... والميتون فضيحة للغابر (1)

[مع الخوارج]
الخوارج يحكمون أبا موسى الأشعري
قال نصر بن مزاحم: قال الناس: قد رضينا بحكم القرآن.
فقال أهل الشام: فإنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص.
وقال الأشعث والقُرّاءُ الذين صاروا خوارجَ فيما بعد: فإنا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري.
فقال لهم عليّ: إني لا أرضى بأبي موسى، ولا أرى أن أُوَلِّيَه.
فقال الأشعث، وزيد بن حُصين، ومسعر بن فدكى، في عصابة من القراء: إنا لا نرضى إلا به، فإنه قد حذَّرنا ما وقعنا فيه.
__________
(1) مناقب ابن المغازلي /394(448)، والجويني أيضا بسند آخر برقم (240) في الباب (56) من فرائد السمطين، والخوارزمي بسند آخر في الفصل (14) من مناقب الخوارزمي 2/81. ورواه الصدوق أيضا في الحديث 2 من المجلس (21) من أماليه، ورواه في آخر ترجمة أمير المؤمنين من مروج الذهب 3/324.
وأخرجه أيضا الحافظ الكنجي في كفاية الطالب /82 الباب (10) بالإسناد إلى القاضي أبى عمر الهاشمي بعين السند واللفظ، وأخرجه المحب الطبري في الرياض النضرة 2/166 من طريق الملأ في سيرته، وهكذا أخرجه أخطب خوارزم في المناقب/ 81، والعلامة الزرندي في نظم درر السمطين /105.
وأخرجه المرشد بالله في الأمالي/ 136، وابن عساكر في ترجمة الإمام علي عليه السلام ( تاريخ ابن عساكر ) 3/319 - 320 (1358).

قال عليّ: فإنه ليس لي برضىً، وقد فارقني وخذَّل الناس عني، ثم هرب، حتى أمّنته بعد أشهر. ولكن هذا ابن عباس أُولِّيه ذلك. قالوا: والله ما نبالي، أكنت أنت أو ابن عباس، ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواءٌ، وليس إلى واحدٍ منكما بأدنى من الآخر. قال علي: فإني أجعل الأشتر.
قال الأشعث: وهل سعَّر الأرضَ علينا غيرُ الأشتر، وهل نحنُ إلا في حكم الأشتر. قال له عليّ: وما حكمه؟
قال: حكمه أن يضرب بعضُنا بعضا بالسيوف حتى يكونَ ما أردتَ وما أراد.
وعن أبي جعفر محمد بن علي [الباقر] قال: لما أراد الناس عليا على أن يضعَ حكمين قال لهم عليّ: إن معاوية لم يكن ليضع هذا الأمر أحداً هو أوثقُ برأيه ونظره من عمرو بن العاص، وإنه لا يصلح للقرشيِّ إلا مثله، فعليكم بعبدالله بن عباس فارموه به، فإن عمراً لا يعقد عُقدةً إلا حلَّها عبد الله، ولا يحُلُّ عقدةً إلا عقَدها، ولا يُبرم أمراً إلا نقضه، ولا ينقض أمراً إلا أبرمَه.
قال الأشعث: لا والله لا يحكم فيهم مُضريَّان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعلهُ رجلاً من أهل اليمن، إذ جعلوا رجلا من مضر.
فقال علي: إني أخاف أن يُخدعَ يَمَنيُّكم، فإن عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في أمرٍ هوًى.

فقال الأشعث: والله لأن يحكُما ببعض ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن، أحبُّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبُّ في حكمهما وهما مضريّان (1).
لقاء الحكمين
في سنة ثمان وثلاثين كان التقاء الحكمين بدومة الجندل، وقيل: بغيرها، وبعث عليّ بعبد الله بن العباس، وشريح ابن هانئ الهمداني، في أربعمائة رجل فيهم أبو موسى الأشعري، وبعث معاوية بعمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن السمط في أربعمائة، فلما تَدَانى القوم من الموضع الذي كان فيه الاجتماع، قال ابن عباس لأبي موسى: إن علياً لم يرض بك حكما لفضلٍ عندك والمتقدمون عليك كثير، وإن الناس أبَوْا غيرك، وإني لأظن ذلك لشر يُرَاد بهم، وقد ضم داهية العرب معك، إن نسيتَ فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وليس في علي خصلة تتباعده من الخلافة، وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة (2).
ثم إن عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدِّم عبد الله بن قيس في الكلام ويقول: إنك قد صحبت رسول الله صلى الله عليه قبلي وأنت أكبر مني فتكلم ثم أتككلم. وكان عمرو
__________
(1) وقعة صفين /499 - 500.
(2) مروج الذهب 2/406.

قد عوّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء وإنما اغترّه بذلك ليقدمه فيبدأ بخلع علي (1).
قال عمر: يا أبا موسى، وما أريك؟
قال: رأيي أن أخلع هذين الرجُلين، ثم يختار الناس لأنفسهم من أحبوا.
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يُصلح الله به أمر هذه الأمة.
قال عمرو: صدق! ثم قال: يا أبا موسى فتكلَّمْ.
فتقدَّم أبو موسى ليتكلَّم فدعاه ابن عباس فقال: ويحك، إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدِّمه قبلك فيتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجلٌ غدار، ولا آمنُ أن يكون قد أعطاك الرِّضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك.
وكان أبو موسى رجلا مغفَّلا فقال: إيهاً عنك، إنا قد اتفقنا.
فتقدَّم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنا قد نطرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها وألمُّ لشعثها من ألا تتباين أمورها. وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي عمرو على خلع علي ومعاوية، وأن نستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين،
__________
(1) موقعة صفين /544.

فيولون أمورهم من أحبوا. وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولُّوا من رأيتم لها أهلاً. ثم تنحَّى فقعد.
وقام عمرو بن العاص مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية في الخلافة، فإنه وليُّ عثمان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.
فقال له أبو موسى: مالك لا وفَّقك الله، قد غدرت وفجرت. وإمنا مثلك مثل الكلب { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث }.
قال: فقال له عمرو: إنما مثلك مثل { الحمار يحمل أسفارا }.
فكان ابن عباس يقول: قَبَح الله أبا موسى، حذَّرته وأمرتُه بالرأي فما عَقَل.
وكان أبو موسى يقول: قد حذَّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكن اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصيحة الأمة (1).
قال عمرو بن العاص حين خَدَع أبا موسى:

خَدَعت أبا موسى خديعةَ شيظم ... يُخادع سَقباً في فلاةٍ من الأرض
فقلتُ له إنا كرهنا كليهما ... فنخلعهُما قبل التَّلاتل والدَّحض
فإنهما(2)لا يُغضيان على قذًى ... من الدهر حتى يفصلان على أمض(3)
__________
(1) وقعة صفين /545 - 546.
(2) في وقعة صفين: فإنها. وما أثبت اجتهاد.
(3) الأمض: الباطل والشك.

فطاوَعَني حتى خلعتُ أخاهم ... وصارَ أخونا مستقيما لدى القبض
وإن ابن حرب غير معطيهم الوَلا ... ولا الهاشمي الدهر أَو بربع الحمض

فرد عليه ابن عباس فقال:

كذبتَ ولكن مثلُك اليوم فاسق ... على أَمركم يبغي لنا الشَّرَّ والعزلا
وتزعُم أن الأمر منك خديعةٌ ... إليه وكلَّ القول في شأنكم فضلا
فأنتم وربِّ البيت قد صار دينكم ... خِلافاً لدين المصطفى الطيب العدلا
أعاديتُمُ حِبَّ النبي ونفسهُ ... فما لكم من سابقاتٍ ولا فَضلا
وأنتم وربِّ اليت أَخبثُ من مشى ... على الأرض ذا نعلين أو حافيا رجلا
غدرتم وكان الغدرُ منكم سجيّة ... كأن لم يكن حرثا وأن لم يكن نسلا (1)

ابن عباس يناظر الخوارج
حدثني ابن عباس، قال: لما اجتمعت الخوارج في دارها وهم ستة آلاف أو نحوها قلت لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي ألقى هؤلاء القوم. فقال: إني أخافهم عليك. قال: فقلت: كلا. قال: ثم لبس حلتين من أحسن الحلل - قال: وكان ابن عباس جميلا جهيرا - قال: فأتيت القوم، فلما نظروا إليّ قالوا: مرحبا مرحبا بابن عباس، فما هذه الحلة؟
__________
(1) وقعة صفين /550.

قال: قلت: وما تنكرون من ذلك؟ لقد رأيت على رسول الله حلة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } (1).
قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عند المهاجرين والأنصار ولا أرى فيكم أحداً منهم لأبلغكم ما قالوا، وأبلغهم ما تقولون، فما تنقمون من عليّ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره؟! قال: فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: لا تكلموه فإن الله يقول: { بل هم قوم خصمون } (2).
وقال بعضهم: وما يمنعنا من كلامه وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعونا إلى كتاب الله؟!! قال: قالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثا. قال: قلت: وما هن؟ قالوا: أما إحداهن فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وما للرجال ولحكم الله؟!.
وأما الثانية فإنه قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم، فإن كان الذي قاتل قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإن لم يكن حل سبيهم ما حل قتالهم.
قالوا: وأما الثالثة فإنه محا اسمه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير المشركين!!!
قال: قلت لهم: هل غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قال: قلت لهم: أرأيتم إن خرجت إليكم من هذا من كتاب الله وسنة رسول الله
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 7.
(2) سورة الزخرف، الآية 43.

أراجعون أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا؟ قال: قلت: أما قولكم: إنه حكَّم الرجال في أمر الله وما للرجال ولحكم الله. فإني سمعت الله يقول في كتابه: { يحكم به ذوا عدل منكم }(1) في ثمن صيد أرنب أو نحوه يكون قيمته ربع درهم، فوَّض الله الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم. وقال: { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما }(2) أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم. فإنه قاتلَ أُمكم وقال الله: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم }(3)، فإن زعمتم أنها ليس بأمكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباؤها؟! فأنتم بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: فإنه محا اسمه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير المشركين. فإني أنبئكم بذلك عن من ترضون وأراكم قد منعتموه، أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقد جرى الكتاب بينه ويبن سهيل بن عمرو، فقال: يا علي اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو. قال: فقالوا: لو نعم بأنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال: فقال: اللهم إنك تعلم أني رسولك. قال: ثم أخذ
__________
(1) سورة المائدة، الآية 95.
(2) سورة النساء، الآية 35.
(3) سورة الأحزاب، الآية 6.

الصحيفة فمحاها بيده، ثم قال: يا علي اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو. فوالله ما أخرجه الله بذلك من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم [كذا] وقتل سائرهم على ضلالة (1).
وعن عبيد بن عياض قال: خرج عبد الله بن شداد بن الهاد على عائشة - ونحن عندها - مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت: يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ قال: وما لي لا أصدقك. قالت: فحدثني عن قصتهم.
قال: فإن علياً لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس حتى نزلوا بأرض يقال لها: حروراء، من جانب الكوفة، عتبوا عليه وقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله، واسم سماك الله به، ثم انطلقتَ فحكَّمتَ في دين الله الرجال، فلا حكم إلا لله. فلما أن بلغ علياً ما عتبوا عليه وفارقوا أمره، أذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد قرأ القرآن، فلما امتلأت الدار من قراء الناس جاء بالمصحف إماماً عظيماً، فوضعه علي بين يديه فطفق يحركه بيده ويقول: أيها المصحف حدّث الناس!!! فناداه الناس ما تسأله عنه؟ إنما هو مدادٌ وورق ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ فقال: أصحابكم الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله،
__________
(1) ترجمة الإمام علي عليه السلام ( تاريخ ابن عساكر ) 3/191 - 193 (1204).

يقول الله في كتابه في امرأة ورجل: { فإن خفتم شقاق بينهم فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ... إلى قوله: يوفق الله بينهما } (1) الآية.
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم حقاً وحرمة من امرأة ورجل، ونقما على أني كاتبت معاوية وكتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: كيف تكتب. فقال: بسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب محمد رسول الله. فقال: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك. فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً.
يقول الله في كتابه: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر }(2)، فبعث إليهم عبد الله بن العباس فخرجت معه حتى توسطنا عسكرهم، فقال عبد الله بن شداد: فقام ابن الكواء فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله، هو الذي نزل فيه وفي قومه { بل هم قوم خصمون }(3)، فردُّوه إلى صاحبه ولا
__________
(1) سورة النساء، الآية 40.
(2) سورة الأحزاب، الآية 21.
(3) سورة الزخرف، الآية 58.

3 / 21
ع
En
A+
A-