ـ جل جلاله ـ في كتابه المبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النساء:135].
ولا سيما وهذا السيد العالم متبع الرسوم، ومقتص الأثر في العلوم.
وقد اغتر بالاعتماد على ما حرره، والاستناد إلى ما قرره، كثير من أرباب الفهوم، وإلا فقد أفضى الجميع إلى رب العالمين، ونحن في أثرهم من اللاحقين؛ فالله نسأل، وبجلاله نتوسل، أن يصلي على رسوله وآله، وأن يوفقنا لما يرضاه منا، وأن يلحقنا بالصالحين، آمين.
[عودة إلى كلام صارم الدين في أقسام المجهول]
ونعود إلى المقصود في هذا المحل، من ذكر ما لا غنية عن الاطلاع عليه من علوم الحديث، وتحقيق القول فيه حسب السياق الأول؛ ولا بأس بإعادة أصل البحث من حيث بلغ في الفلك الدوار، وإن كان قد سبق لترتب الكلام عليه وسوقه على ذلك الاختيار.
قال السيد الإمام صارم الإسلام (ع): وقد يرد بجهالة الراوي؛ وهو إما مجهول العدالة، ورده أئمتنا، لا مجهول العشيرة.
قلت: وقد أصاب في عدم متابعة صاحب تنقيح الأنظار، في روايته عن الأئمة الأطهار؛ وهذه هي الرواية الصحيحة، المقررة بالنصوص الصريحة، على التحقيق، لا المجازفة والتلفيق.
ثم ساق الكلام في حكاية الأقوال، وبعضه مبني على ما ذكره صاحب التنقيح، من إضافته إلى محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ ونقل ذلك الاحتمال؛ وهكذا بنى غيره في كثير من هذه المقالات ـ كما أسلفت لك ـ على ما في تنقيح الأنظار؛ إلا فيما هو معلوم المخالفة، واضح المجازفة، لذوي البحث والاختبار؛ وقد مضى ما فيه تذكرة لأولي الأبصار.
قال صارم الدين (ع): ومبنى الخلاف على أن الأصل هو الفسق، أو العدالة، والظاهر أنه الفسق؛ لأنه أكثر، ولطرو العدالة.
وأما مجهول الضبط: فلا يقبل، وأما مجهول الاسم والنسب: فيقبلان /432
على الأصح.
وللمحدثين في الجهالة اصطلاح آخر.
قلت: قد سبق الكلام في ذلك مستوفىً، والحمد لله.
قال: وأسباب أخر يذكرونها، منها: أن تكثر نعوت الراوي، فيذكر ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح.
قلت: هذه إشارة إلى أنواع يذكرونها في علوم الحديث، وقد أشير إلى المختار، على وجه الاختصار، على حسب ترتيبه، وإن كان على غير نظام؛ وقد يسر الله ـ تعالى ـ شرح المهم شرحه على التمام، والله ولي الإنعام.
وهذا القسم الذي ذكره هو معرفة من له تعريفات متعددة من الأسماء، وهي: الأعلام.
أو الكنى، وهي المبدوءة بأب أو أم.
والألقاب، وهي: ما أشعر بمدح أو ذم.
أو الأنساب.
فقد يذكر الراوي بمتعدد منها، في مقامات مختلفة، من راوٍ واحد، أو جماعة؛ فيظن من لا خبرة له أنها لشخصين فأكثر، حسبما يذكر، وقد يفعل ذلك لقصد إخفائه أو تدليسه بمشارك له في التعريف المذكور؛ والأولى أن يعرف بالأشهر ـ كما ذكره ـ إن كان له أشهر.
وقد صنف في هذا النوع الخطيب البغدادي كتاب الموضح لإيهام الجمع والتفريق، وعبد الغني المصري كتاب إيضاح الإشكال، ومثلوا له بما استعمله الخطيب في روايته تارة عن أبي القاسم التنوخي، وتارة عن علي بن الحسن، وأخرى عن علي بن أبي علي المعدل، وكلها لشخص واحد.
قال (ع): أو يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وفيه الوحدان.
قلت: هو جمع واحد، وقد عدوا جماعة من الصحابة والتابعين، ممن لم يرو عن كل واحد منهم إلا واحد، وصنف في ذلك مسلم كتاب المنفردات والوحدان، وعند المحدثين لمعرفته ثمرة في معرفة مجهول العين، كما سبق الكلام فيه.
[الكلام على المبهم]
قال: أولا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات.
قلت: المبهم: من ذُكِرَ على وجه لا يعرف به، إما في الإسناد، كأن يقال: عن رجل، أو امرأة، أو فلان، أو نحو ذلك؛ أو في غيره، كأن يقال: سائل سأل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو نحوه؛ ويعرف المبهم بوروده مسمى في /433
مقام آخر، فالإبهام كثير الوقوع في كتب الحديث كلها؛ فلهذا صنفوا في معرفتها المبهمات، وممن ألف فيها عبد الغني، والخطيب؛ وأفرد ابن حجر في فتح الباري المبهمات الواقعة في البخاري، ولم ينسب إلى أحد ممن وقع الإبهام في سنده أنه يقبل المجهول؛ إذ لا دليل على كونه مجهولاً عنده، إلا ما وقع من السيد الحافظ محمد بن إبراهيم، ومن اغتر بنقله من نسبة ذلك إلى علامة العراق، وإمام الشيعة على الإطلاق، وولي آل محمد بالاتفاق، شيخ الإسلام، محمد بن منصور المرادي ـ رضي الله عنه ـ على فرض أنه أخذه له من هذا كما تقدم.
وقد قال محمد بن إبراهيم في التنقيح، ما لفظه: إن الإسناد إذا كان فيه عن رجل أو شيخ، فهو منقطع لا مرسل، في عرف المحدثين؛ قاله الحاكم، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام.
قلت: وقد تعقب ابن حجر على رواية ذلك عن الحاكم، ونقل كلامه فيه، وهو يفيد أنه ليس بمنقطع عنده، إلا إذا لم يوقف على معرفته.
قال في التنقيح: وأما الجويني، فقال: وقول الراوي أخبرني رجل أو عدل موثوق، من المرسل أيضاً، وكذلك كتب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ التي لم يسم حاملها؛ ذكره في البرهان.
قال زين الدين: وفي كلام غير واحد من أهل الحديث أنه متصل في إسناده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عن الأكثر، واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد في كتاب جامع التحصيل، انتهى.
قال محمد بن إبراهيم: وهو الصحيح؛ لأن من قال: عن شيخ أو رجل، فقد أحال السامع إلى رواية مجهول، فلا يحل له العمل بالحديث، بخلاف المرسل الذي جزم برفع الحديث، انتهى.
قلت: فهذا كلامهم؛ وغايته أن المبهم مجهول عند السامع كما ذكره، ولا دلالة أنه مجهول عند الراوي، وإنما أبهمه على غيره؛ ثم لو فرض أنه مجهول عنده، فلا دلالة على أنه يقبله، مهما لم ينص على ما يفيده، والجميع لا يقدحون /434
بوجود المبهم من الرواة، وإنما يبحثون عما أبهموه؛ فإن وقفوا عليه، عرفوه؛ وإن لم، عمل كل ناظر بمذهبه، كما حققوه.
قال ابن الصلاح: وكثير منهم لم يوقف على أسمائهم، وهو على أقسام، منها ـ وهو من أبهمها ـ: ما قيل فيه: رجل أو امرأة، ومنها: ابن فلان، أو نحو ذلك، ومنها: العم، والعمة، ونحوهما؛ انتهى باختصار.
وقد أورد الأمثلة، وهي واضحة، وكثير منها لا إبهام فيها حقيقة؛ إذ قد صار ما يذكر به معرفاً كاسمه العلم؛ والقصد المهم معرفة الحال، التي هي العمدة في القبول أو الرد؛ وكثير من الأبحاث التي يذكرونها ليس فيها كثير فائدة، وإنما هي من فضلات علم الرجال.
قال صارم الدين (ع): ولا يقبلون التوثيق المبهم، ولو بلفظ التعديل، وهو مقتضى قول من منع المرسل.
قلت: نحو: أخبرني الثقة، أو العدل؛ فهو عندهم غير مقبول، والحق أنه إن كان كذلك من عالم بأسباب الجرح والتعديل موافق في المذهب، فلا مانع من القبول، كما عرف في الأصول.
قال: فإن سمي وانفرد عنه واحد، فمجهول العين، فلا يقبلونه؛ والمختار قبوله إذا وثق، وفاقاً للأصوليين؛ فإن روى عنه اثنان فصاعداً ولم يوثق، فمجهول الحال.
قلت: المراد أن مجرد الرواية لا تخرج عن الجهالة، لا أنها شرط فيها.
قال: وهو المستور.
قلت: قد سبق الكلام فيه، وهذا أحد معانيه.
ومن معانيه عند بعض أهل الأصول: العدل مطلقاً؛ وهو مراد صاحب الجوهرة.
والعجب من الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير كيف نقل معناه في كلامه إلى معنى المجهول، وليس معناه ذلك في استعماله، واستدل به بعد ذلك إلى قبول صاحب الجوهرة وغيره من الشارحين للمجهول، مع أنه قد نصّ في الجزء الأول من التنقيح على ذلك، حيث قال: وقد ورد المستور في عبارات أصحابنا، والمراد به العدل، كما استعمل ذلك أهل الحديث.
قال الشيخ أحمد /435
بن محمد الرصاص في الجوهرة في شروط الراوي: إنها أربعة: أحدها: أن يكون الراوي عدلاً مستوراً ـ هذا لفظه، انتهى.
فاجمع بين هذا، وبين ما ذكره عن صاحب الجوهرة فيما سبق.
وقد حكيناه؛ ليتبين لك العجب، إن كنت ذا تبصرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التصريح]
قال صارم الدين: وقد يرد المسلم بارتكاب الكبائر تصريحاً، وهو إجماع.
قلت: إطلاق المسلم عليه، إنما هو بالنظر إلى أحد معنييه، وهو المعنى العام، الذي هو قريب من المعنى اللغوي؛ وأما معناه الآخر الخاص الشرعي، فهو بمعنى المؤمن شرعاً؛ ولا يستحقهما ونحوهما من أسماء المدح والتبجيل، إلا القائم بما افترضه الله عليه مما يوجب على تركه النار، المجتنب لكبير ما نهاه الله عنه، كما قام على ذلك الدليل، وهو قول علماء آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومن اتبعهم؛ وهو مشروح في محله من الأصول.
قال: وشذّ من قبل الصدوق منهم، بناء على أن الكبيرة مظنة تهمة، لا سلب أهلية.
قلت: وهذا ـ أي رد المصرح بالإجماع، وإن ظن صدقه بتحرزه وأنفته عن الكذب ـ مما يتضح به بطلان قبول فاسق التأويل؛ لوجود ما ذكروه من التعليل، وعدم الفارق في ذلك بين التصريح والتأويل، كما هو مقتضى الدليل.
وقد ضاقت بهم المسالك في ذلك، حتى عدل محمد بن إبراهيم الوزير لما أورد عليه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم هذا الإلزام، إلى القول بتخصيص العلة.
قال في التنقيح: فإن قيل يلزم قبول من ظن صدقه من المصرحين.
..إلى قوله: قلنا هذا مخصوص، وتخصيص العلة جائز...إلخ كلامه.
والجواب: أنه غير مسلم كون العلة في القبول ما ذكروه من ظن الصدق؛ بل المناط العدالة المحققة مع الضبط، وهي التي قام الدليل على قبول صاحبها بالإجماع، وما عداه ففيه النزاع؛ فالتعليل والتعميم والتخصيص لم تثبت ببرهان واضح، وإنما هو مجرد دعاوٍ، وحكاية مذاهب، كما لا يخفى على ذي نظر راجح.
وقد أكثر محمد بن إبراهيم المحاولة لجعل قبول المتأول قولاً لجميع /436
الزيدية، تارة بالتخريج، وتارة بالتقدير، ومرة بالإلزام؛ وأطال في ذلك الاضطراب والكلام، على نحو ما مرّ في المجهول ولم يقف على طائل ولا مرام.
وكذلك أطنب في تقرير الإجماع المدعى من أهل الصدر الأول، وسرد حكايات القابلين لهم من أئمة أهل البيت (ع)، وغيرهم.
ونقول: إن كان المراد أنه قد روي فلا نزاع؛ ولكنها روايات أحادية، لاتوجب القطع في هذا المقام الكبير، الذي هو عمدة في الدين، وطريقة إلى شريعة سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ ولم يذكر عن الحاكين للإجماع رواية واحدة، لا صحيحة ولا فاسدة، تتصل بالمدعى إجماعهم، أن أحداً منهم قبل خبراً أو فتيا عن مخالفيهم؛ وإنما هي دعاوٍ مجردة، توافقت عليها حكايات أهل هذه الأقوال؛ ولا يبعد أنها جميعاً مأخوذة عن ناقل واحد، تبع فيها الآخرُ الأولَ، كغيرها مما هو على هذا المنوال، مع أنها معارضة بروايات متصلة، عن المدعى إجماعهم، بالرد لأخبار مخالفيهم، هي أصح وأوضح.
فمن ذلك ما رواه الإمام الأعظم، بسند آبائه (ع)، في شأن الواقعة التي بعث معاوية قوماً يسألون عنها علياً، فقال ـ صلوات الله عليه ـ: لعن الله قوماً يرضون بحكمنا، ويستحلون قتالنا...إلى آخر ما في المجموع.
ففيه إنكار صحيح، بل لعن صريح، على الراضين بالحكم مع استحلال القتال، وأنهما متنافيان.
لا يقال: إنهم يستحقون اللعن لغير ذلك؛ لأنا نقول: نعم، ولكنه هنا رتبه على هذا الوصف، ولولا ذلك، لما كان لذكره فائدة، وطريقة الحكم والخبر واحدة.
ومنها: الرواية التي أخرجها مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيها: أنه أخبره كريب برؤية هلال رمضان بالشام، أنهم رأوه وصاموا.
ثم قال له: أو لا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال ابن عباس: لا، هكذا أمرنا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرج البخاري ومسلم عن مجاهد، قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه.
فقال له بشير: مالي أراك لا /437
تسمع إلى حديثي؟ أحدثكم عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولا تسمع؟!
فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ابتدرته أبصارنا، وأصغينا أسماعنا؛ فلما ركب الناس الصعبة والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
ومما أجاب به أهل المنع: ما ذكره ابن الإمام (ع) في شرح الغاية، حيث قال: وذلك لأنه لم يثبت أن أحداً من هؤلاء المتأولين أقام شهادة، أو روى خبراً عند من يعتقد فسقه؛ وظهر ذلك ظهوراً يقتضي أن ينقل ما جرى فيه، من ردٍ أو قبول، فقولهم: لو رد شيء من ذلك لنقل غير صحيح؛ لأن وجوب نقله مترتب على وقوعه.
فما لم يقع، كيف يجب نقل رده أو قبوله؟
ولو سلم وقوعه، فلا نسلم أن رده لم ينقل؛ كيف، وقد روى مسلم في صدر صحيحه عن ابن سيرين، قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل الابتداع، فلا يؤخذ حديثهم...إلى آخر كلامه.
والمسألة مستوفاة في محلها من الأصول؛ وفي رسالتنا المسماة إيضاح الدلالة زيادة تحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
[دوران الكلام إلى الخوض في المجروحين من الصحابة ونحوهم]
واعلم أنها عظمت الفتنة، وجلت المحنة، من أجل هذا التأصيل، ولم يتوقف الكثير على ما زعموه من قبول أهل التأويل؛ بل تعدى الحال، وتجاوز المجال، إلى قبول أهل الفسوق الصريح، والفجور القبيح، والاختلال، ومن وردت النصوص النبوية، المتواترة الضرورية، بكونهم منافقين، ومارقين عن الدين، مع أنه متفق على رد المصرحين، بإجماع المسلمين.
وقد أسلفنا من الكلام على هذا ونحوه ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
ولله الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، حيث قال في سياق كلام ما لفظه: اعلم أن كلاً من الفرق قد روى في مذهبه كثيراً الذي يصح عنده، ولا يصح عند غيره.
وساق في كلام المحدثين في النقد حتى في رجال الصحيحين، حتى قال: ولم يلجئ أول من عني بهذه الشبهة المضلّة، إلا كراهة أمير المؤمنين (ع)، وكراهة أهل بيته ـ عليهم /438
السلام ـ حين عرف أنه إن لم تتم لهم هذه الشبهة، لم يبقَ لهم أي طريق في عدم تفسيق من خالفه، وخالف أهل البيت، ولا أي ترخيص في الخروج عن سننهم القويم، وصراطهم المستقيم؛ فإنه لم يكن لهم طريق يدلون بها في هذه المذاهب الباطلة، إلا ما كان من رواية المجروحين من الصحابة، أو من اعتمد على أحاديثهم، وبنى على تعديلهم.
ثم قال (ع): فاعلم أنه لا يعتمد على شيء من الحديث.
قلت: أي من رواية المخالفين.
قال: إلا ما ثبت تواتره لفظاً أو معنى، أو ثبت تلقيه بالقبول من الأمة؛ لا سيما أهل الحل والعقد من أهل البيت (ع)، الذين هم قرناء الكتاب، والأمان لأهل الأرض.
ثم ذكر موجب ذلك، وأنهم حجة الإجماع، وذلك المذكور ـ يعني المتواتر، أو المتلقى بالقبول، أو الصحيح المقيدين بما ذكرنا ـ قليل جداً؛ وسائر الأحاديث إنما يذكرها من يذكرها، إما استظهاراً بها مع ظاهر قرآن أو سنة صحيحة، أو اشتهار بضم بعض إلى بعض من المحتملات، أو تقوية قياس ثبت به الحكم في المسألة، أو زيادة ترغيب في طاعة، أو ترهيب عن معصية، أو قطع حجاج خصم يقول بقبول مثل ذلك الحديث الذي لا يقول به المورد له والمحتج به، أو لبيان فساد مثل ذلك الحديث؛ لمخالفته القاطع من عقل أو نقل؛ أو صحيح من نقل، أو غير ذلك من الأغراض الصحيحة.
وحين تحقق هذه القواعد تعرف أن طرق أهل البيت (ع) في أمر الأحاديث أصحّ الطرق، وأحق التخاريج، من حيث سلامتها مما لحق غيرها، من فساد في الأصول والفروع، من حيث ما ورد فيهم من البراهين القاضية بتفضيلهم، مجتمعين ومفترقين؛ ولكون إجماعهم حجة قطعية، ومن أجل أنهم بيت النبوة، والأخصون بما لم يخص به غيرهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
انتهى المراد من كلامه (ع) [يعني شرف الدين].
وقد اخترت إيراده؛ لجريه على منهج الحق والتحقيق، ولكونه من المعتمد عليهم في الأسانيد؛ فيقف المطلع على مختاره في هذه الطريق؛ وله كلام، /439
أبسط مما ذكرنا في هذا المقام.
وقد سبق لنا بحث في ردّ التأويل والاحتمال، المدعى لمخالفي البراهين القاطعة من أرباب الضلال؛ وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، وصرح به نجوم الأئمة، وهداة الأمة.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التأويل]
واعلم ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ أيها الثاقب الفهم، الثابت القدم، المطرح لهواه، المتحري لرضاء مولاه، أن الموجب لتكرار الكلام، في أبحاث هذا المقام، هو كونها عمدة في أحكام دين الإسلام، وعليها مدار وأي مدار، في تبليغ الأخبار، عن ربنا الملك العلام، على لسان رسوله سيد الأنام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.
وكان معظم البحث في شأن المحاربين لإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وإن كان الخلاف فيهم وفي غيرهم، من المبتدعين الضالين، المخالفين لقواعد العدل والتوحيد، ومسائل النبوة والإمامة والوعد والوعيد، وجميع قواطع الدين، التي لم يعذر الله فيها أحداً من المكلفين؛ لأنهم مصدر الفتنة، ومنهم معظم المحنة، في لبس الحق بالباطل، والصدق بالكذب، ودعوى كون الجميع سنة؛ ولكونهم أصل كل خلاف وفساد في الدين، كما هو معلوم للمطلعين، مسلّم عند العلماء العاملين.
فأقول وبالله أصول:
إن القابلين لمن هم بزعمهم من المتأولين، كالمحاربين لأمير المؤمنين، وأهل بيته المطهرين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ طائفتان:
أما الطائفة الأولى: فهم موافقون في الحكم بما قضت به البراهين، على أولئك المحاربين، من الناكثين والقاسطين والمارقين، وغيرهم من المخالفين، في قواعد الدين، وحاكمون بضلالهم وفسقهم، بل وكفر بعضهم، وكونهم غير معذورين.
قالوا: ولكن من كان منهم مدلياً بشبهة، وهو المتأول، لم تبطل الثقة، وظن الصدق بخبره، ولكون ذلك الفسق والكفر مظنة تهمة، لا سلب أهلية؛ فمن ظن صدقه وجب قبوله، وهو المعتمد في القبول، كما هو مذكور في الأصول.
وهذا هو المسمى عندهم بفاسق التأويل، إنْ أقدم على ما يوجب الفسق، وكافره /440
إن أقدم على ما يوجب الكفر؛ ويسمونه أيضاً عدل الرواية لا الديانة؛ وإلى هذا ذهب من يقبلهم من العدلية.
ولكن أهل العرفان منهم والتحقيق، لم يقبلوا من تبين من أمره التمرد والعناد، والسعي في الأرض بالفساد، كما قدمنا عن الإمام المؤيد بالله، والأمير الحسين (ع)، وغيرهما من القابلين جرحهم لبعض من مال إلى جانب معاوية، فكيف بذلك المارد الطاغية؟!!.
وقد صرح الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد برد روايته، وسقوط عدالته؛ وكيف لا، وهو إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، في متواتر الأخبار؟
هذا، ونقول في الجواب عليهم: المقدمتان ممنوعتان:
أما الأولى: فكيف بقاء الثقة بمن وردت النصوص القاطعة عن الله - تعالى -، وعن رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ببغيهم في دين الله - تعالى - وخروجهم عن أمر الله - تعالى -، ومروقهم ونفاقهم، وفسقهم وشقاقهم، وكونهم حرباً لله - تعالى - ولرسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قد أوجب الله ـ تعالى ـ قتالهم، وأباح دماءهم وأموالهم؛ وهذا لا نزاع فيه بيننا وبينهم، وإن نازع فيه منازع، فإنه لما غمره من العناد أو الجهل؛ وقد قطعه البرهان القاطع.
فكيف لا تكون تلك البراهين المعلومة مبطلة للثقة، رافعة لظن الصدق؟!!.
وهلا جعل الجرح بالنصوص من الله ـ تعالى ـ ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بمثابة جرح أحد المعتمدين من شيوخه.
أمْ كيف يكون مُعْتَمَداً عليه، مركوناً إليه، صادقاً، مَنْ صار في حكم الله ـ تعالى ـ ناكثاً أو قاسطاً أو مارقاً، أو منافقاً كافراً أو فاسقاً؟
وأنى لكم بعدالة من كان مشاقاً لرب العالمين، ولرسوله الأمين، مبتدعاً في الدين، متبعاً لغير سبيل المؤمنين؟
فأين تذهبون، ما لكم كيف تحكمون؟
ولعمر الله، إنه ليظهر أنه ما حملهم على قبولهم إلا ضيق مجال الرواية، إن اعتبروا عدالة الديانة؛ ولكن الحق اتباع الحجة، وحكم الكتاب والسنة، وإن أدى إلى ما أدى إليه ذلك، من ضيق المسالك؛ وأَهْوِن بدين /441