فيمن يَرَون هذه الآية نزلت: { أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ... }(1)؟ قالوا: الله أعلم.
فغضب عمر. فقال: قُلوا: نعلم أو لا نعلم.
فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء.
فقال: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نَفسَك.
قال ابن عباس: ضُربَت مثلاً لعمل.
فقال عمر: أي عمل؟
قال ابن عباس: لرجل يعمل بطاعة الله، ثم بعث له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله )) (2).
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القُرَظي، عن ابن عباس: أن ابن عباس جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر. فتكلم كلٌّ بما عنده، فقال عمر مَالَكَ يا ابن عباس صامت لا تتكلم ؟! تكلم ولا تمنعك الحداثة.
قال ابن عباس: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله وترٌ يحبّ الوتر:
? فجعل أيام الدنيا تدور على سبع.
? وخلق الإنسان من سبع.
? وخلق أرازاقنا من سبع.
? وخلق فوقنا سماوات سبعاً.
?
__________
(1) سورة البقرة، الآية 266.
(2) جامع البيان 3/47، الإتقان 4/236.

وخلق تحتنا أرضين سبعاً.
? وأعطى من المثاني سبعاً.
? ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين سبعاً.
? وقسم الميراث في كتابه على سبع.
? ونَقَعُ في السجود من أجسادنا على سبع.
? وطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكعبة سبعاً.
? وبَينَ الصفا والمروة سبعاً.
? ورمى الجمار بسبع.
? فأراها - أي ليلة القدر - في السبع الأواخر من شهر رمضان. فتعجب عمر، فقال: ما وافقني فيها أحدٌ إلا هذا الغلام الذي لو تَستَوِرشئون رأسه. ثم قال: يا هؤلاء! من يؤديني في هذا كابن عباس )) (1).
وكان ابن عباس كما دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآراء الصحابة ومن بعدهم تؤيد إجابة الله تعالى هذا الدعاء له.
__________
(1) الإتقان 4/236.

عن طاووس، قال: (( أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء - فخالفوا ابن عباس - لا يقومون حتى يقولوا هو كما قلت أو صدقت )) (1).
وقد ظهر النبوغ فيه من جميع الجهات: من قوة الحافظة، والفصاحة، والكلام الجامع، والتأثير في المخاطبين، وشجاعته في بيان الحق دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد، وهو يُلحُّ فيما يرى مع قدم راسخ وبالٍ مطمئن.
عن النعمان أن حسان بن ثابت قال: كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة، فطلبناها إليه لجماعة من الصحابة، منهم ابن عباس - وكانت حاجة صعبةً شديدة - فاعتل علينا، فراجعوه إلى أن عذروه، وقاموا إلا ابن عباس، فلم يزل يراجعه بكلام جامع حتى سد عليه كل حاجة، فلم يَرَ بُدّاً من أن يقضي حاجتنا. فخرجنا من عنده وأنا آخذ بيد ابن عباس، فمررنا على أولئك الذين كانوا عذروا أو ضعفوا. فقلت: كان عبد الله أولاكم به؟ قالوا: أجل. فقلت: أمدحه:

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
بلُفَيظات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع
لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا (2)
__________
(1) الإصابة 2/333.
(2) الإصابة 2/330.

وبالجملة لما كان ابن عباس يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا من نفحة الله بنفحة من روحه ظهر في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الذي (( ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ))، كما وصفه علي بن أبي طالب عليه السلام. وهذا الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره. ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين. فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس، واستقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجاباً وتقديراً إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى آخر.
وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير (1). كما يذكر ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة - مولى ابن عباس - وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وغيرهم (2).
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 2/172، التفسير والمفسرون 1/70.
(2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية/ 54.

[ألقاب ابن عباس]
اشتهر ابن عباس منذ صدر الإسلام بألقاب علمية، ثم ازدادت هذه الألقاب بين المسلمين بمرور الزمن مع بروز أهميته في التفسير.
ونحن نذكر هذه الألقاب باختصار مع ذكر المصادر التاريخية:
1ـ ترجمان القرآن
الأحاديث والروايات التاريخية بشأن نسبة هذ اللقب العلمي لابن عباس كثيرة، والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أول من تَوَّجَه بهذا اللقب، ثم اشتهر به على لسان الآخرين. وذكرنا من قبل: أن مجاهداً كان يقول: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: (( نِعم ترجمان القرآن أنت )) (1).
وقال ابن مسعود - كما مر - بشأنه: (( نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس )) (2).
2ـ فارس القرآن
رأينا في الحديث النبوي - الذي مر ذكره - أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( ... ولكل شيء فارس، وفارس القرآن ابن عباس )) (3).
__________
(1) الطبقات الكبرى 2/366، الإتقان 4/234.
(2) الإتقان 4/234، الإصابة 2/331.
(3) سفينة البحار 1/150.

3ـ حبر هذه الأمة (أو) حبر الأمة
قد مر في ثنايا مقالنا: أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن ابن عباس: (( إنه كائن حبر هذه الأمة فاستوص به خيراً )) (1). وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفراً من أصحابه ... ثم قال: (( وحبر هذه الأمة ابن عباس ))(2).
ويروى عن مجاهد أنه قال: (( وحبر هذه الأمة ابن عباس )) (3). فلذلك مدحه معاصره عبيد الله بن قيس الرقيات في قصيدة له بأنه (( حبر ))، قال:

وأبو الفضل وابنه الحبر عبد الـ
ـله إن عيّ بالريّ الفقهاء (4)

4ـ حبر العرب
ورأينا في حديث التقاء سعيد بن جبير رجلاً يهودياً في الكوفة، أنه قال لليهودي: (( ... وأنا الآن قادم على حبر العرب )) - يعني ابن عباس - فسائله ...)) (5).
__________
(1) الإتقان 4/234.
(2) مقدمة المباني، انظر: مقدمتان في علوم القرآن/ 57.
(3) الإتقان 4/235.
(4) ديوانه: 97.
(5) جامع البيان 20/43.

5ـ بحر هذه الأمة
أخرج أبو نعيم عن مجاهد: (( وكان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه )) (1).
6ـ رئيس المفسرين
ويَصِفُ أبو الخير ابن عباس في (( طبقات المفسرين )) هكذا: (( فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ورئيس المفسرين )) (2).
7ـ شيخ المفسرين
يذكر أحمد مصطفى المراغي عن ابن عباس بأنه: (( ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وشيخ المفسرين )) (3).
8ـ الأب الأول لتفسير القرآن
يذكر جولدزيهر ابن عباس بهذا اللقب وهذه السمة (4)، لأنه يرى ابن عباس مؤسساً لتفسير القرآن بمفهومه الإصطلاحي.
9ـ رباني هذه الأمة
قال الزبير بن بكار: حدثت عن عمرو بن دينار قال: لما مات عبد الله ابن عباس، قال: (( مات رباني هذه الأمة )) (5).
__________
(1) شذرات الذهب 1/76، الإتقان 4/235، الإصابة 2/333.
(2) نقلا عن تأسيس الشيعة/ 322.
(3) تفسير المراغي 1/6.
(4) مذاهب التفسير الإسلامي /89.
(5) الإصابة 2/334.

تنوع معلوماته
لم يسبغ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بعده على ابن عباس تلك الألقاب جزافاً، بل إن هذه الألقاب تعبّر عن كفاءة هذا الرجل الذي تتلمذ على يد صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم، ثم على يد أعلم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - أعني - أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وإضافة إلى سعة إطلاع ابن عباس في العلم، تذكر المصادر الإسلامية أيضاً تنوع معلوماته وتفننه في معارف عصره.
قال عطاء بن أبي رباح المكي: (( ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقهاً وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم في واد واسع )) (1).
وقال الأعمش أيضا: (( كان ابن عباس إذا رأيته قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، فإذا حدث قلت: أعلم الناس )) (2).
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: (( ما رأيت أحداً أعلم بالسنة، ولا أجلد رأيا، ولا أثقب نظرا - حين ينظر - من ابن عباس )) (3).
وعن كتاب (( الموفقيات )) في حديث طويل في ذكر قدوم ابن عباس على معاوية، قال: فصلى ابن عباس في الجامع يوم الجمعة واجتمع
__________
(1) شذرات الذهب 1/76، الإصابة 2/333.
(2) شذرات الذهب 1/76، الإصابة 2/333.
(3) شذرات الذهب 1/75.

الناس عليه يسألونه عن: (( الحلال والحرام، والفقه، والتفسير، واحوال الإسلام، والجاهلية )) وافتقد معاوية الناس؟ فقيل: إنهم مشغولون بابن عباس، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل، فطلبه معاوية وأقسم عليه أن يدخل بيت المال ويأخذ حاجته - وإنما أراد معاوية أن يُعرِّف أهل الشام ميلَ ابن عباس إلى الدنيا فعرف ما يريده - فقال: إن ذلك ليس لي ولا لك، فإن أذنت أن أعطي كل ذي حق حقه فعلت. قال: أقسمت عليك إلا دخلت فأخذت حاجتك، فدخل، فأخذ برنسا أحمر كان لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثم خرج (1).
ويقول عبد الحي الحنبلي: (( ... وكان ابن عباس جميلاً نبيلاً، مجلسه مشحوناً بالطلبة في أنواع العلوم. قال بعضهم: حج معاوية وابن عباس. فكان لمعاوية موكب بالولاية، ولابن عباس بالرواية والدراية )) (2).
ويذكر فؤاد سزكين بهذا الصدد كلاماً لدعم هذه الحقيقة والاستدلال عليها، حيث يقول: (( وتربط قضية مدى إتقانه للمجالات التي ينسب إليه علمه بها (وهي الفقه الإسلامي، وتاريخ الجاهلية وآثارها، واللغة، والشعر) - وإنه عني بها تدريسا وبحثا - ارتباطا وثيقا بقضايا أخرى تتصل بالتراث العربي والإسلامي:
? منها: قضية وجود تراث عربي مدون في الجاهلية.
?
__________
(1) سفينة البحار 2/151.
(2) شذرات الذهب1/75.

ومنها: قضية اشتغال بعض شباب الصحابة وكبار التابعين بمسائل علمية.
? ومنها: قضية ما إذا كان التطور العام لحركة التأليف بالعربية يسير مع هذا النشاط العلمي المبكر على قدم واحد.
... فإن الشك في اشتغال عبد الله بن العباس بمجالات العلم المختلفة ليس له ما يبرّره )) (1).
... ولذلك لم يكن له دور كبير في السياسة أو الجيش، غير أنه صحب جيش الفتح الإسلامي إلى مصر وشمال أفريقية وجرجان وطبرستان والقسطنطنية. وكان والياً على البصرة في خلافة علي بن أبي طالب سنة (39هـ)، ولكنه ترك البصرة بعد عام واحد، وعاد إلى الطائف بعيداً عن الحياة السياسية متفرغاً للعلم. ومن أجل هذا تعد الروايات الإسلامية ابن عباس أول المفسرين، وبالتالي رائد الدراسات اللغوية للنصوص العربية(2) ووصف بأنه (( ترجمان القرآن )) (3).
أما منهجه الخاص لدروسه اليومية
__________
(1) تاريخ التراث العربي، المجلد الأول 1/64.
(2) تاريخ التراث العربي، المجلد الأول 1/63.
(3) طبقات ابن سعد 2/120.

5 / 21
ع
En
A+
A-