صنعاء اليمن؛ ثم الفقيه الفاضل الزاهد، سعيد بن الدعوس، كان والياً لبلاد عنس.
قلت: وقد تقدم قوله: كعبدالله بن الحسن الدواري، حاكمه بصعدة، ووزيره ووصيه؛ ولكن رتبت علماء الشيعة ـ رضي الله عنهم ـ على الحروف.
قال: هؤلاء فضلاء العصر، وأوتاد الدهر؛ وكانوا كحواري عيسى بن مريم (ع)، وكأصحاب محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما ترك واحد منهم ممكناً فيما عرف أنه يحسنه.
(رجع) إلى أحوال الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد (ع).
قال: ثم اختار الله له ما لديه، ونقله إلى واسع رحمته، بعد إبلائه في الله، وجهاده في سبيل الله، ما يقر الله به عينه، ويزلفه عنده ـ إن شاء الله تعالى ـ أصابه خلط فالج، أزال عنه التكليف.
[الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
وولده الإمام الناصر (ع)، القائم بالأمر والنهي، وسداد الثغور، مدة سنة كاملة؛ ثم إن الإمام الناصر جمع العلماء من صعدة، وبلاد مدحج، وقال: هذا الإمام قد سقط عنه تكليف الإمامة، وكنت أصدر وأورد عن أمير المؤمنين، الذي أجمع على إمامته علماء المسلمين؛ فالآن ألقيتُ حبلها على غاربها، فانظروا لأنفسكم، وهذه عُهَدُ المسلمين وآلات الجهاد بأيديكم.
فحاروا في الأمر، وساروا إلى ظفار بأجمعهم، واتفق علماء الأمصار، إلى ألف وثلاثمائة من العلماء، وأهل البصائر المنورة؛ فنظروا لأنفسهم ولمذهبهم ولدينهم، فأجمع رأيهم على تقليده الإمامة، وتحميله الزعامة؛ فما ساعدهم.
قالوا: الواجب عليك القيام، وإن تركت فأنت مخلّ بواجب.
وراجعوه، فوجدوه كاملاً في العلوم؛ فبايعه العلماء، ومن حضر ذلك الجمع المبارك، منهم السيد الإمام /200

الواثق بالله، المطهر بن محمد بن المطهر؛ وقال: أشهد لله أن هذا إمام مفترض الطاعة؛ رضيت به إماماً لي وللمسلمين.
ثم قام السيد الإمام، عبدالله بن الإمام يحيى بن حمزة، ثم القاضي العلامة فخر الدين، عبدالله بن حسن، ثم الفقهاء العلماء بنو حنش، ثم الأول فالأول، حتى أتوا على آخرهم؛ فنور الله بصائرهم، ووفق أنظارهم، وجعل الله في ذلك خيراً كثيراً؛ وقام بالأمر ضليعاً، وجاهد أعداء الرحمن.
قال: ثم إن الناصر (ع) مدّ الله ظلّ عدله، ونشر من فضله ما لايمكن شرحه، من إحياء رسوم الدين، ورفع منار المسلمين، والإحسان الجم، والمعروف الذي عمّ.
وجرى قلمه المبارك، من حَلْي ابن يعقوب، إلى باب زبيد، إلى الشِّحْر بساحل البحر، إلى كور الجحافل بالمشرق، إلى جبلة اليمن، إلى بيشة؛ وأحيا الله به الدين، وأمات بسره وبركته وهيبته شوكة الكافرين والفاسقين؛ وكانت دولته المباركة، ودولة أبيه الإمام المهدي، نيفاً وأربعين سنة.
قلت: واستمر ولده المنصور علي بن صلاح في الخلافة أربعين سنة، وكانت ولايتهم المباركة النبوية، أكثر من جميع مدة الأموية؛ فسبحان الحي الدائم المالك القاهر للبرية؛ فما أصدق قول القائل!:
كل شيء سواه يفنى ويبلى .... وهو حي ـ سبحانه ـ لا يزولُ
قال: وكانت له هيبة في قلوب الكافرين والفاسقين، ما لايمكن وصفه، حتى أن الواحد منهم إذا كلمه دهش، وارتعدت فرائصه؛ وكان كثير التهيب في مجلسه(ع) بالسلاح، والعدد والآلات، وكانت له محبة ومودة في قلوب المسلمين، والعلماء والصالحين، كما مرّ.
رأيت يوم فتح حصن الباطنية، وكان في /201

حضرته علماء عصره، وأوتاد دهره؛ فساعة الفتح رأيتهم يقبلون أقدامه الشريفة، ويضعون رؤوسهم في حجره المبارك، ويقولون: الحمد لله الذي بلغنا هذا اليوم، وأدركنا دولتك.
سمعته وهو على المنبر بذمار، بعد قيامه بأمر الإمامة، يقول: يا معشر المسلمين ـ بعد أن حمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ الناس حتى ضج المسجد بمن فيه من البكاء والعويل، والخشوع الطويل ـ إني ما قمت بهذا الأمر إلا لله، ولإعزاز كلمة الدين، وزم أيدي المارقين، لا لغرض دنيوي؛ اللهم إن علمت مني خلاف ذلك، فلا وفقتني، ولا هديتني ولا رحمتني، ولا أجرتني من نارك وغضبك.
وأسبل دموعه شبه المطر، حتى تقاطرت على ثيابه وعلى منبره، وأنا شاهد بذلك.
[في وظائف الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
ثم ذكر أوراده الصالحة؛ وكان يحيي بين العشائين بالصلاة، ولا يتكلم بين الصلاتين؛ فإذا فرغ من ورده صلى العتمة، وبعدها ركعات؛ ثم يسجد سجدة طويلة، قدر قراءة جزء من القرآن، ثم يقبل على أهل حضرته، وهم العلماء الفضلاء العباد الصالحون، فيفطرون، ويخرجون من عنده؛ ويستقبل الليلة مطالعة للكتب، ونظراً في مصالح المسلمين، وسداد الثغور؛ وينام هنيهة، ثم يقوم في أول الثلث الآخر، فيحييه صلوات واستغفاراً، وخشوعاً ودعاء، حتى تطلع الشمس، ولا يتكلم قبل طلوعها ولو عراه مهم.
ثم ذكر من أوراده وأدعيته الشريفة ما تركته لإيثار الاختصار.
قال: وكان يصوم رجب، وشعبان، وشهر الله المحرم، والأيام البيض، وتسع الحجة، في السفر والحضر، لا يفطرها، فيما علمت وتيقنت؛ وكان على وجهه الكريم من الأنوار ما لا يستطاع إلحاح النظر في وجهه من النور والبهاء، والسيماء الأسنى. /202

قال: وأما مودة إبراهيم الكينعي، فكان يوده مودة لله خالصة.
قال يوماً: نستغفر الله من تقصيرنا في حق هذا الإمام.
وكان يزوره في كل عام إلى ذمار، وإن كان في صنعاء ففي الشهر، أو الشهرين زورة، ويقف عنده شطر الليل؛ وكان يذكر له أحوال الناس، ويسأله لإخوانه وللفقراء، فيقول له: وقّع ما تشاء، وسلمها إلى فلان ـ من خدمه ـ سهلت أو عسرت، جلّت أو دقّت.
وشايعه وبايعه وجاهد معه.
قال إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ: ما وجدت في علوم المعاملة، وعلوم أهل الحقيقة، ووظائف أهل الطريقة، ومكاشفات أهل الحقيقة، في وقتي هذا، أعرف من الإمام الناصر (ع).
قال: وكان إبراهيم الكينعي يشتاق إلى رؤية الإمام الناصر، ووعظه وحكمه؛ وكان يقسم ـ رحمه الله ـ إذا وافق الإمام ليقبل أخمص قدميه؛ فيقول الإمام: أنا أكفر عن يمينك.
فيقول: لابد لي أن أفعل.
ويحب الإمام أن لاينفره ويضيقه؛ وكان يأخذ يد الإمام، ويضعها على صدره، وإذا أكل معه أخذ لقمة، وأشار بها إلى الإمام أن ينفث فيها من ريقه، ويقرأ عليها شيئاً من القرآن.
ووجدتُ بخط يده بعد موته ـ رحمه الله ـ ما لفظه: يا هو، ياهو، صل على محمد وآله؛ لما كان في صفر ـ غالب ظني ـ سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأنا بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وأنا مشغول القلب بشخص أحبّه كثيراً، وأدعو له بأن الله يحفظه وينصره، ويرضى عنه؛ فأُجِبْتُ وأنا في اليقظة، بأنا قد حفظناه ونصرناه ورضينا عنه، وأمرت أن أكتبه لا أنساه، وكرر علي مراراً، وقيل لي: بشره بهذا فيطيب نفساً، ويقر عيناً، وهو الإمام الناصر محمد بن علي.
وكان يقول: لولا أني نهيت، لأخبرتكم عن الإمام صلاح من الكرامات/203

والتنويرات، ما يزيدكم فيه اليقين.
وجاء مرة إلى عند الإمام، فنزل الإمام عن جواده، وعانقه وصافحه، وهو في بزة بالية.
فقال بعض من يليه: من هذا الذي عانقه الإمام؟
فالتفت إليه الإمام، وقال: هذا مجهول في الأرض، معروف في السماء.
وقال: كنت مع الإمام الناصر بذمار، وكنت أحضر معهم في سماع كتاب الثعلبي في تفسير القرآن، فابتدأني الإمام، وقال: جاءتني ورقة من صعدة، بأن الفقيه إبراهيم وصل من مكة؛ وتوجع من حلي، إلى صعدة، وقد بلغ معه الضعف غاياته؛ يعلم الله ـ تعالى ـ أني سهرت هذه الليلة شغلاً عليه وخيفة.
ولما بلغه موت الفقيه ـ رحمة الله وبركاته عليه ـ سقط ما في يده، وقال: الآن ـ والعياذ بالله ـ وقع ما كنا نحاذر؛ فإنا بالله عائذون.
ووقف بعده الإمام أشهراً، ووقع عليه أمر الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، نحمده على ما منح ووهب، وعلى ما استرجع وسلب، ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله ونتضرع إليه، أن يوفقنا لكل ما يرضيه، من كل قول وعمل واعتقاد ونية، ويختم آجالنا بالخير والحسنى، ويثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، ويتقبل منا ولايتنا لأوليائه، ومحبتنا لمحمد وآله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ثم ساق الكلام في سيرته، وذكر أولياء عصره.
[في كرامات الكينعي الظاهرة والباطنة]
إلى قوله:
الفصل الثامن:
في كراماته الظاهرة والباطنة، وما فتح الله له في مجاورته البيت العتيق، من الأسرار والكرامات، في اليقظة والمنام.
قلت: ونتبرك بذكر نبذة نافعة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإنه ليغني في الدلالة على ماله عند الله تعالى من ارتفاع الدرجة، وعلوّ المنزلة، ما أكرمه الله تعالى به من الأنوار الساطعة، المشاهدة بالأبصار، على سبيل الاستمرار؛ وهو ظهور النور /204

المنير، الساطع الأخضر، من فوق ضريحه المقدس، إلى عنان السماء، لاشك فيه ولا لبس؛ وهذه الأنوار الإلهية مشاهدة بالأبصار، على ضرائح كثير من أولياء الله ـ تعالى ـ الأبرار، في عصرنا هذا وغيره من الأعصار؛ ولم تزل تشاهد على الفضلاء بالمقبرة المباركة المقدسة، بمدينة صعدة المحروسة، وغيرها، لايخفى منارها، ولاتطفأ أنوارها؛ وذلك من عاجل ما وهب لهم في دار البلى، فكيف بما أعدّ لهم وأخفى المليك الأعلى، في دار الكرامة والبقاء؟!، فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
فمما ذكر من كراماته ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ:
قال: ما روى أخص إخوانه عنده، السيد العالم، الفاضل الزاهد، الهادي بن علي، أنه حثّه على قراءة آية الكرسي؛ ورغّبه أنْ قال: إني قرأتها، فسمعت منادياً ينادي: يا إبراهيم.
وروى عنه شخص آخر، أنه قال عقيب قراءتها: يا إبراهيم قد قبلناك.
وروى عنه آخر، أنه سمع منادياً ينادي: يا إبراهيم ليهنك ما أعد الله لك.
الكرامة الرابعة: ما رواه الفقيه العلامة، الأكمل الأفضل، يحيى بن محمد العمراني، وكان وقف معه سنين الشتاء في مسجد الجميمة، ونفقته عند أحب إخوانه إليه.
قلت: لعله أحبهم في هذه المحلة، أو بالنظر إلى غير من هو عنده مثله، أو على طريقة قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف:48]؛ لئلا يعارض ما ذكر في غيره؛ وعلى الجملة، أوجه الحمل على الصحة /205

عند أولي المعرفة كثيرة.
قال: فيروي عنه كرامات، منها: أن بعض إخوان الفقيه عوّل عليه أن تكون نفقة إبراهيم معه، مدة يسيرة، فاستحيى منه، فاختلفت النفقة؛ فتغير حال إبراهيم، وأصابته وحشة عظيمة، وما ساغ له الطعام الذي يُؤْتى به؛ فوافق الفقيه يحيى وأخبره بالقصة وودّعه، ليرتحل، فشقّ ذلك عليه، وقال: إني استحييت من ذلك الصاحب، وأنا أعرفه كثير الصلاح، والعفة، والدين، والتحرز في إخراج الزكاة؛ فوقف، واستمرت نفقته من بيت الفقيه المذكور؛ فبحث الفقيه يحيى عن سبب عدم إساغة إبراهيم للطعام، ونفرته عنه، فتيقن أن الذي كان يحمل نفقته إلى هذا المسجد الخالي في القفر الموحش، ابن أخ لهذا الرجل يتيم؛ فعرف كرامة إبراهيم ـ أعاد الله من بركاته ـ.
ومنها: أنه قال صالح، وتلميذه علي بن أحمد بن همدان، قال: روى لي إبراهيم هذه الكرامة، ورواها السيد الهادي أيضاً، أن نفسه اشتهت شحماً ولحماً، وإذا بربعة مملؤة من الشحم واللحم النضيج، طرحت إليه من طاقة عالية في المسجد، وتركت بين يديه.
قلت: وذكر أنه معدوم في المغرب بالمرة.
قلت: ومثل هذه الآية وقعت لبعض من عرفته من مشائخ آل محمد (ع)، وهو سائر في طريق هجرة ضحيان ـ حماه الله تعالى ـ فاشتهى في نفسه ذلك، فوقعت بين يديه فلذة لحم عظيمة، واستكتم مَنْ أخبره أن يُعْلم به ـ رضي الله عنه ـ.
[كرامة للسيد الإمام محمد بن منصور والد المؤلف قبيل وفاته]
ولقد لبث والدنا ـ قدس الله روحه ـ في مرضه الذي توفاه الله - تعالى - فيه، نحو عشرين يوماً، لايأكل طعاماً أصلاً، ولم يقعد به ذلك عن قيام، ولاصلاة، ولا تلاوة، ولا ذكر، بل ازدادت أعماله في جميع ذلك؛ وكنا نعالجه بكثير من أنواع /206

المشتهيات، فلا يتناول شيئاً، ومتى أكثرنا عليه يقول: ((إن الله يطعمه ويسقيه))...الحديث؛ وأسعدنا في بعض الأيام بالإجابة إلى التين ـ وكان في ابتداء حدوثه ـ؛ فمشى بعض الإخوان مسافة للإتيان بما وجده، ورجع وقد تحصل له؛ فعرضناه عليه، فقال: لاحاجة لي فيه.
فلما أكثرنا مراجعته، قال ما معناه: قد أطعمني الله ـ تعالى ـ حتى شبعت، فأنا الآن شبعان ريّان، والحمد لله رب العالمين.
ثم دعا لنا وللرجل الذي جاء به، وأخبره بفضل مشيه لذلك.
ولقد كان يُقْسم لي بالله العظيم، أنه لايجد ألماً، ولايشتهي شراباً ولاطعاماً، في جميع مرضه.
ولم يزل ملازماً للأوراد لايفتر لسانه عن ذكر الله، إلا في حال خطاب بضروري، أو جواب، أو توصية لي ولمن حضر بتقوى الله وما يقرب إليه؛ ويتأذى كل التأذي بأيّ قاطع له عن الذكر، ويعتذر عن المحاورة بذلك، حتى لقي الله - تعالى - وقد غشي وجهه النور، والبهجة والسرور، بعد أن أكرمه الله - تعالى - بكرامات بينات؛ رضي الله عنه وأرضاه، وبل بوابل الرحمة ثراه.
[عودة إلى كرامات الكينعي رضي الله عنه]
هذا، قال: ومنها: مرضى شفوا ببركة دعائه، ووضْعِ يده عليهم عدة، وتتابع بركات وثمرات في وقوفه معهم في ذلك المسجد المبارك، لايمكن شرحه؛ لكثرته.
الكرامة الخامسة: ما رويت عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: كنت في حصن المصافرة، ببلاد مدحج؛ فجيء بعصيدة حسنة، بمحضر القاضي حسن بن سليمان، وعدة من الأفاضل الزاهدين؛ فعولوا علي في الإفطار، فساعدتهم رغبة لإدخال المسرة عليهم؛ فذكرنا اسم الله، ومدوا أيديهم إلى الطعام، وأردت أمد يدي لآكل معهم، فما امتدت أبداً، بل كأنها عود يابس؛ فقمتُ، وقلتُ: ترجح لي إتمام الصيام؛ وبحثت عن تلك العصيدة، فقيل: إن أصل عملها /207

لمتولي أمر كان معنا في الحضرة؛ وكانت تلك ابتداء هذا اللطف لي في كل شيء.
قال: وقد كنا إذا جيء له بطعام، ولم يتناول منه، عرفنا أن فيه ما فيه.
الكرامة السادسة: ما رواه تلميذه، وأقرب إخوانه إليه، علي بن أحمد بن همدان الصنعاني، وهو رجل، ابتداءُ هدايته على يد الفقيه إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ وأخذ من عوارفه وأسراره، فصار الآن صالحاً، مرشداً منوراً، قد انكشف له من أسرار أسماء الله الحسنى ما أنس به وتنور، ونال به المنى؛ قال: كنا مع سيدي إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ بشعب مروان، شرقي جبل نقم صنعاء، وقفنا معه في ذلك الشعب أشهراً، وشاهدنا من أسراره وعوارفه، وكراماته وبركاته، ما يصعب ذكره، لاتساعه.
قال لي: اشتغلت بنفقتكم وجوعكم، فشغلني ذلك وآلم قلبي، فسمعت هاتفاً يقول: يا إبراهيم، إن علمت أنا نتركهم أو نضيعهم، فيحق لك أن تشتغل بهم.
قال: فسكن ما بي والحمد لله.
قال لي: فقدتُ أخاً لي من إخواني يسمى منيفاً، وكان مختلياً في بريَّة في البادية على مرحلتين، فحكّ في قلبي رؤيته، فخرج علي شخص، فقلت: من أنت؟
فلم يجبني.
فقال شخص عن يميني: هذا منيف؛ فسررت برؤيته.
قال الراوي: وسمعت أن مُنيفاً قال: إنه حمل من مسجد، وَرُدّ إليه تلك الليلة.
إلى قوله:
الكرامة الثامنة: ما وجدت بخط يده المباركة، بعد موته، الذي أشهد أنه خطه شهادة لا لبس فيها: أنت أنت، وصل يارب على محمد وآله وسلم، حصل لي في مكة ـ شرفها الله تعالى ـ ثلاث ساعات: ساعة من باب المعرفة، هي أحب إلي من مائة عمرة؛ وساعة من باب الشوق، لست أعدل بها شيئاً؛ /208

وساعة من باب الأنس وغيره، هي أحب إليّ من ما مضى من عمري كله، من الأفعال والأقوال والأفكار.
...إلى قوله: ثم إنه حصل لي وقت ممتد من بعد صلاة الظهر إلى قبيل العصر، في النصف الأخير من شوال، من قبيل الفرح والسرور، فأنساني بما قبله؛ ولايمكنني أن أعدله بشيء مما في الدنيا، أو مما في الآخرة؛ لأنه حصل فيه فناء عن الكائن والمكونات، وعن جميع الشهوات، ورضيت النفس بها، وقرت وسكنت، وما تطلعت إلى شيء غير هذا، وحصل لي فيه لطف خفي زادني في المعرفة، ولم يداخلني مثقال ذرة أنه زادني قربة إلى الله ـ عز وجل ـ فلله الحمد كثيراً.
الكرامة التاسعة: ما وجدته بخط يده المباركة، بعد وصول كتبه وأثاثه من مكة، بعد موته ـ رحمه الله تعالى ـ ما لفظه: أنت أنت، وصل يارب على محمد وآله وسلم؛ لما كان يوم الجمعة، من النصف الأخير من شهر صفر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأنا أدعو لأخ من إخواني، وإذا بقائل يقول: قد أنجاه الله من النار، ورضي عليه؛ وكرر علي الكلام مراراً، وقال لي: وقع لاتنسى، وأضف الأمر إليك، واكتبه في قرطاس نقي، وبشره بهذا؛ وهو سعيد بن منصور ـ رحمه الله رحمة الأبرار ـ وأنه مجار من النار؛ كل هذا في اليقظة لا في المنام.
...إلى قوله: جاءني كتاب من مكة المشرفة، من السيد الإمام، الجامع لخصال الكمال، خيرة الخلق، وخلاصة أهل الشرف، محمد بن علي التجيبي الحسيني البخاري ـ أعاد الله من بركاته ـ وهو الذي حكى لي سيدي إبراهيم بن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب منه.
ثم ذكر ما تقدم في كتابه من وصفه...إلى قوله: وأما كتاب السيد الذي كتبه إلي، فهو بسيط حسن، يدل على غزارة علمه، منه أن قال: من الأخ الفقير، المعترف بالتقصير، محمد بن علي الحسيني التجيبي /209

76 / 143
ع
En
A+
A-