صنعه، وقوله عز وجل: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } . ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق الأنعام، وإنما نفى عن نفسه جعل ما جعلوه، والشق الذي جعلوه في آذان الأنعام، فعلمنا أن الذي نفاه الله عن نفسه هو كفر العباد، وقال عز وجل: { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } . فلما كان الكفر متفاوتا متناقضا، علمنا أن الكفر ليس من خلقه، وقال عز وجل: { وما جعل أزواجكم اللآئي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } . وقال عز وجل: { إن الله بريء من المشركين } . فهو عز وجل لم يتبرأ من خلقهم ولا من موتهم ولا من حياتهم، وإنما بريء من فعلهم وفي هذا الباب أدلة كثيرة يطول بها الشرح، وفيما ذكرنا لك كفاية إن شاء الله.
55- وسألت عن قوله عز وجل: { ويحذركم الله نفسه } . وقلت: إنما النفس تكون للمخلوقين؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: معنى ويحذركم الله نفسه يعني إياه، وذلك موجود في لغة العرب يقول الرجل نزلت في نفس الجبل أي في الجبل، وفي نفس الوادي وليس للوادي نفس ولا للجبل، وتقول أيضا هذا نفس الخبر وليس للخبر نفس، وكذلك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، يقول تعلم ما في نفس ولا أعلم ما عندك، وقال الأعشى البكري في نحو ذلك:
يوما بأجودنا يلا منه إذا ... نفس البخل تجهجمت سؤوالها
والنفس لا تجهم السؤال، وإنما المتجهم الرجل لأنه يدعي أن البخيل يتجهم سؤاله.
56- وسألت عن قول الله عز وجل: { فقليلا ما يؤمنون } . وقلت: كيف مخرج هذا القول حيث قال: { فقليلا ما يؤمنون } . وهم لا إيمان لهم من الأصل وقد صيره قليلا؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: يجوز ذلك على نحو قولك للرجل الذي تخاطبه وهو لا خير عنده البتة ما أقل خيرك جائز في اللغة، وكقولك ما أقل راحة أهل النار يريد لا راحة لهم البتة، وكقولك ما أقل النسا في بلد كذا وكذا وهي بلد ليس بها إنسان واحد.
وقال عمرو بن معدي كرب في نحو ذلك:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع
فقال: قليل الإنس فنسبه إلى القلة ثم قال: ليس به كتيع، يعني ليس به إنسان واحد.
ومن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث بن مسعود ليلة وفد الجن لو أطاعوا عليا لدخلوا الجنة أجمعين أكتعين. وقالوا: يعني باكتعين أنه لا يتغادر منهم صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى.
57- وسألت عن قول الله عز وجل: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } . والآيات فدلالة وهدى ونور، فكيف جاز أن يصرف الله تبارك وتعالى عن آياته الخلق وهو الذي دعاهم إليها وإلى قبولها؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: ليس المعنى حيث ذهبت، ولا كما توهمت من أنه عز وجل يصرف عن آياته عباده من طريق الصد والصرف عن اتباعها، وإنما المعنى أنه جل ثناؤه يصرف أعداءه والمفسدين في أرضه عن إبطال آياته وإفسادها، وإدخال العيب فيها بما أظهر من دلائلها وعجائبها وحججها ونورها وبراهينها العظيمة، كنحو قولك للرجل سأمنعك من فلان أي أمنعك من أذاه وإدخال المكروه عليه، وذلك جائز في اللغة.
58- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون } . وقلت: كيف مخرج التزيين هاهنا؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذه المسألة تخرج على وجهين، وكلاهما حسن.
أما أحدهما فإنه يقول: زينا لهم أعمالهم من الطاعات، فتركوها فهم يعمهون.
وأما الوجه الآخر فإنه يجوز على الإمهال كنحو ما تقول العرب أنا الذي زينت لك عملك وأنا الذي أفسدتك، وهو لم يزين له عمله ولم يفسده، ولكنه أمهله ولم يغير عليه ولم يمنعه، فكان تركه له وإمهاله إياه مزينا له فعله إذ لم يحل بينه وبينه ولم يمنعه ولو منعه لم يكن من ذلك شيء فإنه عز وجل لم يقسر العباد على الطاعة قسرا ولم يمنعهم من المعصية جبرا ولو فعل ذلك سبحانه ما جاز أحد أمره، ولكنه أمر تخييرا ونهى تحذيرا، فلم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي بينة وإن الله لسميع عليم، وإنما مخرج زينا على مجاز الكلام وقال جل ثناؤه: { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } . يعني بالتحبيب والتكريه الأمر والنهي، وما وعد وأعد من الجنة والنار لا جبار على طاعته، ولا على معصيته عز الله عن ذلك وتعالى علوا كبيرا.
59- وسألت عن قوله عز وجل: { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } . وقلت: كيف جاز ليوسف صلى الله عليه أن يرمي بالسرقة من قد علم أنه لم يسرق صواعه؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد قيل في هذه المسألة بجوابات كلها تجوز في لغة العرب وتثبت العدل والبراءة ليوسف صلى الله عليه من الظلم والإثم من ذك ما أنا ذاكره فافهمه إن شاء الله.
أما الوجه الأول فقالوا: أنه يجوز أن يكون المنادي نادى بغير أمر يوسف صلى الله عليه، فحكى الله عز وجل عن المنادي.
وأما أن يكون أمر بوضع الصواع في الرحل بغير علم المنادي الذي نادهم بالسرقة، فلا يكون المنادي تعمد كذبا، وذكر عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن يوسف صلوات الله عليه أمر المنادي بذلك وأضمر في نفسه إنكم لسارقون لي سرقتموني من أبي، وطرحمتوني في الجب، وهذا حسن.
وقول آخر قال بن يوسف صلى الله عليه قال: هذا على الاستفهام أنكم لسارقون على معنى { وذو النون إذ ذهب مغاضبا أن لن يقدر عليه } . على طريق الاستفهام، لأن نبي الله صلى الله عليه لا يظن أن الله عز وجل لا يقدر عليه والعرب تستفهم بغير ألف في كلامها. قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيب بن سهم أم شعيب ابن منقر
يريد أشعيب بن سهم أم شعيب بن منقر، فكل هذا قد قيل في تفسير هذه الآية، وقول أمير المؤمنين أحسنها عندي وكلها حسن جائز، وقد أعلمتك بما قال أهل العلم فيها، فافهم ذلك موفقا إن شاء الله. وإنما أراد يوسف صلى الله عيه بوضع الصواع في رحل أخيه ليأخذه به من أخوته، لأنه لم يكن يمكنه في دبن الملك أن يأخذه والأنبياء صلوات الله عليهم فلا تفعل فعلا إلا بأمر الله عز وجل، وذلك قوله سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دبن الملك إلا أن يشاء الله } . فكل فعل من ذلك بإذن الله، لأن إذن الله عز وجل هو أمره، فهذا هو الحجة البينة في هذا الباب، وما أمر الله به فلا يعب فيه ولا إثم لوا كلام لمتكلم، قوله الحق وأمره الصدق، لا إله إلا هو العلي العظيم.
60- وسألت عن الجواب للمجبرة في قولهم أنه لم يكن بد لقريش من الخروج إلى بدر في حرب رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم فإن قال لهم أهل العدل: بلى قد كان لقريش بد من الخروج لو أرادوا ذلك. قالت المجبرة لأهل العدل: فأذن يلزمكم أن الله يخلق قوله في قولكم وأنتم تقولون أن الوعد والوعيد شيء لا ينتقض ولا يخلف، فنحن نلزمكم أنه يخلق وعده في قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } . وهذه يلزمكم لنا أنه لم يكن بد لقريش من الخروج إلى بدر في حرب رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن الله تبارك وتعالى إنما أخبر عنهم في معصية ولا يخرجهم من طاعة، فأخبر بما يختارون.
والجواب لهم في ذلك أن يقال لهم: أليس قد رويتم في كتبكم وأخباركم أن هذه الآية نزلت في أبي طالب بن عبد المطلب حيث قال الله عز وجل: { وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون أنفسهم وما يشعرون، ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } .... إلى آخر الآية. فقد أخبر الله عز وجل عن أبي طالب، وعن وقوفه على النار كيف يكون كما رويتم أنتم وغيركم، ثم رويتم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له عند الموت:( يا عم قل لا إله إلا الله وأقر أني رسول الله صلى الله عليه واضمن لك على الله الجنة )، فيقال للمجبرة: فما تقولون لو أسلم أبو طالب في ذلك الوقت. وأجاب النبي صلى الله عليه إلى ما أراد هل كان ينفعه إسلامه كما قال له رسول الله صلى الله عليه أو لم يكن ينفعه. فإن قالوا: لم يكن ينفعه إسلامه جهلوا رسول الله صلى الله عليه وخطوا فعله وأفسدوا ضمانه، وقد قال الله عز وجل: { وما ينطق عن الهوى } . وقال: { إن ابتع إلا ما يوحى إلي } . وإن قالوا: بلى قد كان ينفعه إسلامه لو أسلم، وجب عليهم أن وعد الله تعالى منتقض، وإن وعده يخلف، لا بد لهم أن يقولوا أحد القولين، وفي ذلك فساد قولهم وبطلان دعواهم، لأنهم إن زعموا أن قول النبي صلوات الله عليه وضمانه لأبي طالب أمر فاسد لا يصح، خطوا النبي وكفروا، وإن قالوا: إنه ضمان صحيح بطلت دعواهم في قولهم إن وعد الله يخلف في قول أهل العدل، لقول الله عز وجل: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } . فها هو الجواب، فافهمه وقف عليه إن شاء الله.
61- وسألت عن قول الله عز وجل: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأءها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم } . فقلت: فيقول القائل: وأي مصيبة أعظم من المصيبة في الدين وإن المصيبة مكتوبة على العباد؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: لعمرو الله أن المصيبة في الدين لأعظم المصائب، ولكن الله عز وجل لم يعن بذلك الضلالة ولا الهدى، فقوله: { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم } . فلو كانت هذه الآية في الأعمال لم ينبغي
للعبد إذا أطاع الله عز وجل وأحسن العمل أن يفرح ولا إذا عصا أن يحزن، ولكان ذلك منه خطأ وعصيان لله أن يفرح بما أوتي من خير في دينه، وأن يحزن على ما ضيع وفاته من دينه، لأن الله في قولهم قد نهى عن ذلك، وأذن لا ينتقض قوله، واختلف كتابه وقد قال: { ولو كان من عند غر الله لوجدوا فهي اختلافا كثيرا } . ولخالفت هذه الآية التي ذكرتم هذه الآية التي أنا ذاكرها، حيث يقول تبارك وتعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } . وقال عز وجل: { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يعملون } . وليس وجه هذه الآية التي ذكرت على ما وضعوه عليه هم، إنما عنى الله عز وجل في هذه الآية المصيبات التي يصيب بها عباده في الأنفس والأولاد والأموال والثمرات، وما سخر لهم من الأشياء التي سخرها لهم به أعمالهم قبل نزول المصيبة لهم إن سوف يبتليهم وعلمهم كيف يقولون عند المصيبة إذا نزلت بهم، وما لهم فيها من الأجر إذا صبروا، وقالوا القول الذي علمهم وقال: { ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابته مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربك ورحمة وأولئك هم المهتدون } . يقول سبحانه إنما علمناكم ما تقولون وبينا لكم في ذلك من الأجر والثواب لكيلا تأسوا عند البلاء على ما فاتكم ولا عند المصيبة تجزعوا تسليما لأمر الله تبارك وتعالى، ولو كان الأمر على ما توهموا ما كان ينبغي لمن صلى وصام وحج وجاهد وفعل الخيرات يفرح، ولا لمن زنا وسرق وشرب الخمر وقتل النفس الحرام وعصى الله عز وجل أن يحزن على معصيته، ولكن الناس تركوا لاحق وأهله واتبعوا أهوائهم، وقلدوا أمر دينهم من أضلهم وأغواهم، وقد أمروا فأعرضوا وزجروا فلم ينتهوا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وأما الكتاب الذي ذكرت هاهنا فهو العلم، لأن الله عز وجل لا يحتاج إلى الكتاب.
62- وسألت عن قول الله عز وجل: { فول وجهك شرط المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . فقلت: ما معنى هذا الكلام فإني لا أدري ما معنى الصلاة إلى شرطه دون كله، وأي الشرطين أقصد إذا صليت؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: ليس الأمر على ما توهمت ولا على ما ظننت، وإنما لمعنى في الشرط الكل وذلك جائز في لغة العرب، تعني العرب بالشطر النحو فنحو لاشيء عندها شطره.
ألا تسمع قول زهير بن أبي سلمى حيث يقول:
وعارض عمه بوارقه ... شطراه ربح وشطره برد
يريد نحوه ريح ونحوه برد، ولم يكن على ما ذكرنا لك، لوجب أنه أثبت له ثلاثة شطور، وهذا مالا يجوز ولا يعقل في عجمية لوا عربية أن يكون للشيء ثلاثة شطور.
وقال خفاف بن بديه في مثل ذلك:
إلا من مبلغ عمروا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمر
يريد نحو عمر.
وقال القيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا
يريد من نحو ثغركم وهذا معروف في لغة العرب غير متنكر ولا مجهول، وإنما عنى بذلك البيت الحرام فأي جوانبه استقبلت فهو قبلة، وليس من جوانبه جانب إلا وبصرك يحيط بجميعه وله الحمد، وإن كان بعضه بين عينيك ليس منه شيء داخلا ولا ذاهبا من موضعه، ولو ستر بعضه بعضا فكله قبله ونور وهداية لمن اهتدى به، نسأل الله الهداية بمنه وفضله.
63- وسألت عن قول الله سبحانه: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } . قلت: فإن قال القائل: أهو بعض القرآن خير من بعض ما تقول له؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المعنى في ذلك أنه يقول عز وجل خير لكم فهيا تخفيف لكم به خصه، وليس بعضه خير من بعض بل كله في الفضل والشرف والقدر عند الله عز وجل سواء.
64- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الله لا يحب الفرحين } . فقلت: ما معنى هذا والأنبياء صلوات الله عليهم والأئمة عليهم السلام والصالحون يفرحون؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما عنى بالفرح في هذا الموضع البطر والأشر، وأن يفرحوا ولا يشكروا.
65- وسألت عن قوله عز وجل في قصة قارون: { ولا تنس نصيبك من الدنيا } . فقلت: كيف جاز أن يوصوه بالدنيا وهم يعظونه وكان هو أشد في طلب الدنيا وأحرص عليها منهم وأشد رغبة فيها؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليه: إن قومه لم يأمروه بطلب الدنيا والحرص عليها، وإنما ذكروه إنها طريق إلى الآخرة، فأمروه أن لا يذهب عمره في معصية الله عز وجل، لأن الدنيا فيها تكتسب الجنة، وقد سمعت قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه حيث سمع الرجل الذي ذم عنده الدنيا، فصرخ به ثم قال:( الدنيا موضع صدق لمن صدقها )، مع كلام اختصرناه قد سمعته.
66- وسألت عن قول الله عز وجل: { ثم استوى على العرش } . فقلت: كيف مجاز الاستواء في التوحيد، وما معناه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: الاستواء هاهنا هو الاستيلاء، والعرش فهو الملك معروف ذلك في لغة العرب، وأشعارها من ذلك قول زهير بن أبي سلمى حيث يقول:
تدار كتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
وفيه شواهد كثيرة وكلام يطول، ولجدي القاسم بن إبراهيم عليه السلام في العرش والكرسي كتاب بليغ اجتزينا عن التطويل في جوابك هذا، فأنظر فيه إن شاء الله.
67- وسألت عن قوله عز وجل: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } . فقلت: ما معنى ذلك؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: معنى قوله: { يداه مبسوطتان } . يعني نعمتاه نعمته في الدين ونعمته في الدنيا، وكذلك قوله: { خلقت بيده } . وقوله: { عملت أيدينا أنعاما } . يقول: ما توليته بنفسي، والعرب تقول لمن تخاطبه في عنقك يا فلان لي يد يعني نعمة، لا أن في عقنه له يد لازمة بكف وأصابع، وقد قال الله سبحانه: { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } . فهل يجوز في العقول أن للمؤمنين عند الله عز وجل قدم مطروحة بعقب وأصابع، هذا ما لا يجوز في العقول ولا يتوهمه مسلم، وقد قال الشاعر في نحو ذلك:
تحملت من اسما ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
والجبال ليس لها أيدي، فجاز هذا في لغة العرب، وإنما خاطبهم الله عز وجل بلغتهم التي بلغتهم التي يعرفون، وإنما جاء الهلاك في الدين والترك للتوحيد من جهل الخلق باللغة العربية.
ألا ترى أن العرب تقول ما زلنا نطأ السماء حتى وصلنا إليكم من مسيرة أيام كثيرة، وهذا الكلام عند من لا يفهمه غير جائز أن يكون أجد يطأ السماء وهو عند العرب وأهل المعرفة صحيح جائز، لأنهم يعنون بالسماء هاهنا الغيث أي لم يزالوا يطئونه حتى بلغوا إلى أصحابهم، وقال الشاعر في نحو ذلك:
وكأن نفحته وطيب نسيمه ... غب السماء صريمة مقفار
قال: غب السماء يعني به ثانية الغيث، أي اليوم الثاني من الغيث.
وقال الكميت بن زيد الأسدي:
تصل السماء إلى السماء ... بصوت أسحم ذي زماجر
يعني الغيث، فصيره سماء إلى سماء.
68- وسألت فقلت: كيف الجواب لمن قال: إن الله جل ثناؤه على عرش مثل السرير؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: نقول لهم: قال الله عز وجل: { لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقتلهم الأنبياء بغير حق سنكتب ما قالوا } . من احتاج إلى شيء من جميع الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، فهو فقير غير غني، فيثبت على من قال أن له عرشا مثل السرير أنه محتاج، ومن زعم أنه محتاج إلى قليل أو كثير فقد أوجب أنه فقير ولزمه الكفر بقول الله عز وجل: { لقد كفر الذين قالوا إن لله فقيرا } . لأن من زعم إن الله عز وجل يشبه خلقه في مجيء أو ذهاب، أو صعود أو نزول، أو حركة أو سكون، أو عرش يستوي عليه كاستواء الملوك على أسرتها أو ملائكة تحمله ما يفعل الناس بحمل بعضهم لبعض، أو أمر من جميع الأمور التي يلزم التشبيه، فقد أوجب أنه فقير، ومن قال بذلك فقد كفر بالله العظيم، والله تبارك وتعالى هو الغني على الحقيقة لا على المجاز، فكل غني وأن عظم غناءه لم يكن يغني على الحقيقة، وإنما هو غنى المجاز، وذلك لو أن رجلا ملك الأرض ومن عليها لم يكن يغني، لأن الحاجة والفاقة، والعجز والفقر، لازم له، وإن ملك جميع الأرض ومن فيها، لأنه يحتاج إلى الطعام والشراب، والجيئة والذهاب، والغليظ والساب، فالفقر له مقارب في جميع الأسباب، والله تبارك وتعالى هو الغني لا يحتاج إلى شيء من جميع الأشياء كلها، وذلك قوله عز وجل: { هو الغني } . لأنه لا غني إلا هو تبارك اسمه.