ـ رضي الله عنه ـ، وأبو طالب، وأهل الحديث، عن علي (ع) أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه، فإذا حلف له قبله.
قلت: المروي عن الوصي ـ صلوات الله عليه ـ أنه كان يحلف الرواة على الإطلاق، حتى الشهود على رؤية الهلال، رواه في المجموع؛ وليس ذلك إلا للاحتياط لا للتهمة؛ إذ لو كانت لما قبلهم، وإن حلفوا؛ ولو كان ذلك يدل على جهالتهم، لكان جميع الرواة من الصحابة وغيرهم مجهولين لديه.
وعلى الجملة، ليس في هذا دلالة على قبول المجهول ولا شبهة، والتأكيد بكل ممكن حسن، في كل ما كان غير متيقن؛ بل وفي بعض المتيقن، فإن بعضه أقوى من بعض، كما هو معلوم عند أرباب الفطن.
قال: وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول.
قلت: بل المشهور خلافه، وكتبهم بذلك شاهدة.
قال: وذكر محمد بن منصور، صاحب كتاب علوم آل محمد، أنه يرى قبول المجاهيل؛ ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم.
قلت: قد سبق الكلام في سند الأمالي في ردّ ذلك، وقد وقع الإملاء لكتابه من أوله إلى آخره، في نسخ عديدة، مرة بعد مرة، فلم نجد فيه لفظة واحدة من ذلك، وسبق توجيه ما يقدّر أخذه له منه، وأنه مأخذ غير صحيح؛ فخذه من هنالك موفقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ.
[مناقشة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير لأصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة]
هذا، وقد ناقش محمد بن إبراهيم الوزير أصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة، مناقشة حسنة، وأورد عليهم فيها إيرادات مستحسنة، والذي يغلب أنه لو أوردها عليهم شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم (ع) لناقضها أبلغ المناقضة، وردها أبلغ الرد؛ لأنه فعل ذلك في جميع ما أورده عليهم مما هو أقوى وأضر، وأدهى وأمر.
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلّم
فالمسؤول من الله ـ سبحانه ـ التوفيق والسداد، في كل إصدار وإيراد، ولا /422
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقال: وقول المحدثين: إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل، إما لفظاً فقط، أو لفظاً ومعنى؛ فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي.
قلت: قد سبق كلامه، وأنه المراد.
قال: من أنهم عنوا بذلك من رُجع في عدالته إلى أقوال المزكين، أشكل عليهم ذلك لفظاً؛ لأن هذا المعنى صحيح، ونحن نقول به.
قلت: هذا عجيب؛ كيف يقول: ونحن نقول به، والقلم لم يجف في الاحتجاج على قبول المجهول، بكل غث وسمين، من المعقول والمنقول؟!.
قال: ولكن هذه العبارة ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن الراوي؛ وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك؛ لأن المزكي إنما عرف الظاهر، ثم أخبرنا به، فقلدناه فيه.
قلت: ليس قبول خبر المزكي من باب التقليد، وإنما هو أخذ بموجب الدليل، الدال على قبول أخبار الآحاد العدول في هذا وغيره؛ وقد سبق له التصريح بأنه ليس بتقليد في هذا الكتاب، وهو الصواب.
قال: فكيف لا نحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرفه المزكي من غير واسطة خبرة وتقليده؟
قلت: هذا يفيد أنهم لا يعتدون بالخبرة، ولا يقبلون إلا قول أهل التزكية؛ والظاهر أنهم لا يقولون بذلك، ولا يذهب إليه عاقل؛ لأن الخبرة أقوى من التزكية قطعاً، وقد تقدم في كلام ابن الصلاح ما يدل على ذلك، حيث قال: وتعذرت الخبرة الباطنة بهم...إلخ.
قال: فإن قالوا: المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة، وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام.
قلنا: من لم يعرف بغير مجرد الإسلام، فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام المجاهيل، وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما، ولا يرتفع عنهما إلا بخبرة.
فإن قالوا: العدالة الظاهرة ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن، والباطنة ما عرف بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب؛ وسموا الظن المقارب للعلم علماً دون مطلق الظن، تخصيصاً بما هو أولى به؛ فإن مطلق الظن قد يسمى علماً، فكيف بأقواه؟ /423
قلنا: الظن في القوة لا ينقسم إلى قسمين فقط، ولا يقف على مقدار، ولا يمكن التعبير عن جميع مراتبه بالعبارة؛ ومعرفة المزكي لكون ظنه مقارباً، أو مطلقاً، أو وسطاً بين المطلق والمقارب، دقيقة عويصة، وأكثر المزكين لا يعرف معاني هذه العبارات، بل ولا سمعها؛ وهي مولدة اصطلاحية؛ ولو كلف كل مزكٍ أن يزكي على هذا الوجه لم يفعل أو لم يعرف؛ ولم تزل التزكية مقبولة قبل حدوث هذه الاصطلاحات؛ والعدالة حكم منضبط تضطر إليها العامة في الشهادة في الحقوق والنكاح، ورواية الأخبار، وقبول الفتوى من المفتي، وصحة قضاء القاضي؛ فتعليقها بأمر خفي غير منضبط بغير نص يدل على ذلك، ولا عقل يحكم به غير مرضي، بل مطلق الخبرة المفيدة للظن كافية، وتزكية المزكي لا تفيد غير ذلك.
قال: وأما الوجه الثاني: وهو اختلال عباراتهم لفظاً ومعنى، فذلك إن أرادوا أنها على ظاهرها، ولم يتأولوها بالتجوز، وذلك أن يقولوا: العدالة الظاهرة هي ما عرف بالخبرة الموجبة للظن، والعدالة في الباطن والظاهر هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية، مثل: عدالة المشاهير المتواترة عدالتهم، مثل العشرة من الصحابة.
قلت: هذه إشارة إلى ما رووه في العشرة من البشارة، وقد جمعهم المؤلف محمد بن إبراهيم في قوله:
للمصطفى خير صحب نصّ أنهم .... في جنة الخلد نصاً زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير كذا .... أبو عبيدة والسعدان والخلفا
وقال غيره:
علي والثلاثة وابن عوف .... وسعد منهم وكذا سعيد
كذاك أبو عبيدة فهو منهم .... وطلحة والزبير ولا مزيد
ولم يصححه آل محمد صلوات الله عليهم.
قال: وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر، وأمثالهم من أهل ذلك الصدر، ومثل زين العابدين، وسعيد بن المسيب من التابعين.
قلت: المسيب بضم الميم، وفتح المهملة، /424
وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، ثم موحدة؛ أفاده السيد الإمام في الطبقة الثانية.
قال: ابن حزن، (بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، وبالنون) بن أبي وهب القرشي، أبو محمد المخزومي، وذكر أنه ولد لسنتين من خلافة عمر، وأنه جمع بين الفقه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، وأنه روى عن علي، وابن عباس، وأبي ذر، وجابر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، وعن أنس حديث الطير.
..إلى قوله: توفي سنة أربع وتسعين، عن تسع وسبعين.
خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة، والسمان، انتهى.
قال: والحسن البصري، ومثل: إبراهيم بن أدهم من المتعبدين.
قلت: سيأتي ذكرهما في الفصل المستقل لذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: ومثل القاسم، والهادي من الأئمة الهادين.
فلهم أن يقولوا: عدالة هؤلاء معلومة ظاهراً وباطناً، وليس ذلك من قبيل علم الغيب، بل من قبيل العلم الصادر عن القرائن، مثل: الخبر بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين الناس واستقامته لمن يعزيه، وبكاء النسوان في بيته، واجتماع الناس للتعزية إليه، وظهور الجنازة، ونحو ذلك.
وكبار الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة، وظهر عليهم من القرائن ما يوجب علم ذلك.
فالجواب عليهم: أن هذا يختل عليهم من وجهين:
أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا.
..إلى قوله:
وثانيهما: أن العدالة في الراوي تشتمل على أمرين:
أحدهما: في الديانة التي تفيد مجرد صدقه، وأنه لا يتعمد الكذب.
وثانيهما: في الحفظ؛ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة، فلا يصح العلم الضروري بأن الراوي لم يخطيء في روايته عن غير عمد، ولا قائل بذلك؛ على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم الأقلون عدداً؛ ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة إسناد غالباً، وقد نص مسلم على أنا لا نجد الحديث الصحيح عند مثل: مالك، وشعبة، والثوري، فلا بد من النزول إلى /425
مثل: ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب.
فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة لكثير من الرواة، وتفطن لذلك في كتب الجرح والتعديل، والله أعلم. انتهى كلامه.
وبذلك تم البحث الذي ساقه في المجهول من التنقيح، إلا أنه أشار إليه في معرفة الصحابة، فقال: وأما القول بعدالة المجهول منهم ـ أي الصحابة ـ فهو إجماع أهل السنة، والمعتزلة، والزيدية؛ قال ابن عبد البر في التمهيد: إنه مما لا خلاف فيه.
قال: أما أهل السنة فظاهر.
قلت: لقولهم بعدالتهم على الإطلاق، وعدم تخصيصهم لأهل البغي والنكث والمروق والنفاق.
قال: وأما المعتزلة فذكره أبو الحسين، في كتابه المعتمد في أصول الفقه.
قلت: قد تقدم كلامه في ذلك، وهو لا يفيد مدعاه.
قال: بل زاد على المحدثين؛ ذهب إلى عدالة أهل ذلك العصر، وإن لم يروا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وذكر الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي مثل مذهب المحدثين، في كتابه شرح العيون.
قلت: قد ذكر نص كلامه في الروض الباسم، وهو ما لفظه: إن أحوال المسلمين كانت أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مستقيمة مستغنية عن اعتبارها، انتهى.
فهو مثل كلام أبي الحسين لا يفيد ما نسبه إليه، وإلى المعتزلة، وهو كثير التخريج على الأقوال بما لا تقتضيه؛ وقد سبقت روايته عن محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ، وإضافتها إلى كتابه، ولم توجد فيه.
قال: وروى ذلك ابن الحاجب في مختصر المنتهى، عن المعتزلة.
قال: وأما الزيدية فإنهم يقبلون المجهول سواء في ذلك عندهم الصحابي وغيره.
قلت: هذا النقل عنهم غير صحيح، وكتبهم مصرحة بخلافه، فالرجوع إليها هو الحق؛ وقد تحقق اضطراب نقله في الأقوال، وأخذ كثير منها بمجرد التوهم والاستدلال.
ويدلك على ذلك أنه في هذا /426
المحل من الروض الباسم، قال ما لفظه: فقد ذهب أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية.، انتهى.
وقال فيما سبق: هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول...إلخ انتهى.
وقد نقضه في آخر هذا البحث بروايته عن المتأخرين لرده؛ وانظر إلى مستنده في رواية قبوله، فهو واضح الاختلال.
قال في التنقيح: ذكر ذلك الفقيه عبدالله بن زيد في الدرر المنظومة.
وفي هذا المحل من الروض الباسم، قال: ذكره في الدرر المنظومة بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم.
فقطع هنا على العبارة المحتملة، وجعلها عمدة نقله.
قال في التنقيح: وهو أحد قولي المنصور بالله، ذكره في هداية المسترشدين.
وقال في موضع منه: وأما المنصور بالله، فله في ذلك كلمات مختلفة في أماكن من كتبه متفرقة؛ من ذلك: كلامه في كتاب هداية المسترشدين، واحتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعتاب بن أسيد، ثاني يوم من إسلامه.
فتارة يجعله على القطع أحد قوليه، وتارة أنه ذكر ما يقتضيه، وهو من تخريجه الذي لا يسلم له فيه؛ ومرة أن له كلمات مختلفة في مواضع متفرقة، واعتمد على كلامه في هداية المسترشدين، وهو احتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ...إلخ.
ولا دلالة في ذلك بتصريح ولا اقتضاء:
أما أولاً: فقد تقدم الكلام في شأن الداخل في الإسلام، وأنه يجب ما قبله، ولم يحدث ما ينقض العدالة بعده، وأنه لا حجة فيه؛ لجواز معرفته بعدالته.
وأما ثانياً: فقد قال هو في ذلك البحث: وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر.
قال: لكن المنصور ذكر أنه ولاه على القضاء، فيما حكى لي بعض أهل العلم.
وعلى الجملة، فغرضنا /427
حاصل بكلام المنصور؛ فإن القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصحابة.
قلت: لكن لم يصح، فليس في كلام الإمام هذا دلالة على قبول المجهول بوجه؛ وإنما هو مجرد استخراج، واضح الاعوجاج، وهو مع ذلك كلام في صحابي واحد، وقد جعله في التنقيح عمدة الحكاية عنه في قبول المجهول على الإطلاق، صحابي وغيره؛ كما سبق.
وفي الروض خرج له من ذلك الاحتجاج حجة على عدالة جميع الصحابة، حيث قال: وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ منه عدالة الصحابة كلهم، على أنه قد ثبت في كلام غير واحد من الزيدية أنه يقبل المجهول من جميع المسلمين، الصحابة وغيرهم.
هذا نص كلامه؛ ولا يخفى ما في هذا كله من الخبط العظيم، والخلط الجسيم، والمأخذ السقيم، والتخريج الذي لا دلالة عليه بمنطوق ولا مفهوم، ولا خصوص ولا عموم.
قال في التنقيح: وهو أحد احتمالي أبي طالب في جوامع الأدلة، وأحد احتماليه في المجزي.
وقال في الروض الباسم: وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب جوامع الأدلة، وتوقف فيه في كتاب المجزي، وذكر أنه محل نظر، انتهى.
قال في التنقيح: وهذا المذهب مشهور عن الحنفية، والزيدية مطبقون على قبول مراسيل الحنفية؛ فقد دخل عليهم حديث المجهول على كل حال، وإن كان المختار عند متأخريهم رده، فذلك لا يغني مع قبولهم مراسيل من يقبله؛ والقصد بذكر هذه الأقوال أن لا يتوهم أن المحدثين شذوا بهذا المذهب.
قلت: وهذا مسلك من الاستدلال عجيب، لا يخفى ما فيه من الاختلال على ذي نظر مصيب؛ فأولاً: إن تقرير كونه مذهب الحنفية غير صحيح، مع أن المنقول عن أبي حنيفة ـ لا غير ـ قبول المجهول، وهو مختلف في تحقيقه، ومنقسم إلى أقسام عديدة؛ فالرواية عنه مجملة غير مفيدة، وقد أنكرها بعضهم.
وقال بعد كلام طويل ساقه: وبهذا تعلم أن ظاهر مذهب الحنفية عدم قبول رواية /428
المستور كغيرهم، وإنما جعله بعضهم قول أبي حنيفة إنما هو رواية عنه، على خلاف ظاهر المذهب...إلى آخر كلامه.
وقد قال سيد المحققين الأعلام، الحسين بن الإمام (ع) في شرح الغاية، في قبول خبر المجهول: ولا قائل به على الإطلاق؛ فإن أبا حنيفة لم يقل بقبوله مطلقاً، بل إلى تابع التابعين.
انتهى المراد منه وقد سبق.
ثانياً: إن دعوى إطباق الزيدية على قبول مراسيل الحنفية دعوى مجردة عن البرهان، واضحة التهافت والبطلان، والذي يروي عنهم للاحتجاج الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد، روايات محررة الأسانيد؛ وإن روى راوٍ من أئمتنا (ع) عنهم، أو عن غيرهم للمتابعة والاستشهاد والتأييد، فذلك شأن علماء الأمة، لا يجهله من له أدنى مسكة؛ على أن علماء الحنفية ليسوا بمجروحين، ولا موسومين بما رماهم به من قبول المجهولين، عند أعلام الزيدية.
ولكن أهل بيت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أعلم بما أنزل الله تعالى في كتاب ربهم، وسنة نبيهم، من حنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية، وسنية، وظاهرية، وحشوية، وجميع فرق البرية؛ وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ولعمر الله، إنه لينقضي من هذا السيد العالم الحافظ العجب، ويذهب الفكر كل مذهب؛ ولقد كفى مؤنة الرد والنقض، بتناقض كلامه ومدافعة بعضه لبعض، فلا محوج مع ذلك لإيراد بيان، ولا إقامة برهان، بل الإنسان على نفسه بصيرة؛ فتارة يدعي على الزيدية الإجماع، وتارة يحكي عنهم الخلاف، ومرة يذكر القطع على الأقوال، ومرة ينقل التردد والاحتمال، وحالة ينسبها على جهة التصريح، وأخرى على وجه تخريج غير صحيح؛ ولم /429
يزل يكرر ذلك في كتبه، ولم يورد عن واحد من أئمة العترة نصاً يعتد به؛ وليس في يديه بإقراره إلا تلك الرواية عن القاضي عبدالله بن زيد المحتملة، وغايتها الحكاية لمذهبه.
ومما يزيدك أيها الناظر المنصف في البيان ـ وإن كان فيما سلف أوضح برهان ـ كلامه في هذا البحث الذي حكاه عنه ابن بهران.
قال ما لفظه: منقول من كتاب القواعد لسيدي العلامة عز الدين محمد بن إبراهيم.
..إلى قوله: اعلم أن أهل الحديث أجمعوا على أنه لابد من معرفة الراوي بالعدالة التامة، إما بالخبرة، وإما بخبر العدل المأمون؛ وذهبت الحنفية إلى قبول المجهول، وقالوا: لا يرد إلا من تحقق فسقه.
..إلى قوله: وذكر هذه المسألة أبو طالب في كتاب المجزي، وقال: يحتمل أنه يقبل، ويحتمل أنه لا يقبل، وهي مسألة نظر، ولم يقطع فيها بشيء.
...إلى قوله: وأما مذهب أصحابنا، فلم يتعرض هو ولا غيره لحكايته، إلا الفقيه العلامة عبدالله بن زيد صاحب الإرشاد، فإنه قال: مذهبنا قبوله؛ قال ذلك في كتاب الدرر المنظومة في أصول الفقه.
[تناقض كلام الحافظ في النقل عن الزيدية في المجهول]
وأما صاحب الجوهرة، فلم يورد لأهل المذهب شيئاً في ذلك، لكن روى عن شيوخه أن رواية المجهول لا تقبل.
قلت: انظر إلى هذا، وإلى ما سبق له من حكاية المذهب، ورواية النص عن صاحب الجوهرة.
قال: وقال المنصور بالله (ع): العدالة عندنا لا تشترط إلا في أربعة: في الإمام الأعظم، وإمام الصلاة، وفي القاضي، والشاهد؛ ذكره في كاشف الغمة، ولم يذكر اشتراطها في راوي الحديث.
قلت: يالله العجب من هذا الكلام! أما كان ينبغي له التحاشي عن نسبة الإمام إلى ما لم يقل به أحد من الأعلام؟ فإن الذاهب إلى قبول المجهول لم يقل: لا تشترط العدالة بالمرة، وإنما يقول: إنها الأصل في المسلمين، فلا يحتاج إلى الخبرة ولا نقل المزكين؛ وأما أنها لا تشترط أصلاً، فلم يعلم عن أحد من أهل العلم.
وعلى فرض صحة هذا الكلام عن الإمام (ع)، أما كان ينبغي له أن يخصص /430
هذا المفهوم، بما له في مؤلفاته من النص المعلوم، أو يلحق اشتراط عدالة الراوي بعدالة إمام الصلاة، فإنه من باب الأولى قطعاً؛ وهو يغني عن النص عليه، كما أغنى النص على التأفيف عن ذكر الضرب وغيره، فلو لم يكن له نص سواه لكفاه؛ فكيف ونصوصه ترد هذا التخريج الفاسد وتأباه؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال في هذا الكتاب ـ أي القواعد ـ ما لفظه: ولم يحصل لنا في مذهب من تقدم من أهل المذهب طريقة صحيحة صريحة؛ لعدم لهجهم بهذا.
ثم ذكر الرواية المحتملة عن القاضي عبدالله...إلى آخر ما ذكره.
قلت: وهذا إقرار بأن روايته عنهم ليس لها أصل ولا قرار، وأن جميع ذلك بناء على أصل منهار؛ وهنا قد صرح بأنه لم يحصل له طريقة صحيحة صريحة إلى مذهب المتقدمين، وفيما سبق حكى الخلاف عن المتأخرين؛ فمن بقي له على الإجماع الذي يدعيه؟ وأي مسلك في ذلك يقتفيه؟
ولا يقال: يحمل على أنه قال هذا قبل أن يحصل له طريق، ثم قال ذلك بعد أن حصل له تحقيق؛ لأنه يقال: لا يتجه له هذا المنهج، ولا سبيل إلى تقويم ذلك العوج؛ فقد تكررت منه المناقضة، وتحققت له النقولات المتعارضة، في بحث واحد، ومقام منفرد، بما ينقض قوله الأول الآخر، مع بيان مستنده، وإيضاح معتمده، الذي لم يزل يكرره على تصريف التعبيرات، وتنويع التحريرات؛ ولئن فُرِض صحة الجمع في مقال، فلا يمكن في جميع الأقوال بحال، فهو من المحال؛ فهذا الذي طال فيه المجال، وتباعد عنه الانفصال، في مقام واحد من الأقوال.
[كون الشغب وحدة الجدال حملا الحافظ على الانتحال]
وكل ذلك من السيد الحافظ في مقابلة قول شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم ـ رضي الله عنهم ـ: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرواة...إلخ، كما هو مذكور في الروض الباسم؛ لأنه يبلغ في كل مادة جرى فيها بينهما الجدال، كل ممكن في الرد عليه والإبطال، ومحاولة النقض لكلامه بكل حال.
وقد علم الله ـ سبحانه، وهو بكل شيء عليم ـ أن ليس المقصود فيما سقته، ولا الغرض بما حققته، إلا بيان الحق للطالبين، والقيام بشهادة القسط التي أمر الله ـ تعالى ـ بها بقوله /431