(16)مجلس [في الشفاعة]
قال أبو الحسين: وقعدت يوماً بـ(منكث) في جماعة من إخواني وجرى بيني وبينهم كلام، فقال لي رجل: ما تقول يا أبا الحسين، في الشفاعة من النبي صلى اللّه عليه وآله، هل تكون للمحسن أم للمسيء؟
فقلت: لا، بل للمحسن دون المسيء.
فقام إليَّ رجل كان من خدام أسعد، فقال: يا أبا الحسين، ليس يحتاج المحسن إلى الشفاعة، قال اللّه عز وجل: {ما على المحسنين من سبيل}.
قال: فقلت له: أقعد. فقعد، ثم قلت له: يا هذا، أخبرني عن نبينا محمد صلى اللّه عليه في كمال عقله ومعرفته بربه إذا كان يوم القيامه، فقال لربه: إلهي وسيدي، قد كنتَ أنزلت عليَّ كتاباً في دار الدنيا، تأمرني فيه أن أعلم جميع خلقك من الجن والأنس وآمرهم بطاعتك، وأعدهم عليها بثوابك، وأنهاهم عن معصيتك، وأتوعدهم عليها بعقابك، فأنا اليوم أسألك أن تبطل ذلك الوعد والوعيد وتصير المسيء مع المحسن، والمسلم مع المجرم، وهو مع ذلك يتلو قوله تعالى: { لايشفعون إلا لمن ارتضى/16/وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28]، والله يقول: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35]، ويقول تعالى: {إن رحمت اللّه قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، فهل ترى أن يجوز لرسول اللّه صلى اللّه عليه مثل هذا من القول؟
قال: فتحير.
ثم قال لي: أنتم يآ معشر الشيعة تقعون في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه.
فقلت له: أنت تعرفني وأنا أعرف منذ دهركثير، فهل سمعتني أقع في أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه؟
قال: أما أنت فلا، وأما أصحابك فنعم.
قلت له: يا هذا، أنا غير أصحابي وأصحابي غيري.
قال: إنما هم يقعون فيمن قد رضي الله عنه، ثم ذهب يعدُّ العشرة فلم يحسن.
فقلت له: تحب أن أحسبهم لك؟
قال: نعم.
قلت هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف.ثم قلت له: ما تقول هؤلاء العشرة؟
قال: هؤلاء الذين قال اللّه فيهم عز وجل: { لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم...الآية} [الفتح: 18].
قلت له: يا شيخ، مثلك على هذه السن وهذه الشيبة يطعن على أصحاب النبي صلى اللّه عليه، ويقع فيهم.
قال: كيف ذلك؟!
قلت: إذا كان عندك أن اللّه سبحانه لم يرض إلا على هؤلاء العشرة، فكأنه قد سخط على الباقين من أصحاب النبي صلى اللّه/17/عليه، ليس عندي أن مسلماً يتكلم بمثل هذا، أين ذو الشهادتين؟ وأين التيهان؟ أين المهاجرون والأنصار؟
ثم قلت له: يا شيخ، أنت تروي أنت وأصحابك أنه لا يجتمع القاتل والمقتول في موضع واحد.
قال: نعم.
قلت له: أليس قولكم إن القاتل خلع عن المقتول ذنوبه كما يخلع الإنسان لحافه؟
قال: نعم.
قلت: فأخبرني عن عثمان بن عفان أين قُتِل؟
قال: بالمدينة.
قلت: وعلي بن أبي طالب حاضر.
قال: نعم.
قلت: بلغك أنه نهنه عنه بيدٍ أوبلسان.
قال: لا.
قلت: فأخبرني عن طلحة بن عبيد اللّه في مصاف من قُتِل؟
قال: في مصاف علي عليه السلام.
قلت: فإلى من أُتي برأس الزبير بن العوام؟
قال: إلى علي.
قلت: فهؤلاء يجتمعون في مكان واحد؟!
قال: فتجبر.
ثم قلت له: يا شيخ، كلامكم ينقض بعضه بعضاً.
(17)مجلس [في قوم غرقوا في البحر]
قال: وسألني يوماً أهلُ عدن ونحن في الجبَّانة في يوم عيد، وقد كان قوم من أهل عدن ومن الغرباء ركبوا في البحر إلى بعض تلك البلدان، ثم جاءهم خبر أن المركب باق وأنهم غرقوا. قال: فأغتمّ لذلك أهل عدن وبكوا عليهم. وقالوا لي: يا أبا الحسين، ما تقول في هؤلاء؟ نحن نرجو أن يجعل اللّه تعالى عوضهم في رحمته.
قلت لهم: إن اللّه تعالى قد عرفنا بخلاف ما قلتم.
قالوا: وما ذلك؟
قلت: قال تعالى: {فيغرقكم بما كفرتم} [الإسراء: 69]، وقال: {فكلاً أخذنا بذنبه [إلى قوله] ومنهم من أغرقنا} [العنكبوت: 40]، وقال سبحانه: {مما خطيئآتهم أغرقوا/18/ فأدخلوا ناراً} [نوح: 25]، ففي كل هذا يخبر أنه لا يغرق مسلماً، فمن هذه الجهة قلت لكم هذا القول.
(18)مجلس [في صفة الراجي لرحمة ربه]
قال: وكنت قد كتبت لمحمد بن هيثم، إلى عدن كتاباً بالغاً في معرفة اللّه تعالى، ومعرفة رسوله وأهل بيته عليهم السلام، فبينا أنا ذات يوم بصنعاء إذ ذكرت محمد بن هيثم، فقال لي بعضهم: يا أبا الحسين، صديقك ابن الهيثم هاهنا اليوم يريد الحج. قال: فنهضت إليه، فوجدته في منزل ابن خلف، فسلمت عليه وفرح بمجيئي إليه.
ثم قلت: يا أبا عبدالله، ما حاجتك إلى هذه البلد؟ قال: أريد إلى مكة.
قلت: ما تعمل؟
قال: أحج.
قلت: تريد تغالب ربك ليغفر لك شاء أو أبى.
قال: فضحك.
ثم قال لي: يا أبا الحسين، تقف عندي حتى يأتي رفيق لي هاهنا، فوقفت وسألته عن رفيقه، فقال: هو: عبدالله بن المحاي، فلما جاء عرّفه بي، وقال: يا أبا محمد، هذا صديقي أبو الحسين الذي كنت أذكره لك. قال: فسلم عليَّ وأبتشّ بي وهمّ أن يقعد بين يدي، فقلت:ليس كل هذا إن تركتمونا نقعد معكم وإلا قمنا، ثم إن محمد بن الهيثم التفت إليه، وقال: يا سيدي، يا أبا محمد، تدري ما قال لي أبوالحسين؟ قال: وما قال لك؟ قال: قال: ما جاء بك إلى هذه البلد؟ فقلت له: أحج. فقال: أنت تريد تغالب ربك ليغفر لك شاء أو أبى.
قال: فقال المحاي لي: يا أبا الحسين نحن نرجو رحمة الله/19/.
قال: قلت: يا أبا محمد، إذا كنت ممن يرجو رحمة اللّه فطنت، وقد عرّفنا اللّه بأهل الرجاء لرحمته. فقال تبارك وتعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة الله} [البقرة: 218]، وروي أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه، أنه لما انصرف من جهاد بدر، قال: ((إنصرفنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر)) قالوا: يا رسول اللّه، أليس قد قَتلنا وقُتلنا وجَرحنا وجُرحنا. فقال عليه السلام: ((جهاد المرء لنفسه أشد من جهاده لعدوه)).
قال: وجاء رجل أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه، فقال: يا نبي اللّه، إليك الهجرة فإذا مت انقطعت الهجرة. فقال صلى اللّه عليه: ((يا أعرابي، إذا هَجَرتَ الخطايا والذنوب فأنت مهاجر ولو مِتَّ بالحضرة))، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وعلى أهله، أنه قال: ((الأيمان قولٌ مقول، وعملٌ معمول، وعرفان بالعقول))، فقد بينت لكم الجهاد، والهجرة عن النبي صلى اللّه عليه، والأيمان أيضاً. فهؤلاء أهل الرجاء لرحمة اللّه، فإن كنتم هؤلاء فهذا حسن، وإن كنتم من غيرهم فالقول ما شئتم. قال: فلم يجيروا جواباً.
(19)مجلس [في الجبر والشفاعة]
قال: وقلت يوماً لإهل صنعاء ـ بعد أن دخل ابن وردان صنعاء بعساكره وخرج منها، وقد قعدت مع نفر منهم في السرار فقلت لهم: أضرّ بكم هذا السلطان وعساكره. قالوا: نعم.
قلت: وفقهاؤكم وعلماؤكم، يقولون:/20/ليس لكم منهم نَصَفَة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أنهم اعتقدوا أن عيث هذا العسكر وعبثه كان بقضاء اللّه وقدره، فليس لكم أن ترغبوا إلى اللّه عز وجل وتسألوه أن ينصفكم من قضاءه وقدره، فتقولون: اللهم، انصفنا من قضائك وقدرك. والثانيه: أن علماءكم أيضاً رووا لكم أن النبي صلى اللّه عليه، قال: ((ادَّخَرْتُ شفاعتي لإهل الكبائر من أمتي))، فإذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه يشفع لهؤلاء، فما الذي تقع في أيديكم؟ ثم قلت لهم: أما نحن والحمدلله فنرجو لنصفه فيما يصيبنا من أعداء اللّه في الدنيا والآخرة، لأنَّا نعهد أن اللّه سبحانه لا يرضى بفعل العصاة، ولا يقضي بشيء منه، لقوله تعالى: {يقضي الحق} [غافر: 20]، وكذلك قولنا واعتقادنا في الرسول أنه لا يشفع لإحد من العصاة، لقول اللّه سبحانه فيه وفي إخوانه النبيين جميعاً: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28].
(20)مجلس [في الفرق بين الخروج عن أمر اللّه والخروج عن علمه]
قال: وجرى بيني وبين رجلٍ من كبار أهل صنعاء كلام، فقلت له: يا هذا، إن حجة اللّه عليك كمثل حجته على أبيك، وقد كان أبوك رحمه الله، يقول بعدل اللّه وتوحيده، وتصديق وعده ووعيده، وأنت تقدر أن تعمل مثل عمله لنفسك ما دمت في أوان المهلة.
قال: يا أبا الحسين، هو كما قلت، ولكن معي ها هنا شئ قد ضاق منه/21/صدري، وعيل منه صبري.
قلت: وما هو؟
قال: أخبرني أليس قد علم اللّه عز وجل أن فرعون لعنه اللّه يعصي، وأنه لا يطيع إذا أرسل إليه موسى، فهل كان قادراً أن يخرج من ذلك العلم؟
قلت: استمع، واعلم أن اللّه عز وجل علم أنه سيخلق موسى صلى اللّه عليه فخلقه، وعلم أنه يأمره فيختار الطاعة، فخلقه وأمره واختار الطاعة، وعَلِمَ أنه سيخلق فرعون الملعون، وأنه يأمره فيختار المعصية، فخلقه واختار المعصية. فما لك في هذا من حجه؟
قال: لم تبين لي بعد.
قلت: أنه يتبين لك في المتبوع ما لا يتبين لك في التابع، ما تقول في إبليس الملعون، هل لعنه اللّه تبارك وتعالى وتوعده بعذابه، وأمر خلقه بلعنته إلى يوم الدين، علىخروجه من أمره، أو على خروجه من علمه؟
قال: فتحير وابتهر ولم يرد جواباً.
قال: ثم قلت: قد بينت لك الحق، فارجع إليه، واعلم أن اللّه عزّ وجل إنما لعن إبليس على خروجه من أمره، لا على خروجه من علمه، لأنه لا يقدر أحدٌ من الخلق يخرج من علم اللّه أصلاً، فارجع إلى الحق وتعلق بكلمة الصدق، يكن ذلك خيراً لك في الدنيا والآخرة.
(21)مجلس [عن مكان الجنة]
قال: وقال لي أيضاً رجل من أهل (صنعاء): يا أبا الحسين، قد كنت حدثتنا مرةً بحديث طيب. وقلت لنا: إن الجنة تكون في الأرض، وأنَّا لا ننتقل من هذه إلى سماء ولا غيرها.
قلت له: يا هذا، ليس كلامي عليك ولا على غيرك حجة، وإنما الحجة علينا كتاب اللّه تبارك وتعالى، حيث قال وأخبر أن أهل الجنة يقولون: {الحمدلله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبؤا من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} [الزمر: 74].
(22)مجلس [في معنى قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس]
قال: ودخلت مرةً على أبي عبدالله محمد بن هارون الصيني، فقال لي: يا أبا الحسين، ما قول أصحابك في تفسير قول اللّه عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والأنس} [الأعراف: 179]؟ قلت: يا أبا عبدالله، قولهم فيه كقولكم، ـ أعني الهادي إلى الحق، وآبائه الطاهرين عليهم السلام ـ.
قال: فما قولهم؟
قلت: معناه عندهم، كمثل قول اللّه عز وجل: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8]، لما علم اللّه سبحانه أن آخر أمر موسى يكون لآل فرعون عدواً وحزناَ عرَّفنا به، وهم لم يأخذوه إلا ليسرهم؟
قال:لم يتبين لي.
قلت: يا أبا عبدالله، الذروذروانذرء الإبتداء وذرء الإعادة.
قال: لم يتبين لي.
قلت: يا أبا عبدالله، معنى قوله عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم} أي سيذرأ أولياؤه إلى ثوابه ويذرأ أعداءه إلى عقابه. قال: يا أبا الحسين، قوله عز وجل: {ذرأنا} فعل ماض. وقولك سنذرأ: فعل مستقبل، وهذا يخالف العربيه، ليس الفعل الماضي يرجع مستقبلاً/23/.
قال: حجتي يا أبا عبدالله، من كتاب الله، قال اللّه سبحانه: {ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة} [الأعراف: 50] {ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار} [الأعراف: 44] فما تقول؟ قد نادوا يا أبا عبدالله، قال: لا، ولكن معناه سينادون.
قال: قلت: وكذلك أراد أنه سيذرأ أولياءه إلى ثوابه وأعداؤه إلى عقابه. قال: ما أحسن ما جئت به في هذا المعنى.
(23)مجلس
قال: ولقيني يوماً علي بن القاسم العلوي، فعرّفني أنها ذهبت خيل لإبي القاسم بن خلف، وأن أبا القاسم استعان بأبي جعفر بن الضحاك وبهمدان وبني الحرث على المرهبيين، كي يردوها. قال: فقلت له: يا شريف، فعهدي بإبي القاسم يقول بالقضاء والقدر، فعلى معنى قوله: إن هذه الخيل أُخذت بقضاء من اللّه وقدرٍ، فكان يصبر للقضاء والقدر ولا يستعين بأحد، إن قضى أن يردوها إليه ردوها.
قال: فقال لي الشريف: فتمضي بنا إليه؟ فمضينا إليه، فلما قعدنا عنده، عرّفه الشريف بما كان من كلامي من جهة القضاء والقدر.
قال: فضجر والتفت إليّ، وقال: أنتم تقعون في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه، ثم تخاطب هو والشريف وأنا ممسك، ثم قال لي: فأنت مالك لا تتكلم وأول الكلام منك؟
قال: قلت: يا هذا، لست بكرياً، ولا عمرياً، ولا عثمانياً، ولا علوياً، فازداد ضجره.
فقلت: يا هذا، إنَّا لم نأتك لخصام، هل عندك شيء حلوٌ تطعمنا؟
قال:/24/فصاح أبو القاسم بأخيه أبي عيسى، وكلمه بينه وبينه بما لا أدري، ومضى أبو عيسى فأتى بخوانٍ عليه شئ من الحلوى.
قال: فقال أبو القاسم: صيحوا لنا بالضياع الذين في أسفل الدار. قال: فأتي بهم، وهم: ابن نبات، وإبراهيم بن عاصم المؤذن.
قال: فلما دخلا وضعنا نأكل. قلت لإبراهيم بن عاصم: يا إبراهيم، إعلم أني سمعتك وأنت تقول: حي على الصلاة فأجبتك، وحييتك وقمت، ثم لا أدري لأي الصلوات دعوتني في ذلك الحين لصلاة العشاء أم للعتمة، أم للصبح، أم للظهر، أم للعصر؟
قال لي: كنت مغبون إذا صليت في ذلك الوقت.