، وعدلوا إلى الحرب، فعدولهم إلى الحرب دليل عجزهم عن الإتيان بسورة من مثله.
نعم، إلى الآن لم يأت أحد بسورة من مثله، وقد مضى من ذلك الحين إلى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً، ولم يظهر شيء من المعارضة، مع بقاء التحدي ووجود المكذبين، فلو كان في مقدور البشر ذلك لحصل في هذه المدة المديدة.