عليه السلام.
وأما قولك: إن معاوية كاتب الوحي فهذا باطل، لأن معاوية أسلم يوم فتح مكة، والنبي صلى اللّه عليه لم يلبث بعد الفتح إلا ثلاث سنين، وبإجماع الأمة أن معاوية عدو للّه فكيف يأمنه اللّه على وحيه!، وإنما استأمن اللّه على وحيه رسوليه صلى اللّه عليهما: جبريل، ومحمداً، ووليه علياً، كما قال اللّه سبحانه في كتابه: {إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون} [المائدة: 55،56]، اللّه عز وجل أولى يخلقه من أنفسهم، ثم رسوله صلى اللّه عليه، ثم وليه هذا المؤمن المزكي في ركوعه، وهو عليٌ بإجماع الأمة عن الرسول صلى اللّه عليه، فمن والى اللّه ورسوله وهذا المؤمن فهو حزب اللّه وحزب اللّه هم الغالبون، وحزب إبليس هم الخاسرون، ثم أنتم تعلمون أن الرسول صلى اللّه عليه، قال يوم الغدير بإجماع الأمة لجميع المسلمين: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)). قالوا: بلى، يا رسول الله، إتباعاً لقوله تعالى: {النبي أولى/42/بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]، فقال الرسول صلى اللّه عليه: (اللهم، اشهد، ثم قال: اللهم، اشهد، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،واخذل من خذله)) والخلق مجتمعون يسمعون كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه، وهو رافع بيد علي حتى أبصر بياض أباطهما، وهو ينادي بهذا القول، ثم قال: ((فليبلغ منك الشاهد الغائب)).
ثم قال عليه السلام: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من الباب)).
ثم قال: ((أنا وعلي كهاتين)) ضمد عليه السلام المسبحتين، يريد بقوله: إن علياً عليه السلام يحكم فيكم بحكمي، ويسير فيكم بسيرتي كهاتين، وكذلك أراد بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، أي أن الولاء الذين كان لي عليكم فهو لعلي من بعدي، وكذلك أراد بقوله في المدينة: ((فليأتها من بابها))، إن الذي جاء به الرسول عليه السلام من معرفة الكتاب والسنة، فهو موجود عند باب المدينة ومعدوم عند غيره، وقال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما))، فبين عليه السلام، بقوله هذا أن سبطيه أولى بمقامه بعد أبيهما في أمته، لأن أهل الجنة قد وصفهم اللّه سبحانه بالخشية والعلم، فقال سبحانه: {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} [فاطر: 28]،فليس يسودهم/43/ إلا أعلمهم بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه، ثم قال النبي صلى اللّه عليه: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى))، فقرن عليه السلام، القائم من أهل بيته في أمته بعده بنوح عليه السلام، قال سبحانه تبارك وتعالى بأنه سفينة نوح عليه السلام على لسان رسوله محمد عليه السلام، التي جعلها آيةً للعالمين في ولد رسوله محمد صلى اللّه عليهم إلى آخر الدنيا، ثم أكد رسوله بقوله بأمر ربه حين قال لإمته: ((أيها الناس، إني مسائلكم غداً، فمجحفٌ بكم في السوأل عن كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم به من بعدي لن تضلوا أبداً، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض))، وأنتم تعلمون أنه كما لا يجوز ترك التمسك بالكتاب، فكذلك لا يجوز ترك التمسك
بالعترة؛ لأن الكتاب يدل على العترة والعترة تدل على الكتاب، ولا يقوم واحد منهما إلا بصاحبه، لقول النبي صلى اللّه عليه: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
ثم اعلموا أن اللّه عز وجل ختم أنبياؤه صلوات اللّه عليهم بمحمد نبيه صلى اللّه عليه وسلم، ثم أقام أولاده الطاهرين في أمة جدهم من بعده مقام رسله في الأمم الخالية، إذ كانت عبادته تبارك وتعالى على الأولين والآخرين/44/واحدة؛ لإنه سبحانه تعبد الخلق بمعقول ومسموع، فالمعقول: ما أدرك بالعقل. والمسموع ما أدرك بالسمع، ولايدرك المسموع إلا بمسمع، والمسمع فلا يكون إلاَّ نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً، أو إماماً مهدياً، فالأئمة الهادون شهداء على أمة جدهم، وجدهم شهيد عليهم، كما قال اللّه سبحانه من قبل: {وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس...الآية} [الحج: 78]، وقال تعالى: {واعتصموابحبل اللّه جميعاً ولاتفرقوا} [آل عمران: 103]، فحبل الأئمة الهادين موصول بحبل جدهم، وحبل جدهم موصول بحبل خالقه: {لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: 42]، فالشيعه وصفوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه بأفعالهم. قال اللّه عز وجل: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم} [الأحزاب: 6].
والذي نازع علي بن أبي طالب عليهم السلام الأمر، وادعى أنه أولى بالمقام منه، هم ثمانيه: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعائشة، والزبير، ومعاوية، وذو الثدية، وتاسعهم المرادي، فأنكرعلي عليه السلام، على جميعهم بقدر طاقته، على بعضهم بيده، وعلى بعضهم بيده ولسانه، وأمهات المسلمين اللواتي خلف النبي عليه السلام بعده تسع نسوة/45/،والأجداد ثلاثه نازع علياً عليه السلام في مقامه: أبو بكر، وعمر، وأمسك أبوسفيان.
والأخوال أربعة: حاربه معاوية، وعبيدالله بن عمر، ونصره محمد بن أبي بكر، وخذله عبدالله بن عمر.
ومن الأمهات حاربته عائشة بنت أبي بكر، فلعلم اللّه أنها تحارب وصي رسوله صلى اللّه عليه، قال في كتابه وأمر رسوله أن يقول لهنَّ: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب:33].
قال أبو الحسين: ثم قلت لمن حضر المجلس وكانوا جماعة كثيرة: أليس قول الشيعة هذا في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه تصحيح؟ فقالوا بأجمعهم: بلى.قال: قلت: فليقع عندكم أن هذا آخرموقف بيني وبينكم، واعلموا أن لنا موقفاً بين يدي اللّه عز وجل، يحضره رسوله صلى اللّه عليه، لقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامه عند ربكم تختصمون} [الزمر: 30،31].
ثم قلت: وأنتم كلكم مقرون معي بأمامة إمامي المرتضى لدين اللّه محمد بن الهادي إلى الحق، وإلا فما تقولون فيه. قالوا: نحن نُقِرُّكلنا بأمامته، ونقول بها. قلت: فجميع ما احتججت به عليكم من الآيات والروايات فهو احتجاجه.
واعلم أعزك اللّه أن مخالفينا عابوا علينا عندما وصفنا خالقنا بما وصف به نفسه من العدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد، ثم وصفنا رسوله صلى اللّه عليه بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة إلى أمته صلى اللّه عليه/46/وعلى آله، ثم وصفنا وصيه بقيامه في أمته بعده مقامه ووصفنا أصحابه بأفعالهم سواء سواء، مخافة من بعض [بياض في الأصل]. إذ يقول: {إن الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب: 57،58].
(34)مجلس
وقال أبو الحسين، رحمه اللّه لجماعة حضروه: ذكر اللّه سبحانه في كتابه أن إبليس الملعون لما أدبر عن أمر ربه، استكبر عن السجود لله، من أجل ما أظهر في آدم من الآيات، خاف الملعون من ربه المعاجلة فقال: {أنظرني إلي يوم يبعثون} فقال تعالى: {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}، ثم قال: فما تقولون أنتم في هذا الخطاب كيف اتصل من اللّه عز وجل إلى إبليس؟ قال: فتحيرت تلك الجماعة الحاضرة. ثم قالوا: يا أبا الحسين، أفدنا أكرمك الله، وكيف كان وصول الخطاب من الله عز وجل إلى إبليس، قال لهم: نعم، وصل ذلك الخطاب على لسان آدم صلى اللّه عليه، لأنه قد كان بين محمد صلى اللّه عليه وبين فراعنة قريش من العداوة ما علمتم فلم يمنعه ذلك من إقامة الحجة عليهم، ولم ينظر في عداوتهم، وذلك حجة اللّه عز وجل في وقت مخاطبة/47/إبليس آدم صلى اللّه عليه، فلم يمنعه ما كان بينه وبين إبليس من العداوة أن يبلغه ما أمره اللّه عز وجل بإبلاغه.
(35)مجلس
قال: وكان قد جرى بيني وبين رجل من القرامطة كلام خاطبنى في إبطال الرسل عليهم السلام، فقال: يا أبا الحسين، جبريل هو: روحٌ، والروح شيء خفي ليس يرى. قلت: جبريل ملك من الملائكة، والملائكة أولوا أجنحة، والجناح جسم والجسم يرى، وقد قال اللّه عز وجل فيه عليه السلام:{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]، وقال سبحانه: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 192،193،194]، وقال سبحانه: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171]، وقال سبحانه في أبي البشر آدم عليه السلام: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29].
فقال: لهذه تأويل وسكت. ثم قال لي: كيف كان محمد يأخذ الوحي من جبريل؟ قلت له: مشافهة، يقول له: أمرك ربك بكذا وكذا، نهاك عن كذا وكذا. قال : فجبريل كيف كان يأخذ؟ قلت: على هذا المعنى من ميكائيل عليهما السلام. قال: فميكائيل؟ قلت: وميكائيل من الملك الأعلى على هذا الوجه. قال: فالملك الأعلى؟ قلت: يقذف اللّه في قلبه جميع ما تعبد به خلقه من الأمر والنهي والحلال/48/ والحرام، ويقرره في صدره، ثم يأمر بتنفيذ ذلك من ملك إلى ملك، ثم تهبط به رسل الملائكة بما أعطاهم الملك الأعلى إلى رسل الإنس، ويبلغ ذلك رسل الإنس إلى أممهم من الجن والإنس. قال: فكذلك يقذف اللّه في قلب محمد صلى اللّه عليه.
قلت: لا، لأنه سبحانه قال: {علمه شديد القوى}، وقال: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} [التكوين: 19،20،21]،قال: فسكت ساعة، ثم قال: الزيديون يقولون: إن الإمام يخرج من بطن أمه عالماً وطبعه العلم. قلت: هذا قول الإمامية، والزيدي هو: الذي ينكر عليهم هذا القول، ويحتج عليهم بقول اللّه عز وجل حين يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78]، فالإمام هو داخل في هذا الآية، ويحتجون أيضا بقول النبي عليه السلام: ((أنا عبد مخلوق مربوب لم أكن نبيا فتنبيت، ولم أكن رسولاً فأرسلت، ولم أكن عالماً فعلمت، فلا تقولوا فيّ فوق طولي)). وقال اللّه عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]، وقال سبحانه: {ووجدك ضآلا فهدى} يقول: جاهلاً بشرائع النبوة فهداك الله.
فقال: أليس عيسى قال: {إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30]،/49/عندما خرج من بطن أمه.
قلت: لكلام عيسى معنيان، أحدهما: أن قوماً رموا أمه بالزور والبهتان، فأعلمهم اللّه عز وجل على لسان عيسى عليه السلام، أنها بريئة من الدَّنس. والثاني: أنه سبحانه أراهم قدرته إذ نطق طفلاً في المهد بكلام الأنبياء، ليعتبر من سمع كلامه، ويزدجر عن الكلام الفاحش في أمه الطاهرة البرة التقية. وأما قوله: {وجعلني نبيا}، فالمعنى فيه أنه سيجعلني نبياً، كقول اللّه سبحانه في أهل الجنة: {ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار} [الأعراف: 50]، {ونادى أصحابُ الأعرافِ رجالاً يعرفونهم بسيماهم} [الأعراف: 48]، المعنى أنهم سينادون؛ لأنه لو كان نبياً عند كلامه هذا لهدى الناس إلى طاعة اللّه وأمرهم ونهاهم كما فعل بعد الأربعين سنة، كما قال اللّه سبحانه: {يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل وإذ تخلق من الطين كهئية الطيربإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بأذني وإذ تخرج الموتى بأذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي...إلى آخر السورة} [المائدة: 11،111]،/50/ ألا ترى أنه لما بلغ عليه السلام، إلى قوله: {والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}[مريم: 33]، وقف فلم يقدر على الكلام ثم أفصح بعد ذلك بكلام الأطفال لا بكلام النبوة، لأن كلام النبوة عزيز لا يحتمله إلاّ عقل، وحلم وافر، ولسان فصيح طلق ذلق، والطفل يعدم ذلك، ولذلك رفع عنه
خالقه العبادة عز وجل، ولم يتعبد أحداً إلا بعد أن أكمل عقله، وبعث رسولاً إلى خلقه إلا بعد بلوغ سنه، وهي أربعون سنة لقوله سبحانه وتعالى في صفيه نوح عليه السلام: {فلبث فيهم ألف سنة لإلا خمسين عاماً} وقوله سبحانه في صدِّيقه يوسف: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف: 21]، ويروي في الحديث أنه اجتمع هو وأبوه يعقوب بعد ثلاث وثلاثين سنة، وقوله لكليمه موسى عليه السلام: {ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنأيا في ذكري} [طه:40،41،42]، مع إجماع الأمَّة أن محمداً صلى اللّه عليه، أقام في نبوته ثلاثاً وعشرين سنة، ثلاث عشرة بمكة وعشراً بالمدينة، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، فعيسى كواحد من رسل الله، كما قال اللّه تعالى: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} [الزخرف:52]، صلى اللّه عليهم أجمعين.
ثم قلت له:ألستم/51/ تقولون: إن بعد محمد من أئمتكم من يوحى إليه غير وحي محمد؟
قال: نعم.