يستفاد من كتب الحديث والسير والتواريخ أن ابن عباس كان قد وضع منهاجا خاصا لدروسه اليومية، وكان يلقي العلوم والمعارف المختلفة في أيام خاصة.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: (( كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفِقْه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، وتأويل. وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ... ولا أفقه في رأي منه، ولا أثقب راياً فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب.
ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما )) (1).
وكان ابن عباس يبدأ في مجلسه بالقرآن، ثم بالتفسير، ثم بالحديث (2). وكان يقول: الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يَهذي بالشعر (3).
وكان مهتماً أشد الاهتمام بأمر القرآن والتفسير والحديث، ويحث الآخرين عليه، حتى أنه رُوي عن عكرمة - مولى ابن
__________
(1) أسد الغابة 3/193.
(2) مقدمتان في علوم القرآن /262.
(3) مقدمتان في علوم القرآن /262، بحار الأنوار 19/27.

عباس - أنه قال: (( كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل، ويعلمني القرآن والسنن )) (1).
وإذا رأى ابن عباس شخصا له رأي صحيح في تفسير القرآن يشجعه ويكرمه:
بَيَّن عكرمة لابن عباس بعض ما أشكل عليه من القرآن، قال ابن حجر: رَوَى داود بن أبي هند عن عكرمة، قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: { لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا ... } (2) ... وقال: ما أدري ما فُعِل بهم... وقال عكرمة: قلت لابن عباس - لما قال: ما أدري ما فعل بهم -: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، فقالوا: { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم }، فلم أزل به حتى عَرَّفتُه أنهم قد نجوا، فكساني حلة (3).
وفي رواية أخرى: (( من طريق ابن جريح عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس - والمصحف في حجره وهو يبكي - فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟
فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في سورة الأعراف.
قال: تعرف أيلة؟
__________
(1) الإتقان 2/241، الطبقات الكبرى 2/386، 5/287.
(2) سورة الأعراف، الآية 64.
(3) جامع البيان 9/64، الطبقات الكبرى 5/287، 288، الجامع لأحكام القرآن 7/307.

قلت: نعم.
قال: فإنه كان بها حيّ من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كدّ ومؤنة شديدة. كانت تأتيهم يوم السبت شرعاًَ بيضاً سماناً كأنها الماخض، تتبطحُ ظهورَها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر.
ثم إن الشيطان أوحى إليهم، فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام، فقالت ذلك طائفة منهم.
وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت، وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحّت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت.
وقال الأيْمَنُون: (( الله ينهاكم عن أن تعترضوا لعقوبة الله )).
وقال الأيْسَرُون: { لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذابا شديدا }؟ قال الأيمنون: (( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون )). أي: ينتهون، فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم، فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم يا أعداء الله، والله لا نُبَايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب، ونادوا فلم يجابوا، فوضعوا سُلماً وأعلوا سور المدينة رجلاً فالتفت إليهم، فقال: أي عبادَ الله، قردة والله تعاوي لها أذناب! قال: ففتحوا فدخلوا عليهم،

فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود نسيبها من الإنس فتشمّ ثيابه وتبكي وتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم.
ثم قرأ ابن عباس: { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون }(1).
قال: فأرى اليهود الذين نَهَوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، ونحن نرى أشياءً ننكرها فلا نقول فيها، قال: قلت: إن جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم }؟ قال: فأمَرَ بي، فكسيتُ بُرديِن غليظين )) (2).
ونجح ابن عباس في تفسير القرآن حتى استطاع أن يفسر القرآن كله آية آية، ولأجل هذا يقول عنه صاحب المباني: (( وهذا عبد الله بن عباس لم يدع آية في القرآن إلا وقد ذكر في تفسيرها على ما روت منه الرواة، ولذلك قيل: (( ابن عباس، ترجمان القرآن ))، واستطاع أيضا أن يملي تفسيره على تلامذته ليُدَوَّن، روي عن ابن أبي مليكة، قال رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس في تفسير القرآن، ومعه
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 165.
(2) جامع البيان 9/64 - 65.

ألواحه. قال: فيقول له ابن عباس: اكتبه حتى سأله عن التفسير كله (1).
الشعر العربي القديم
قال محمد حسين الذهبي: (( كان ابن عباس رضي الله عنه يرجع في فهم الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن إلى الشعر الجاهلي، وكان غيره من الصحابة قد يسلك هذا الطريق في فهم غريب القرآن، ويحضُّ على الرجوع إلى الشعر العربي القديم، ليستعان به على الألفاظ القرآنية الغريبة )).
فهذا عمر بن الخطاب يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى في الآية (47) من سورة النحل: { أو يأخذهم على تخوف }، كما قال سعيد بن مسيب: بينما عمر بن الخطاب على المنبر، قال: أيها الناس! ما تقولون في قول الله عز وجل: { أو يأخذهم على تخوف }، فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا... التخوف: التنقص. فخرج رجل فقال: ما فعل دَيْنك؟ قال: تخوفته، أي: تنقصته (2)، فرجع فأخبر عمر، فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال: نعم. قال شاعرنا أبو كبير الهُذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكن واكتنازة:

تخوّف الرحل منا تامِكاً قَرِدا
__________
(1) مقدمتان في علوم القرآن /193.
(2) التفسير والمفسرون 1/74.

... كما تخوّف عُود النبعة السَّفن (1)

والروايات في هذا الشأت - أي الاستشهاد والاستعانة بالشعر القديم في فهم معاني الألفاظ الغريبة من القرآن - كثيرة:
روى ابن عباس - نفسه -: (( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أي علم القرآن أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عربيته فالتمسوها في الشعر )) (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن من الشعر لحكمة، فإذا ألتبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه عربي )) (3).
ويذكر الطبري: أن ابن عباس قال تبعاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقاله: (( وإذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي )) (4).
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: (( إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب )) (5).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 10/110، التفسير الكبير للرازي 20/39، الكشاف 2/608 - 609، روح المعاني 14/152.
(2) مقدمتان في علوم القرآن /261.
(3) لسان العرب 2/233 - 234.
(4) جامع البيان 17/129.
(5) البرهان في علوم القرآن 1/293، الإتقان 2/67.

وقال ابن عباس أيضا: (( الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزل بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه )) (1).
وقد روي عن ابن عباس كثيراً من ذلك. عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر (2).
ونقل العلماء والمحدثون والمفسرن وقائع كثيرة استشهد فيها ابن عباس بالشعر القديم والعريق في العربية، وهذه الوقائع غير المسائل التي سألها نافع بن الأزرق وأجاب ابن عباس عنها.
ونحن نذكر من تلك الوقائع نموذجاً: روى طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: سمعت ابن عباس إذا سئل عن عَرَبية القرآن أنشد الشعر، فقيل له: ما { زنيم } (3)؟ فقال:

زنيمٌ تداعَاهُ الرجالُ زيادةً
كما زيدَ في عرض الأديم الأكارعُ

وعن ابن مليكة قال: سُئل ابن عباس عن { الليل وما وسق }(4)؟ فقال: وما جمع، ألم تسمع قول الشاعر:

إن لنا قلائِصاً حَقائقاً
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1/293، الإتقان 2/67.
(2) الإتقان 2/67.
(3) سورة ن، الآية 13، وسورة القلم، الآية 13.
(4) سورة الإنشقاق، الآية 17.

... مُستَوسِقاتٍ لو يَجِدنَ سائقا (1)

[ابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص]
أخرج ابن الزبير بن بكار في الموقفيات، عن ابن عباس أن معاوية قال: يا بني هاشم إنكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما استحقيتم النبوة، ولا يجتمعان لأحد، وتزعمون أن لكم ملكا.
فقال له ابن عباس: أما قولك: إنا نستحق الخلافة بالنبوة، فإن لم نستحقها بالنبوة فبم نستحقها ؟!
وأما قولك: إن النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله: { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } (2)؟ فالكتاب النبوة، والحكمة السنة، والملك الخلافة، نحن آل إبراهيم أمر الله فينا وفيهم واحد، والسنة لنا ولهم جارية.
وأما قولك: زعمنا لنا ملكا، فالزعم في كتاب الله شك، وكل يشهد أن لنا ملكا لا تملكون يوما إلا ملكنا يومين، ولا شهراً إلا ملكنا شهرين، لوا حولا إلا ملكنا حولين (3).
__________
(1) البرهان للزركشي 1/293. والبيت للعجاج، انظر ديوانه: 84.
(2) سورة النساء، الآية 54.
(3) الدر المنثور 2/568 عند تفسير قوله تعالى: { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [النساء:54].

معاوية يشمت بموت الحسن
قال معاوية لابن عباس: مات الحسن بن علي. ليبكّته بذلك، قال: فقال: لئن كان مات فإنه لا يسدّ بجسده حفرتك، ولا يزيد موته في عمرك، ولقد أصبنا بمن هو أشد علينا فقداً منه، فجبر الله مصيبتنا (1).
__________
(1) رواه في الحديث: (183) من ترجمة الإمام الحسن من الطبقات الكبرى /8 وقال قبله:
قال محمد بن عمر: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال:
لما جاء معاوية نعي الحسن بن علي استأذن ابن عباس على معاوية، وكان ابن عباس قد ذهب بصره فكان يقول لقائده: إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني، فإن معاوية يشمت بي. فلما جلس ابن عباس قال معاوية: لأخبرنَّه بما هو أشد عليه من أن أشمت به. فلما دخل قال: يا أبا العباس هلك الحسن بن علي. فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون. وعرف أنه شامت به فقال: أما والله يا معاوية لا يسد حفرتك، ولا تخلد بعده، ولقد أصبنا بأعظم منه فجبرنا الله بعده.
ورواه أيضا اليعقوبي في تاريخه 2/214، قال: وتوفي الحسن بن علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس إن حسناً قد مات. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن قد مات فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير، وبقيت على شر. قال [معاوية]: لا أحسبه قد خلّف إلا صبية صغاراً. قال [ابن عباس]: كلنا كان صغيراً فكبر. قال: بخٍ بخٍ يا ابن عباس أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وآله فلا.

عمرو بن العاص يتنقص عبد الله بن جعفر
حضر مجلس معاوية عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وعمرو بن العاص، فأقبل عبد الله بن جعفر، فلما نظر إليه عمرو بن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمنّي، والطربات بالتغني، مُحب للقيان، كثير مزاحه، شديد طِماحُه، صدوفٌ عن السِّنان (1)، ظاهر الطيش، ليّن العيش، أخّاذ بالسَّلف، منفاق بالسَّرف.
فقال ابن عباس: كذبت والله أنت وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنَعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، ماجد لهِميْم (2)، إن ابتدأ أصاب، وإن سُئل أجاب، غير حصر، ولا هيّاب، ولا فحّاش عيّاب، حل من قريش من كريم النصاب، كالهِزَبر (3) الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام (4)، ليس يدعى لدعيّ، ولا يدنى لدني، كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب عليه جزّارها، فأصبح ألأمها حَسَبا، وأدناها منصباً، ينوء منها
__________
(1) الصدوف: المعرض عن الشيء. والسنان: فصل الرمح.
(2) اللهميم: السابق الجواد من الخيل والناس.
(3) الهزبر: الأسد، والغليظ الضخم، والشديد الصلب. والجمع: هزابر.
(4) القمقام من الرجال: السيد الكثير الخير، الواسع الفضل.

6 / 21
ع
En
A+
A-