قال صلاح الإسلام (ع): وقوله: في العمليات، إشارة إلى أن دلالته في العلميات قطعية؛ لامتناع تأخير البيان عن وقت الخطاب فيها، وقد سبق تقرير ذلك في العموم والخصوص.
قلت: هكذا كلام أكثر المؤلفين في الأصول، أن دلالة الظواهر كلها في العمليات ظنية، وإن كانت باعتبار السند قطعية للاحتمال المرجوح.
وأقول، والله ولي التوفيق، إلى منهج التحقيق: إن كلامهم في ذلك غير متين ولا واضح، فإنه يقطع على إرادة الحكيم للمعنى الراجح فيما علم وروده، ولم يصدر منه دليل قطعي سنده على إرادة المعنى المرجوح، حتى يكون العدول إليه بحجة مقاومة للمعنى الراجح، وخلاف ذلك إلغاز وتعمية، يتعالى عنها الحكيم العليم.
وأما ما يحتجون به من الاحتمال، فلا نسلم بقاءه مع هذه الحال؛ وأيضاً ذلك الظني السند، وإن كان نصاً في الدلالة، فأوجه الاحتمال فيه أكثر؛ إذ يحتمل الكذب والخطأ من الراوي، والوهم، والنسخ، والمعارضة؛ ومع هذا، فقد يكون محتملاً في الدلالة، بل لعله لا يتحصل دليل مقطوع به على مقتضى ما ذكروه، فإن الأعلام، والعشرة، وهي أوضح ما مثلوا به للنصوص الجلية، قد ورد التجوز بها في غير ما وضعت له، كما أورده الجلال والرازي، فلا يبقى نصّ ولا قاطع على هذا للاحتمال.
قال في الورقات وشرحها: والنص ما لايحتمل إلا معنى واحداً كزيد في: رأيت زيداً.
قال في شرح جمع الجوامع: فإنه مفيد للذات المشخصة من غير احتمال لغيرها.
ولقائل أن يقول: إن أريد من غير احتمال لغيرها حقيقة، فالظاهر كذلك، /352

أو مجازاً، فهو ممنوع بناء على أن المجاز يدخل الأعلام، وقد سبق بيانه، انتهى.
وعلى الجملة، إن فتح باب الاحتمال يتسع معه المجال، ولكنها كلها احتمالات لا تضر، ولا تقدح في الدليل القرآني أو النبوي، المعلوم صدوره عن الله ورسوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، ولو سلم على الفرض أن دلالته غير معلومة، فلا ريب أنه مما أنزل الله، وأنه على كل حال أصح وأرجح.
وقد بسطتُ الكلام في هذا البحث في فصل الخطاب، والله الموفق للصواب.
قال في الفصول: وهو ـ أي الظاهر ـ إما بالوضع لغة: كالأسد، أو شرعاً: كالصلاة، أو بالعرف: كالدابة.
قلت: الأول: حقيقة لغوية في الحيوان المفترس، والثاني: شرعية في العبادة المخصوصة، والثالث: عرفية عامة في ذوات الأربع.
قال: وقد يصير نصاً لعارض.
قال صلاح الإسلام: كما إذا اقترن بالحقيقة قرينة قطعية ناصة على إرادة المعنى الأصلي، فإنه يكون نصاً في ذلك الشيء بسبب القرينة، نحو: قولنا: رأيت أسداً يفترس بقرة بمخلبه.
قلت: وكما إذا خاطب الحكيم بالحقيقة، ولم ينصب على إرادة غيرها قرينة، وكذا إذا نصبت القرينة القطعية الصارفة عن الحقيقة، فإن إرادة المجاز تصير معلومة بتلك الطريقة.
قال في الفصول: ويسمى النص، والظاهر: محكماً، ومبيناً.
والمؤول، وهو: الظاهر المحمول على المعنى المرجوح لدليل قطعي، أو ظني يصيره راجحاً ـ ولذلك رد كثير من التأويلات ـ يسمى: متشابهاً.
قلت: فالمحكم مشترك بين النص، والظاهر؛ ومميز الظاهر الاحتمال، والنص عدمه.
والمتشابه مشترك بين المجمل، والمؤول؛ ويميز المجمل كون /353

دلالته غير واضحة، والمؤول بخلافه.
هذا، والمفهوم بخلاف المنطوق السابق، وذلك واضح، وتفصيل الأقسام والأحكام مشروح في كتب الأصول مستوفى الكلام، وإنما أشرت بما يحتمله المقام؛ لما في ذلك ـ إن شاء الله ـ من الفوائد الجسام.
وقد اتضح بهذا ما أشار إليه المؤلف (ع) من الأقسام، ولنعد إلى تمام الكلام.
[الكلام على المختلف والمردود]
قال (ع): وإن عورض، وأمكن الجمع، فهو مختلف الحديث، وتعرف كيفيته بأصول الفقه.
قلت: ومعظم مداره على أبواب العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، ومسالك الترجيح، وغيرها مما لا يخفى على ذي النظر الصحيح.
قال (ع): وإن لم يمكن وعلم التاريخ، فهو الناسخ والمنسوخ، ولأئمتنا، وغيرهم، فيه مصنفات. قلت: ومن أجلّ مؤلفات أئمتنا فيه كتاب الناسخ والمنسوخ لصنو إمام الأئمة، وفخر أعلام هداة الأمة، العالم الكريم، عبدالله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم أفضل التحيات والتسليم ـ وغير ذلك مما قد سبق ذكره في هذا المجموع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: وإلا فالترجيح إن أمكن، وإلا فالوقف.
قلت: أي يطرح المتعارضان مع عدم إمكان الجمع بأي وجه، وعدم معرفة التاريخ، ويرجع في حكم ما وردا فيه إلى غيرهما، من شرع، أو عقل؛ كما علم في الأصول.
قال: والمردود قد يكون كذبه معلوماً عقلاً ضرورة؛ كمخالفة قضية العقل المبتوتة الضرورية، كقبح الظلم، وحسن شكر المنعم.
قلت: القضايا المبتوتة هي: المقطوعة، التي لا يمكن أن تتغير بحال، /354

وتسمى المطلقة، وهي عقلية اتفاقاً؛ وإن ورد الشرع بتقريرها، فهو مؤكد، ولا يقال لها شرعية.
ويقابلها المشروطة، وهي التي يمكن أن تتغير، ومعنى كونها مشروطة، أن العقل يحكم فيها بحكم مهما كانت على تلك الصفة، كذبح الحيوان مثلاً، فإن العقل حاكم بقبحه مهما كان عارياً عن نفع ودفع ضرر، راجحين على الألم، وعن استحقاق؛ لكونه على هذه الكيفية ظلماً، فلما ورد الشرع بجوازه علم أن له نفعاً بذلك راجحاً، فحسنه العقل.
فما غيره الشرع من هذا فهو شرعي اتفاقاً، وما لم يغيره، فإن كان مع زيادة شرط لايقضي به العقل، كتحريم ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، فكذلك؛ وإن لم يغيرها، ولا اعتبر في بقائها على الأصل ذلك الشرط، فمختلف فيه، قيل: عقلي، وقيل: شرعي.
والكلام مستوفى على الجميع في الأصول.
قال (ع): واستدلالاً.
قلت: هو عطف على قوله: ضرورة، أي يكون كذبه معلوماً عقلاً استدلالاً.
قال: كمخالفة قضية العقل المبتوتة الاستدلالية، كخبر قضى بتشبيه أو تجوير، ولم يقبل تأويلاً، وبذلك يعلم أنه من وضع الحشوية؛ وليس من ذلك بعض أحاديث الصفات، الثابتة بنقل الثقات؛ لإمكان تأويلها على الأصح.
قلت: أما ما هو كذلك، فحكمه حكم ما ورد في الآيات القرآنية، وهو منزل على مقتضى حكم العقل، أو محكم التنزيل، والمعاني القويمة العربية، الحقيقية، والمجازية؛ وجميع ذلك واضح المنهج، كما قال عز وجل: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [الزمر:28].
هذا فيما له معنى مفهوم، وتوجه إلينا به خطاب معلوم. /355

لأن ما علم له في العربية استعمال بحقيقة أو مجاز، وأطلقه الحكيم، فلا بد من قصد أيهما، وحمله على أحدهما؛ ولو قصد به خلاف ما يفهم منهما لكان فيه غاية التعمية والإلغاز، والعليم الحكيم جل جلاله، لا يوقع فيما هذا حاله.
[المحكم والمتشابه]
وأما مالم يكن كذلك بأن لم يسبق له استعمال معلوم، ولا يتبادر منه معنى مفهوم، كما في أوائل السور، أو لم يقصد الاطلاع فيه على التفصيل، بل الحكمة في معرفته على الوجه الإجمالي، كعدد حملة العرش، وزبانية جهنم ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ وتفصيل أحوال الآخرة، فليس علينا فيه تكليف إلا الإيمان به على ما أورده عليه الخبير اللطيف؛ وكلا القسمين يطلق عليه اسم المتشابه؛ لوجود المناسبة في المعنيين، وقد ترجم عنهما بالمتشابه، وفسر كل واحد منهما في بابه، قرناءُ التنزيل، وتراجمة المحكم والتأويل.
قال أمير المؤمنين، وباب مدينة علم الرسول الأمين ـ صلوات الله عليهما وعلى آلهما أهل الذكر المبين ـ: واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً.
إلى آخر كلامه صلوات الله عليه وسلامه، وهو يناسب الوقف على الجلالة في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }...الآية [آل عمران:7]، ويكون المراد به القسم الثاني من المتشابه؛ وهو نحو ما في أوائل السور، وعدد الحملة والزبانية، وتفصيل أحوال الآخرة.
وقال إمام الأئمة، وهادي الأمة، الهادي إلى الحق القويم، يحيى /356

بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم التحية والتسليم ـ في تفسيره: فالمحكمات، فهنّ الآيات اللواتي ظاهرهن كباطنهن، وتأويلهن كتنزيلهن، لا يحتملن معنيين، ولا يقال فيهن بقولين، مثل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]، ومثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)} [الإخلاص]، ومثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111)} [الإسراء].
ومثل: سورة الحمد، ومثل قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }...الآية كلها [البقرة:255]، وغير ذلك؛ مما كان من الآيات المحكمات، اللاتي لا تدخلهن التأويلات، ولا تختلف فيهن القالات.
والأمهات: فهن اللواتي ترد إليهن المتشابهات، وأم كل شيء: فأصله، وأصله: فمحكمه.
إلى قوله: والمتشابهات فهن: ما حجب الله عن الخلق علمه من الآيات، اللواتي لا يعلم تأويلهن غير رب السماوات، كما قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
فأخبر أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وأن الراسخين في العلم إليه يردونه إذ لم يعلموه، وإذ حجب عنهم تأويله فلم يفهموه، مثل: يس، وحم، والمر، وطسم، وكهيعص، وألم، وألر، والمص، وص.
وما كان من المتشابه مما يحتاج الخلق إلى فهمه، /357

فقد أطلع الله العلماء الذين أمر بسؤالهم على علمه، وهو ما كان تأويله مخالفاً لتنزيله، مثل: قوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة:22،23]، ومثل قوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، مما يتعلق بتنزيله، وينسب فيه إلى الله شبه خلقه الجاهلون، فأبطلوا ما ذكر الله من الأمهات المحكمات، اللواتي جعلهن بالحق شاهدات، وعلى ظاهر المتشابه ناطقات. انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.
[انقسام المتشابه، وتكهن اليهود في مدة نبوة محمد (ص)]
قلت: فتحصل من كلام أمير المؤمنين، باب مدينة علم الرسول الأمين، وكلام الهادي إلى الحق المبين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ أن المتشابه قسمان:
القسم الأول: هو ما لايطلع الخلق على حقيقة معناه، ولا علم عندهم على تفصيل ما أراد به الحكيم، ولا وقوف على كنه ما عناه، وليس إلا نحو ما ذكر ـ عز وجل ـ في أوائل السور، وهو المقصود في الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } كما أفاده كلام الوصي، ونجله الهادي، وغيرهما من أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ وهو الموافق لما ورد في سبب النزول.
قال الحاكم في التهذيب ما نصه: النزول عن ابن عباس: أن رهطاً من اليهود منهم: حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف أتوا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك (ألم)؟ فقال: ((نعم))، فقالوا: إن كان ذلك حقاً، فملك أمتك إحدى وسبعون سنة، فهل نزل عليك غيرها؟ قال: ((نعم، المص)) قالوا: هذه أكثر هي إحدى وثلاثون ومائة سنة.
قلت: بناء على أن الصاد: ستون، كما ذكره في هامش الكتاب./358

(رجع إلى كلامهم) فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألر))، قالوا: هذه أكثر، هي مائتان، وإحدى وثلاثون سنة، فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألمر))، قالوا: هي أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، ولقد خلطت علينا يا محمد.
فأنزل الله هذه الآية...إلخ.
وذكر غير ذلك، ولكن هذا هو الراجح لموافقة ما سبق.
قلت: وهذه وإن سبق لها وضع في العربية لمعان مفهومة، وهي مسمياتها من الحروف المعلومة، إلا أنه قد علم بالنقل، وبكونه لا طائل في الدلالة عليها، أنها غير مقصودة، وأن الحكيم قد نقلها إلى معان استأثر بعلمها، واختص بأسرارها، وليس في ذلك ما يخل بالحكمة؛ إذ ليس لها ظاهر يوقع في شبهة يصير بها سامع الخطاب في لبسة؛ وما تكلفه صاحب الكشاف، وإن كان حسناً باعتبار بعض المناسبة، فهو على طريقة التخمين والتقدير.
القسم الثاني: وهو ماله معنى مفهوم، وموضوع مقصود للحكيم معلوم؛ وإنما يختلف الحمل فيه على الظاهر والتأويل، المدلول عليه بحجة العقل ومحكم التنزيل، وهو المشار إليه بقوله عز وجل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فإنه يفهم منه بمقتضى نصوص اللغة العربية قطعاً أن المحكمات أصل لغيرهن من الآيات، وليس ذلك إلا هذا القسم، سواء أطلق عليهن اسم المتشابهات أم لا، فهن على كل حال المتأولات.
والحاصل أن الآية الكريمة أفادت التقسيم إلى محكم، وهو الأم المرجوع إليه، وإلى متأول، وهو المختلف معناه، الذي يجب رده إلى أمه، سواء أطلق عليه اسم المتشابه أم لا؛ وإلى متشابه، وهو على التحقيق الذي استأثر الله تعالى بعلمه كما سبق.
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه الذكر الحكيم، والعقل القويم، والنقل المستقيم.
[لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل وعدمه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَهُ...}]
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل /359

وعدمه.
أما أولاً: فلكل واحد من الوقفين وجه قويم، ومنهج مستقيم؛ فإن وقف على الجلالة، فالمقصود من المتشابه ما استأثر الله بعلمه في نحو أوائل السور، والذي أشار إليه صاحب الكشاف، وغيره، من المناسبة فيها على وجه التخمين والتقدير، لاتقاوم السابق من النقل والتفسير، وإذا ورد الأثر، بطل النظر، ولا ينبئك مثل خبير.
هذا، ونحو ما قصد معرفته إجمالاً نحو: الأعداد المذكورة، وأحوال الآخرة مما لم يتضح على التفصيل، ولا وجه فيه للتأويل، وهذا لا مانع منه، لا عند العدلية، ولا غيرهم؛ ودعوى من ادعى أنه غير ذلك مما له معنى في العربية معلوم، ويسبق إلى الأفهام منه مقصود ومفهوم، وأنه لا يراد به ذلك المقرر المرسوم ـ مجرد هذيان، ليس عليها سلطان؛ بل هي مختلة الأساس، متهدمة الأركان، مردودة بصريح العقل، وصحيح النقل، وذلك أعظم برهان.
وإن وقف على العلم، فالمراد ماله ظاهر وتأويل، يحكم به العقل ومحكم التنزيل، فيرد إليه لقيام الدليل.
وأما ثانياً: فالأوقاف سماعية، وقد يكون الوقف والمعنى غير تام، بل هو مرتبط بما بعده من الكلام، كما هو معلوم لمن له بذلك إلمام، وفي هذا كفاية، والله ولي الهداية.
قال صارم الدين (ع): ولا ما تعم به البلوى، كمس الذكر.
قلت: أي ليس مما يعلم كذبه ما ورد بنقل الآحاد فيما تعم به البلوى عملاً، كخبر مس الذكر؛ لعموم الدليل على القبول في باب العمل، كما هو مفصل في الأصول، وإنما لم يقبل أئمتنا (ع) هذا الخبر؛ لعدم صحته، ولصحة خلافه أيضاً، وقد حمل على فرض ثبوته على النسخ، كما قرر في الفقه.
قال: خلافاً لبعض الحنفية؛ فأما مخالفة قضية العقل المشروطة كذبح البهائم، فمقبول، أو سمعاً ضرورة كمخالفة أصول الشرائع، أو استدلالاً /360

كمخالف الإجماعين.
جمهور المحدثين والظاهرية: ويرد ما سقط إسناده، أو بعض منه.
ثم الساقط إن كان واحداً من أوله، فهو المعلق.
قلت: تقدم الكلام على المعلق، وليس مقصوراً على ما ذكره صارم الدين (ع)، بل هو كما ذكروه أن يسقط من أول الإسناد راو، فأكثر، ويعزى الحديث إلى من فوق الساقط، ولو سقط الإسناد كله، فالصحيح عندهم أنه تعليق.
[تعليق على صحة كتابي البخاري ومسلم]
قال: وقبل أكثرهم تعاليق الصحيحين المجزومة.
قلت: يعني كتابي البخاري، ومسلم، على مصطلحهم.
وقبولهم لها، وردهم لغيرها، من التحكمات الواضحة، والتعصبات الفاضحة، التي ليس عليها برهان، ولا أنزل الله تعالى بها من سلطان؛ وكان يلزم قبولها ممن هو في درجتهما، أو فوق رتبتهما، وهذا على فرض صحة ما زعموه لهما، من المبالغة في الاحتياط، والتشدد في الاشتراط، والواقع بخلافه كما هو معلوم، بشهادة الخصوم، ولكن يأبى الحق إلا أن يكون واضحاً ناطقاً، والباطل بالرغم على أصحابه فاضحاً زاهقاً؛ وكم من مقام ينادي عليهم لمن عقل، ولكن كما قال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44].
ولقد قال من جاراهم بغاية الإنصاف، ونهاية التسليم والاعتراف، على مقتضى ما ادعوه من السبق، وهو خلاف الحق: /361

91 / 143
ع
En
A+
A-