نحسهم بالبيض حسنا كأنه ... حريق لظى في غابة تتضرم

والغابة أجمة القصب

22- وسألت عن قول الله عز وجل: { وأدخلوا الباب سجدا } . وقلت: كيف يجوز أن يكون الساجد داخلا، وكيف يدخل وهو ساجد؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: السجود هاهنا هو الطاعة والخضوع، وذلك معروف في لغة العرب يقول الرجل إذا رأى رجلا يطيع ملكا أو غيره: فلان اليوم يسجد لفلان، أي يطيعه وإن لم يسجد له بوجهه، قال الشاعر:

بجيش تظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

يقول: إن أكام الأرض مطيعة لحوافر الخيل.
23- وسألت عن قول الله عز وجل: { فأثابكم غما بغم } . فقلت: ما معنى هذا وكيف يثيبهم غما بغم؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: هذا القول يخرج على أن حروف الصفات بعقب بعضها بعضا، لأن الباء تقوم مقام على، يريد سبحانه: فأثابكم غما على غم، مثل قوله: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } . فقامت في مقام على، وذلك جائز في لغة العرب، قال الشاعر:

هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان الأباء جدعا

ومثل ذلك قوله عز وجل: { ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بدينار } . أي على دنيا، فقامت الباء مقام على، ومثل قوله عز وجل: { ونصرناه من القوم } . أي على القوم، فقامت من مقام على، وهذا يكثر عن أن يحيط به في كتابنا وفيما أجبناك به كفاية إن شاء الله.
24- وسألت عن قول الله عز وجل: { أستفزر من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد } . فقلت: كيف جاز أن يأمر الله عز جل بهذه الأشياء وكلها له معصية لا يجوز في العدل، وكيف يشارك الشيطان الناس في الأموال والأولاد؟
قال أحمد بن يحيى رضي الله عنه: إن ذلك جائز في اللغة العربية أن يخرج الكلام من المتكلم مخرج الأم، ومعناه على خلاف ذلك الذي خرج عليه، وإنما هذا عندنا على الوعد والتهدد، كنحو قول الرجل اجهد جهدك واحمد حمدك، كل ذلك على الوعيد، وقد تقول العرب للرجل أذهب، اقتل فلانا وأضربه بالسيف على جهد الوعيد، وهم لا يحبون قتله ولا ضربه ولا يريدون ذلك من الذي أمروه به، كقول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لطلحة والزبير يوم عاتباه ثم أدبرا عنه أذهبا فآخرجاها يعني عائشة، وهو لا يريد أن يخرجاها من منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أن يخرجاها تحاربه، وهذا في اللغة كثير معروف.
وأما ما سألت عنه من مشاركته لهم في الأموال والأولاد فإن ذلك كثير كشركة الآدميين، إنما ذلك كنحو قول السحرة لفرعون، أقض ما أنت قاض أي أصنع ما أنت صانع، كل ذلك على الوعيد، وأما شركته في الأموال فهو أن تؤخذ بغير حقها، وإن يطاع الشيطان فيها، فإذا فعلوا ذلك فقد جعلوا شركاء في أموالهم.
وأما الأولاد فإذا نكحوا الحرام وولدهم من النكاح بمال الحرام، فقد أشركوا الشيطان في ذلك بطاعتهم، فصارت طاعته سببا للشركة في أولادهم.
25- وسألت عن قول الله عز وجل: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } . وقلت: فإن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يكون بعضه غير شفاء؟

قال أحمد بن يحيى صلوات الله: إن القرآن شفاء، ومن في هذا الموضع قد يجوز على البعض وعلى الجميع، وذلك موجود في لغة العرب، تقول العرب، هل يجيء لنا من هذا الثوب قميص أي من الثوب كله لا من بعضه، وكقول الله عز وجل: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . يريد مقام إبراهيم عليه السلام كله لا بعضه، وكقوله عز وجل(1): { يغفر بعض ويعذب على بعضها } . وكقوله عز وجل: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } . يريد اجتنبوا كل الأوثان، وقوله عز وجل: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } . يريد كلهم. وقال:

تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو ترتبط بعض النفوس حمامها

فقال بعض النفوس، وإنما أراد النفوس كلها. وقال ذو الرمة:

تنسمن عن نور الأفاحي بالضحى ... وفترن عن أبصار مضروبة حجل

فقال: من أبصارهن، وإنما أراد كل أبصارهن، وقال الله عز وجل: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } . يريد يغضوا أبصارهم كلها عن محارم الله جل ثناؤه.
26- وسألت عن قول الله عز وجل: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } . وهو شيء قد كان وفرغ منه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: من ذلك أن العرب تجعل بدل يكون كان جائز ذلك في لغاتها، ألم تسمع زياد الأعجم حيث يقول:
__________
(1) ـ قال في الأم: الآية ساقطة. أصل النسخة.

فانضج جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذباح

يريد فلقد كان لأنه قد مات.
27- وسألت عن قول الله عز وجل: { أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطانا مبينا } . فقلت: ما هذا السلطان؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: السلطان هاهنا هو الحجة، والدليل على لك قول سليمان للهدهد أولياسي بسلطان مبين.
28- وسألت عن قول الله عز وجل: { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم } . فقلت: إذ تكون لأمر مستقبل، وإنما تكون لأمر قد مضى وفرغ منه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا جائز في لغة العرب أن يقول لمر مستقبل، إذ من ذلك قول أي النجم الشاعر:

فتى جزاه الله عنا إذ جزى ... جنات عدن في العلالي العلا

فقال: إذ جزى في الآخرى وهو لم يجز أحدا بعد، فجاز هذا في اللغة فافهم أعانك الله وأرشدك.
29- وسألت عن قول الله عز وجل في ابن آدم الذي قتل أخاه قال: { فأصبح من النادمين } . فقلت: الندم توبة فماله لم يتب عليه وقد ندم؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنه لم يندم على القتل، وإنما كان على ما بلغنا مكث يدود به مائة عام، يحمله لا يدري كيف يواريه، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض فلما رأى الغرب كيف وأرى الغرب قال ويليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغرب فأواري سرة أخي، فكان ندمه على ما حمله طول تلك المدة ولم يدفنه، وحمله مائة سنة.

30- وسألت عن قول الله عز وجل للنبي صلوات الله عليه: { فإنهم لا يكذبونك } . فقلت: وأي تكذيب أشد مما كذبوه صلوات الله عليه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنما عنى تبارك وتعالى أنهم لا يقدرون على تكذيبه بحجة يقهرونه بها، فيلزمه التكذيب.
31- وسألت عن قول الله عز وجل: { وأنا أو إياكم لعلى هذا أو في ضلال مبين } . فقلت: إن قال لنا قائل: هذا القول يوجب فما الرد عليه؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا على المداراة وحسن المعاملة، كما يقو الرجل لصاحبه والله أن أجدنا لكاذب، وهذا من أنصافي الكلام، لأن أقبح منه أنا لعلى الهدى وأنتم على الضلالة، لأنه قال عز وجل: { ودع أذاهم } . فكان هدى لحد الأنصاف وجميل القول.
32- وسألت عن قول الله عز وجل: { يا حسرة على العباد } . فقلت: هل تكون الحسرة إلا من المخلوقين المتحسرين؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: إنه عز وجل لم يقل يا حسرتا، وإنما قال يا حسرة بالتنوين، وإذا كانت بالتنوين فإنما تقع الحسرة على العباد في تقربطهم في أمره عز وجل، ومثل ذلك قول العرب للرجل يا تبا لك ويا ويلا لك ويا حسرة لك.
33- وسألت عن قوله عز وجل: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. الزمر } . فقلت: ما معنى هذا القول؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا من الكلام الذي يتجوز فيه الإضمار، والمعنى فيه: والذين اتخذوا من دونه أولياء، يقول ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأضمر قول الكافرين وقطعه من وسطه، ومثل هذا كثير في القرآن، مثل قوله: { ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله تواب حكيم } . ومثله قوله عز وجل: { ولو أن قرآءنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } . ثم قال: { بل لله الأمر جميعا } . ولم يذكر جواب، ولو أن قرآءنا، والمعنى فيه: لكان هذا القرآن وهذا كثير في القرآن، قال الشاعر فقال:

وأذما الظلال كن نعالا ... واجتلبن الحميم أي اجتلاب

فقال: وأذاما الظلال ولم يذكر بعده خبرا يدل على ما أراد بالظلال، فأضمره وقطعه، وإنما المعنى فيه أنه قال: وأذاما الظلال قلص ولصق كان للإبل في حرارة تلك الشمس بغالا لهم واستغنوا عن البغال، فافهم هذا الباب، ومن ذلك قول امرئ القيس بن حجر:

لعمرك لو شي أتانا رسوله ... سواك ولكن لم يجد لك مدفعا

وكان يجب أن يكون لو أتانا رسوله لكان منا كذا وكذا، فأضمره وأجزاه ذلك، وعرفت العرب ما أرد من الإضمار.
34- وسألت عن قول الله عز وجل: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } ؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: قد قيل في هذه الآية بوجوه من الكلام منها: أنهم قالوا أنا أول العابدين لله على الإضمار وغير ذلك من القول.
وأما أنا فأقول: أن العرب تقول أن العابد هو المنكر الآنف.
قال الفرزدق يهجو جريرا:
أولئك أكفائي فجئني بمثلهم ... وابعد أن يهجا كليب بدارم

يريد أي: أنكر وآنف أن تهجى بنو كلب ببني دارم قومه.
35- وسألت عن قول الله عز وجل: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } . فقلت: كيف ظنوا وقد صح لهم الأمر؟
قال أحمد بن يحيى عليه السلام: إن من الظن ما يكون في لغة العرب يخرج على اليقين.
قال بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مقاتل ... سرابيلهم بالفارسي المسرد

يقول: قلت لهم أيقنوا بألفي مقاتل، وهذا جائز في اللغة.
36- وسألت عن قول الله عز وجل: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } . فقلت: ما مخرج أكاد؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: أكاد تخرج على معنى أريد. قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو لا الوشاة بأن يكون جميعا

37- وسألت عن قول الله سبحانه: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } . فقلت: يجوز أن يخرجوهم من النور وهم لم يكونوا فيه قط؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا كثير في كلام العرب موجود في لغاتهم، يقول القائل منهم: آخرج فلان ابنه من ميراثه والرجل حي لم يمت ولم يورث بعد، ولم يكن قد دخل فيه كالدخول الذي يعرف، ونحو قول العرب: اللهم أدخلنا الجنة وآخرجنا من النار، وهم لم يدخلوها قط. وقوله: { ثم ردوا إلى الله

مولاهم الحق } . يعني: ثم صاروا إلى الله. وكقولهم: { ثم نرد إلى أرذل العمر } . وهو لم يكن فيه قط، حتى بلغ وقته من الكبر والمشيخ.
قال الشاعر:

حتى نعود بسواد القار كاللبن ... ولم يكن القار البيض قط

فقال: عاده لجوازه في اللغة.
38- وسألت عن قوله عز وجل: { فاليوم ننساهم } . فقلت: ما معنى ننساهم والله تبارك وتعالى لا يجوز عليه النسيان؟
قال أحمد بن يحيى صلوات الله عليهما: هذا يعني به الترك متعمدا، وذلك كقوله عز وجل: { نسوا الله فنسيهم } . إنما هو تركوا أمر الله فتركهم، فلو كان ذلك منهم نسيانا على الحقيقة ما أخذهم بالنسيان.
39- وسألت عن قوله تبارك وتعالى: { يبين الله لكم أن تضلوا } . فقلت: ما معنى هذا القول؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: معناه لا تضلوا وهذا كثي في كلام العرب.
قال عمر بن كلثوم:

فنزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القراء أن تشتمونا

يريد أن لا تشتمونا.
وقال راعي الإبل النميري:

أزمان قومي والجماعة كالذي ... لزم الرحالة أن تميل مميلا

يريد أن لا تميل.
وقال قيس بن زهير العبسي:

رأيتك أن لاقى بنوك معاشرا ... نزال يد في فضل تعب ومزوده

يريد أن لا يزال بدا، فافهم ذلك إن شاء الله.
40- وسألت عن قوله عز وجل: { له معقبان من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } . وقلت: هل يكون من الله جل ثناؤه حافظ ودافع؟
قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: المعنى في هذا أن يحفظونه بأمر الله، وهذا من حروف الصفات التي يعقب بعضها بعضا، قال الشاعر:

إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها

يريد رضيت عني.
وقال النابغة:

فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب

يريد لا تتركني في الناس فقامت إلى مقام في مثل قوله { في جذوع النخل } ، فافهم ذلك إن شاء الله.
41- وسألت عن قول الله سبحانه: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مير فيها ففسقوا فيها } ؟ فقلت: ما مخرج ذلك في العدل؟أ

قال أحمد بن يحيى عليهما السلام: هذا من الكلام الذي ذكرت لك أنه يضمر في لغة العرب، وإنما المعنى إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مير فيها بأمر فتركوه وفسقوا فيها، وهذا كثير من لغة العرب وفي كتاب الله عز وجل من هذا كثير أيضا.
ألا تسمع إلى قوله تعالى: { ولو أن قرءآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ـ ثم أضمر فقال ـ: بل لله الأمر جميعا } . والمعنى فيه لكان هذا القرآن، وإنما نزل عليهم بلسانهم الذي يعرفون ولا ينكرون.
ألا ترى إلى قول الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت ... أمانته كأني مرحب

يريد: كأمانة إني مرحب، فأضمر.

وقال آخر:

فإن المنية من يخشها ... فسوف يصادفها أينما

فأضمر، وإنما أراد أينما كان من الدنيا أدركته المنية فأضمر، وقد قال الله عز وجل: { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } . ثم أضمر، وفي الأرض اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والدهرية وأصحاب النور والظلمة والزنادقة وعباد الله ده وغير ذلك، وإنما المعنى فيه ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين خاصة دون غيرهم، وتقول العرب أما والله يا فلان لو لا لعملت كيف يكون فيجزي ذلك، ويعلمون أنه من طريق الوعيد، فإنه لولا كذا لعلمت كيف يكون حالك، فافهم هذا الباب إن شاء الله.
42- وسألت عن قول الله تبارك وتعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } . فقلت: ما معنى هذا في العدل؟

2 / 6
ع
En
A+
A-