ثم إنا لخير الناس بعده، وأكرمهم أبدا، وأشرفهم حسبا، وأقربهم منه رحما.
واعَجَبا كل العجب لابن الزبير! يعيبُ بني هاشم، وإنما شَرُف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم، أما والله إنه لمسلوب قريش، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب! قيل للبغل: من أبوك يا بغل؟ فقال: خالي الفرس. ثم نزل (1).
خطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالسٌ مع الناس تحت المنبر، فقال: إن هاهنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن مُتعة الناس حلال من الله ورسوله، ويُفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النوى، وكيف ألومُه في ذلك، وقد قاتل أم المؤمنين وحواريَّ رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن وقاه بيده!
فقال ابن عباس لقائده سعد (2) بن جُبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة: استقبل بي وجه ابن الزيبر، وارفع من صدري، وكان ابن عباس قد كف بصره، فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير، وأقام قامته، فحسر عن ذراعيه. ثم قال يابن الزبير:
قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئةٌ نلقاها
نردّ أُولاها على أُخراها ... حتى تَصيرَ حَرَضا دعواها
__________
(1) شرح نهج البلاغة 20/127 - 129.
(2) لعله سعيد.

يابن الزبير، أما العمى فإن الله تعالى يقول: { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } (1).
وأما فُتياي في القملة والنملة، فإن فيها حُكمين لا تعلمها أنت ولا أصحابك.
وأما حَملي المال فإنه كان مالاً جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقيَّةٌ هي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا. وأما المتعة فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بُردي عوسجة.
وأما قتالنا أم المؤمنين فبنا سُميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مده الله عليها، فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا الله ولا محمدا من أنفسِهما أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما.
وأما قتالنا إياكم فإنا لقينا زحفا، فإن كنا كُفارا فقد كفرتم بفراركم منا، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وأيمُ الله لو لا مكان صفية فيكم، ومكان خديجة فينا، لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته.
فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بُردي عوسجة، فقالت: ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم! فإنهم كُعُمُ الجواب إذا بُدِهوا، فقال: بلى: وعصيتُك.
__________
(1) سورة الحج، الآية 46.

فقالت: يا بُني، احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها، فإياك وإياه آخر الدهر.
فقال: أيمنُ بن خريم بن فاتك الأسدي:

يابن الزبير لقد لاقيت بائقة ... من البوائق فالطف لطف مُحتال
لاقيته هاشميا طاب مَنبتُه ... في مغرِسَيه كريم العم والخال
ما زال يقرع عنك العظم مقتدرا ... على الجواب بصوت مُسمع عال
حتى رأيتك مثل الكلب مُنجحرا ... خلفَ الغبيط وكنتَ الباذخ العالي
إن ابن عباس المعروف حكمته ... خيرُ الأنام له حالٌ من الحال
عيّرته المُتعةَ المتبوع سُنتها ... وبالقتال وقد عيّرت بالمال
لما رَمَاك على رسل بأسهمه ... جَرَت عليك بسيف الحال والبال
فاحتزّ مِقوَلك الأعلى بشفرته ... حزًّا وحيًّا بلا قيل ولا قال
واعلم بأنك إن عاودت غيبته ... عادت عليك مخازٍ ذات أذيال (1)

وروى عثمان بن طلحة العبدري، قال: شهدتُ من ابن عباس رحمه الله مشهدا ما سمعته من رجل من قريش، كان يُوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سريرٌ آخر أصغر من سريره، فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل، وتُوضع الوسائد فيما سوى ذلك، فأذن مروان يوماً للناس، وإذا سريرٌ آخر قد أُحدث تجاه سرير مروان، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره،
__________
(1) شرح نهج البلاغة 20/ 128 - 131.

وجاء عبد الله بن الزبير فجلس على السرير المُحدَث، وسكت مروان والقوم، فإذا يدُ ابن الزبير تتحرك فعلم أنه يريد أن ينطق.
ثم نطق فقال: إن ناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطا وفلتة ومغالبة، ألا إن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا، ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أحدٌ أثبتَ إيمانا، ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله! فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر، فلم يكن إلا ما قال، ثم ألقى عمر حظَّهم في حُظوظ، وجدَّهم في جدود، فقسمت تلك الحظوظ، فأخر الله سهمهم، وأدحض جدهم، ووليَ الأمر عليهم من كان أحق به منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجا من القرية، فأصابوا منه غرَّة فقتلوه، ثم قتلهم الله به قِتلة، وصاروا مطرُودين تحت بطون الكواكب.
فقال ابن عباس: على رِسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال أحدٌ منهما شيئا إلا وصاحبنا خيرٌ ممن نالا، وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب عِبناه عليه، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الأهل، ولولا أنك إنما تذكُر حظ غيرك وشرف امرئ سواك لكلمتك، ولكن ما أنت وما لا حظ لك فيه! اقتصر على حظك، ودع تيماً لِتَيم، وعديا لعدي، وأمية لأمية، ولو كلمني تيميٌّ أو عدوي أو أموي لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر، لا خبر غائب عن غائب ولكن ما أنت، وما ليس عليك! فإن يكن في أسد بن عبد العزى شيء فهو لك، أما والله لنحن أقرب بك عهدا،

وأبيض عندك يدا، وأوفر عندك نعمة، ممن أَمسيت تظن أنك تصول به علينا، وما أخلق ثوبُ صفية بعد! { والله المستعان على ما تصفون } (1).
[حصار ابن الزبير لأهل البيت]
جمع عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، في سبعة عشر رجلا من بني هاشم، منهم: الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وحصرهم في شِعب بمكة يُعرف بشعب عارِم، وقال: لا تمضي الجمعة حتى تُبايعوا لي (2) أو أضرب أعناقكم، أو أحرقكم بالنار، ثم نهض إليهم قبل الجمعة يريد إحراقهم بالنار، فالتزمه ابن مسور بن مخرمة الزهري، وناشده الله أن يؤخرهم إلى يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة دعا محمد بن الحنفية بغَسول وثياب بيض، فاغتسل وتلبس وتحنّط، لا يشك في القتل، وقد بعث المختار بن أبي عُبيد من الكوفة أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف، فلما نزلوا ذات عرق، تعجّل منهم سبعون على رواحلهم حتى وافوا مكة صبيحة الجمعة ينادون: يا محمد، يا محمد! وقد شَهروا السلاح حتى وافوا شعب عارم، فاستخلصوا محمد بن الحنفية ومن كان معه، وبعث محمد بن الحنفية الحسن بن الحسن ينادي: من كان يرى أن الله عليه حقا فليشم سيفه، فلا حاجة لي بأمر الناس إن أُعطيتُها عفوا قَبلتُها، وإن كرهوا لم نبتزَّهم أمرهم.
__________
(1) سورة يوسف، الآية 18. شرح نهج البلاغة 20/131 - 132.
(2) في شرح النهج: إلي. وما اثبت أجتهاد.

وفي شعب عارم وحصار ابن الحنفية فيه، يقول كثيرُ بن عبد الرحمن:

ومن يَرَ هذا الشيخ بالخَيف من منىً ... منَ الناس يعلم أنه غيرُ ظالم
سَميّ النبيّ المصطفى وابن عمه ... وحمّالُ أثقالٍ وفكاك غارم
تخبِّر من لاقيتَ أنك عائذٌ ... بل العائذُ المحبوسُ في سجن عارم(1)

ابن الزبير يشرد ابن عباس إلى الطائف
روى المدائني، قال: لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف مر بنعمان، فنزل فصلى ركعتين، ثم رفع يديه يدعو، فقال: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن بلدٌ أحب إلي من أن أعبدك فيه من البلد الحرام، وأنني لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه، وأن [ابن] الزبير أخرجني منه، ليكون الأقوى في سلطانه. اللهم فأوهن كيده، واجعل دائرة السوء عليه.
فلما دنا من الطائف تلقاه أهلها، فقالوا: مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه. أنت والله أحب إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك، هذه منازلنا تخيّرها، فأنزل منها حيث أحببت، فنزل منزلا، فكان يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلم بينهم.
كان يحمد الله ويذكر النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده، ويقول: ذهبوا فلم يَدَعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يُدانيهم، ولكن بقي أقوامٌ يطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود
__________
(1) شرح نهج البلاغة 20/ 123 - 124.

الضأن، تحتها قلوب الذئاب والنمور، ليظن الناس أنهم من الزاهدين في الدنيا، يُراءون الناس بأعمالهم، ويُسخطون الله بسرائرهم، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان، فيولي أمرها خيارها وأبرارها، ويهلك فجارها وأشرارها، ارفعوا أيديكم إلى ربكم وسلوه ذلك، فيفعلون.
فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني أنك تجلس بالطائف العصرين فتُفتيهم بالجهل، تعيب أهل العقل والعلم، وإن حلمي عليك، واستدامتي فيئك جرّءآك عليّ، فاكفف - لا أبا لغيرك - من غربك، واربع على ظلعك، واعقل إن كان لك معقول، وأكرم نفسك فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هوانا، ألم تسمع قول الشاعر:

فنفسك أكرمها فإنك إن تَهُن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مُكرما

وإني أقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبي خشنا، ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا، فَرِ رأيك، فإن أشفى بك شقاؤك على الردى فلا تُلم إلا نفسك.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني كتابك، قلت: إني أفتي الناس بالجهل، وإنما يُفتى بالجهل من لم يعرف من العلم شيئا، وقد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك. وذكرت: أن حلمك عني، واستدامتك فييء جرّآني عليك، ثم قلت: اكفف من غربك، واربع على ظلعك، وضربت لي

الأمثال، أحاديث الضبع، متى رأيتني لعُرامك (1) هائبا، ومن حدّك ناكلا؟!
وقلت: لئن لم تكفف لتجدن جانبي خشنا، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى عليك إن أرعيت! فوالله أنتهي عن قول الحق، وصفة أهل العدل والفضل، وذمِّ الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا. والسلام (2).
لما خرج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن عباس بيده على منكب ابن الزبير، وقال:

يالكِ من قُبَّرةٍ بمعَمرِ ... خلاَ لكِ الجوُّ فبيِضي واصفِري
ونَقِّري ما شِئتِ أن تُنَقِّري ... هذا الحسينُ سائرٌ فأبشرِي

خلا الجوُّ والله لك يابن الزيبر! وسار الحسين إلى العراق، فقال ابن الزبير: يابن عباس، والله ما تَرَون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس.
فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، ونحن في ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك، بماذا تَرُم هذا الأمر؟
قال: بِشرَفي.
__________
(1) العرام: الشراسة والشدة.
(2) شرح نهج البلاغة 20/123 - 126.

قال: وبماذا شَرُفتَ؟ إن كان لك شرَف فإنما هو بنا، فنحن أشرف منك، لأن شرفك منا. وعلت أصواتُهما، فقال غلام من آل الزبير: دعنا منك يابن عباس، فوالله لا تُحبُّوننا يا بني هاشم ولا نُحِبُّكم أبدا، فلَطَمه عبد الله بن الزبير وقال: أتتكلم وأنا حاضر! فقال ابن عباس: لم ضربت الغلامَ، والله أحقُّ بالضرب منه مَن مَزَق ومَرَق، قال: ومن هو؟ قال: أنت.
قال: واعترض بينهما رجالٌ من قريش فأسكتوهما (1).
[مع الشعر والشعراء]
وذات يوما بينما ابن عباس جالس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ما كُفَّ بصره، وحوله ناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطرُ، وعليه مُطرفٌ وجُبَّة وعمامة خز، حتى سلم على القوم، فردوا عليه السلام، فقال: يابن عمَّ رسول الله أفتني؟
فقال عبد الله بن عباس: فيم؟
فقال الأعرابي: أتخاف عليّ جُناحا إن ظلمني رجل فظلمته، وشتمني فشتمته، وقصَّر بي فقصرتُ به؟
فقال عبد الله بن عباس: العفوُ خيرٌ، ومن انتصر فلا جُناح عليه.
فقال الأعرابي: يابن عم رسول الله، أرأيت أمرأً أتاني فوعدني وغرّني ومنّاني، ثم أخلفني واستخفَّ بحُرمتي، أيسعني أن أهجُوه؟
فقال عبد الله بن عباس: لا يصلح الهجاء، لأنه لا بدَّ لك من أن تهجو غيره من عشيرته، فتظلم من لم يظلمك، وتشتم من لم
__________
(1) شرح نهج البلاغة 20/134.

يشتمك، وتبغي على من لم يبغ عليك، والبغيُ مرتعه وخيم، وفي العفو ما قد علمتَ من الفضل.
فقال الأعرابي: صدَقتَ وبَرِرت.
فلم يَنشبْ أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان، فلما رأى الأعرابي أجلّه وأعظمه وألطف في مسألته، وقال: قرَّب الله دارك يا أبا مُليكة.
فقال ابن عباس: أجَروَل؟!
فقال الأعرابي: نعم، جرول، فإذا هو الحطيئة.
فقال ابن عباس: لله أنت، أي مِردَى قِذاف (1)، وذائد عن عشيرة، ومُثن (2) بعارفة تُؤتاها أنت يا أبا مليكة! والله لو كنت عركتَ بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزِّبرقان كان خيراً لك، ولقد ظلمتَ من قومه من لم يظلمك، وشتمت من لم يشتمك.
فقال الحطيئة: إني والله بهم يا أبا العباس لعالم.
فقال عبد الله بن عباس: ما أنت بأعلمَ بهم من غيرك.
فقال الحطيئة: بلى والله! يرحمك الله.
ثم أنشأ يقول:

أنا ابن بحدَتهم عِلما وتجربة ... فَسَل بعد تجدني أعلمَ الناس
سعدُ بن زيدٍ كثيرٌ إن عددتهمُ ... ورأس سعد بن زيد آلُ شمَّاس
والزبرقان ذُنَاباهم وشرَّهمُ ... ليس الذنابى أبا العباس كالرّاس
__________
(1) المردى: يطلق على الرجل الشجاع. فيقال: مردى حروب. والقذاف: البعيد.
(2) المثن: من الثناء.

9 / 21
ع
En
A+
A-