الصحيحة لنفسه، ومهّد لغده ورمسه؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور؛ قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية، بذل نفسه، وجاهد عدوّه، ودله الله فاستدل، ولطف به فالتطف، وخاطبه ففهم، وعلّمه فعلم؛ استهان بالعاجلة فآثر العاقبة، ومهّد لطول المنقلب إلى عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية؛ ترك فضول النظر فوفق للخشوع، ترك فضول الكلام فوفق للحكمة، ترك فضول الطعام فوفق لحلاوة الفكر والذكر والعبادة، ترك تخييلات الظنون فوفق للبهاء والهيبة، ترك عيوب الناس فوفق لإصلاح عيوب نفسه؛ لزم الخلوة والفكر فوفق للعلم بالله النافع، لزم القناعة فأعطي مفاتيح كنوز المنافع.
...إلى قوله: كثير علمه، عظيم حلمه، وثيق عزمه؛ إذا صمم على شيء فيه لله رضى لم يلوه شيء من الدنيا؛ يحب في الله بفقه وعلم، ويقطع في الله بحزم وعزم؛ مذكر للغافل، مقرب للجاهل، بلطف العبارة؛ ناصر للدين، محام عن المسلمين، باذل نفسه في جهاد الملحدين، مع أئمة الحق المبين، معترف بحق أهل البيت الصغير منهم والكبير، مقدم لهم في الصلوات وغيرها من القربات، معتقد أن ما نال الخير إلا ببركتهم؛ أب لليتامى والمساكين، كافل لإخوانه المودين؛ بنفسي من ساهم الملائكة والأنبياء في أفعالهم.
...إلى قوله: وأما صفة ذاته الزكية، المقدسة بالرحمة والتحية، فهو من أحسن الناس وجهاً، وأتمهم خلقة، أقرب إلى الاصفرار والرقة، ليس بالطويل ولا القصير، كأن بنانه الأقلام، ترعف بالبركة لمن قصده من /180
الأنام، بوجه أبيض قد غشاه نور الإيمان، وسيماء الصالحين قد أحاط به من كل مكان.
...إلى قوله: إذا خرج نهاراً ازدحم الناس على تقبيل يده، والتشبث بأهدابه، والتبرك برؤية وجهه، وهو يكره ذلك، وينفر عنه؛ يغضب إذا مُدح، ويقول: يا فلان، دعْ هذا لمن يفرح به؛ ويُسَرّ إذا نُصح؛ من رآه بديهة هابه، وانفتح له قلبه محبة، ويقول الرائي: من هذا الذي ملأ قلوبنا نوراً، ووجوهنا حبوراً؟
فيقال: هذا إبراهيم الكينعي.
فيقول الرائي: سبحان من يصطفي ويعطي.
من قَبّل يده المباركة، وجد لها حلاوة وعليها طلاوة، ويود تقبيلها على الدوام؛ ما وضع يده على قلب قاس إلا رق وانشرح، ولا على أليم إلا سُرِّي عنه ولعينيه فتح؛ إذا تلا الكتاب العزيز، سمعت في جوفه الأزيز، إذا رآه العلماء تواضعوا لرؤيته، وعكفوا على اقتطاف ثمرات حكمته، وإذا رآه أبناء الدنيا عافوها.
...إلى قوله: وإذا رآه أهل المعاصي والفسوق أعجمهم القلق، ورشحت أجسادهم بالعرق، وارتعدت أوصالهم بالفرق، واستحيوا من الله عند رؤيته، وأضمروا التوبة؛ وسأذكر من تاب على يديه في موضعه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
...إلى قوله في الفصل الرابع في رياضاته: لما عرف بعين التحقيق، وفكرة التوفيق، عدوّه الملازم، وهي النفس الأمارة، ثاغرها جهاراً، وسلّ عليها سيف العزم ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، ومنعها فضلات الطعام، والشرب والمنام، وقلل مخالطة الأنام، مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس الأمارة بالسوء، إلى النفوس اللوامة.
...إلى قوله: كنت أسمعه يحاسبها، فأظن معه رجالاً يخاصمونه، حتى أشرف عليه، وليس معه أحد مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس اللوامة إلى النفوس المطمئنة، فتروحت واطمأنت، وانشرحت مدة من الزمان، فتعلقت بالمولى، ومحبته وخدمته، حتى رضيت وقنعت.
قال لي يوماً: لو أعطيت /181
الدنيا بجوانبها، ومفاتيح الجنة كلها، لما اخترت إلا وقوفي بين يدي الله ساعة أناجيه.
ولاتخرج النفس الأمارة إلى النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة إلا بعد الرياضة التامة، والمثاغرة القوية، والمحاسبة العظيمة، والحرب خدعة، وهي التي قال الله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)} [الفجر].
أما رياضته في المطعم: فاعتمد على الصيام الأبد إلا في العيدين، وأيام التشريق.
...إلى قوله: شاهدته يوماً يقع من قامته من غلبة النوم، فجاهدها بقلّة الإدام مدة.
...إلى قوله: حتى انقادت له بأنها لاتناول الطعام إلا في السحر، فاعتدل على ذلك، وديدن عليه واستقام، وانشرح حتى الموت.
سمعته يقول: كم من ليلة أسابق الفجر على عشائي، فتارة أسبقه وتارة يسبقني.
...إلى قوله: وقف على هذه الصفة من الصيام والقيام، زهاء ثلاثين سنة، حتى بلغ من الضعف غاياته، ومن السقم نهاياته، حتى رق جلده، ويرى بياض في غالب عظمه من رقة جلده.
...إلى قوله: ومع هذا كان صليباً في الصلاة، وقوياً على القيام، والصيام، والسير إذا أحب، المرحلة أو المرحلتين أو الثلاث، ما أفتره فيما أحب هذا الضعف عن صيام ولا قيام؛ صدق ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حيث يقول: ((صوموا تصحّ أجسامكم من الآلام، وقلوبكم من الأسقام))، ما علمت أنه مرض في المدة هذه إلا يسيراً عارضاً، إلا مرة ضعف ضعفاً عظيماً، حتى يظنه الرائي خرقة ملقاة، وقعد ثلاثة أيام ملقى على قفاه، فقال له أخوه سعيد بن منصور الحجي ـ رحمه الله تعالى ـ: إبراهيم، اذكر ربك؛ فقام منزعجاً بأعلى صوته: ياسعيد، لم أنسه فأذكره، ياسعيد، لم أنسه فأذكره؛ ثلاثاً أو أربعاً، ثم استلقى وبكى.
...إلى قوله في وصفه إذلال نفسه: كان لايعد نفسه إلا من أعظم /182
الأعداء.
...إلى قوله: ولا افتخر بشيء مما على الدنيا؛ زاره الإمام الناصر أمير المؤمنين محمد بن علي بن محمد بمدينة ذمار، وكان ـ رحمه الله ـ في دهليز لبعض إخوانه، فسلّم عليه، وقبل يده في الظلام.
وقال للإمام: إن علم الله مني محبة لوصولك إليّ لم يكن لي جزاء إلا النار.
وزاره رجل فاضل، فقال: أتينا من أرض بعيدة لزيارتك، فقال: أمثلي يزار؟ أمثلي يؤتى؟ وبكى حتى أبكى، وغشي عليه طويلاً؛ فسقط ما في يد ذلك الرجل، وظن أن قد فارق الحياة، وتلك غشية تصيبه الفينة بعد الفينة.
...إلى قوله: وكان إذا خالط الإخوان فقلبه مع الله، وجسده بينهم؛ وإن سكت فلسانه يتقلب بذكر الله، تارة يقول: يا الله يا الله، وتارة يقول: الله الله؛ وإن تكلّم بكلمة شخص بعدها ببصره إلى السماء للمراقبة.
...إلى قوله: كانت نيته في كل صباح محدودة، أن كل قول، وعمل، وترك، ومخالطة، وعزلة، وفكر، وذكر، وإيناس مسلم، وتذكير غافل، وإيثار، وابتداء سلام لكل وجه حسن، يقرب إلى الله للوجه الذي يريده على الوجه الذي يريده؛ وكان يحث إخوانه على هذه النية؛ ومن كان له مال أمره بالزيادة على هذه، أن كل ما خرج من يده لايرجع إليه، ولاعوضه، من صغير وكبير، ومثقال ذرة من حق وجب يعلمه الله عليه إن كان، وإلا فقربة وصدقة، وعلى كل وجه حسن يريده؛ وكان يحب الوقوف في المساجد إذا كان معه من يدافع عنه الناس؛ لأنه لا يُكَلَّم في المسجد، ولا يَتَكَلَّم فيه؛ وإذا وصله غريب أخذ بيده وخرجا عن المسجد، وكالمه وفاكهه، وقضى حاجته؛ وكانت أخلاقه كأخلاق الأنبياء (ع).
...إلى قوله: الفصل الخامس في أوراده، وعباداته، وأفكاره، وإخلاصها تعظيماً /183
لجلال الله، وكبريائه، لما عرف الله حق معرفته، وراضَ نفسه رياضة جذبته إلى خدمته، وخافه مخافة لو قسمت على أهل دهره لكفتهم، وشكره شكر ملائكته وأنبيائه الذين عصمهم، ورجاه رجاء أهل المحبة الذين قربهم، وبكأس مودته أرواهم، وبرضاهم عنه أرضاهم، وبتبجيله حباهم، وبمناجاته أصفاهم؛ فوظف ـ رحمه الله ـ أيامه ولياليه، وجميع ساعاته، أوراد الصالحين من الذكر، والفكر، والصلوات والتلاوات، بحيث لو فاته شيء قضاه ولو شقّ، مع أن اشتغاله عن ذلك ليس إلا في خير.
...إلى قوله: وما كان مأثوراً في الوضوء وبعده، ومن الصلوات، فهو يفعله ويلاحظ عليه، ويسأل عنه علماء الحديث، ويباحثهم عن سندهم.
ثم بسط القول في أنواع عبادته، سفراً وحضراً، بما يتعسر، ولايكاد يتيسر، إلا لمن يسره الله تعالى عليه فهو يسير، والله على كل شيءٍ قدير.
قال: وكنا نسمع ونروي في كتب العبادات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أن أوراده الصالحة في اليوم والليلة ألف ركعة غير الأذكار وإملاء الحكمة؛ وكذا عن زين العابدين علي بن الحسين، كان له خمسمائة، نخلة يصلي عند كل نخلة ركعتين كل يوم، غير التلاوة والأوراد، ونشر العلوم؛ وكذا عن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلى الفجر بوضوء العشاء ستين سنة، فإذا كان آخر الليل، قال: إلهي لم أعبدك حق عبادتك.
قلت: وكذا ابن أخيه علي بن الحسن، والد الإمام الحسين صاحب فخ؛ ما كانوا يعرفون الأوقات في السجن إلا بأوراده.
وإمام الأئمة الهادي إلى الحق، كان يقطع الليل ركوعاً وسجوداً ونشيجاً، حتى يسمع وقع دموعه يتقاطر على /184
الحصير من خلف مكانه.
والإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة، صام، وقام، خمس عشرة سنة متصلة.
وغيرهم من أئمة الهدى؛ مع ما هم فيه من الجهاد والاجتهاد، والاهتمام بهداية العباد ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ ولو فتحنا الكلام في هذا الباب، لأدخلنا إلى ماليس في حساب.
قال: فإن قلتَ: أنى يتهيأ هذا العمل الكثير في هذا الوقت اليسير لهذا الرجل، ولهؤلاء السادة؟
قلت: إن ذلك يسير على من يَسَّره الله عليه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد]، ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة:261]، ((والخير عادة)) ـ قاله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وروي: أن رجلاً صالحاً من أهل صنعاء في زمان الهادي إلى الحق (ع) رأى النبي الخضر في جامع صنعاء، فقال له: أنت النبي الخضر؟
قال له: نعم.
قال: ادع الله لي.
فقال له: يسر الله عليك طاعته.
فقال له: زدني.
فقال: ما أجد زيادة.
[في تفكر الكينعي]
...إلى قوله: ومن أوراده الصالحة التفكر في آلاء الله، ومخلوقاته، وفي زوال الدنيا، وأحوال الآخرة؛ كان له ورد بالتفكر بالنهار، وورد بالليل؛ دخلتُ عليه يوماً وهو مغشي عليه، فرفعت رأسه إلى حجري، وفاتحته الكلام، فانتعش وقال: هاك هذا القرطاس اقرأه؛ فأخذته من يده المباركة، وقبلتها، فإذا /185
فيه ما نسخته بخطه:
حسبي ربي، نقل من التصفية للديلمي عن بلال أنه قال: أَذَّنْتُ أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لصلاة العتمة، وانتظرت خروج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فلم يخرج من الدار، فدخلت إليه فوجدته ساجداً، ويسيل من دمعه نهر، فقلت: يارسول الله، الصلاة؛ فرفع رأسه من السجود، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أشرّ أصابك؟
فقال: ((نزل جبريل، وقال لي: يامحمد، إن صلاتك، وصومك، وحجك حسن؛ ولكن انظر بعين العبرة إلى القدرة إلى السماء مع طوله وعرضه، وغلظه وتأليفه، وهو معلق بلا علاق ولا عمد، فانظر بعين العبرة إلى قدرتي؛ فتفكر ساعة أحبّ إليّ من عبادة ألف سنة)).
قلت: وقد روي بنحو هذا في تفسير قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران]، وذكره في الكشاف.
قال: وفتح يوماً كتاب التصفية للديلمي ـ رحمه الله ـ وقد علمه بخيط من صوف، قال فيها: (فائدة شافية كافية) التفكر على خمسة أوجه:
الأول: في صنع الله، وعظمته، وقدرته؛ فمنه تتولد المعرفة.
الثاني: في نعمائه، وإحسانه؛ فمنه تتولد المحبة.
الثالث: في وعده ووعيده، وشدة انتقامه؛ فمنه يتولد الخوف، والزهد، والورع، وترك الاشتغال.
الرابع: في ألطافه، وحسن صفاته، وإرادته لصلاحك، وإرشادك؛ فمنه يتولد الرجاء، والرغبة، والمواظبة على ما يقرب إليه. /186
الخامس: التفكر في سوء نفسه، وهتك حرمات ربه، وقبح معاملته إياه؛ فمنه يتولد الحياء، وذلة النفس.
فقال: اكتب في الحاشية: يالها من كلمة شافية موقظة.
وسرتُ معه إلى خبان مدحج لزيارة الإخوان ثمة، فانتهينا إلى فوق هجرة الأخشبي ببني قيس تحت عِرفةٍ شاهقة، فاستقام مبهوتاً، فبهتنا حذراً عليه من التردي في ذلك الشاهق، فوثبت عليه أنا وأخ لنا أمسكناه، فقال: تقولون مم خلق الله هذه الجبال، والصخرات الصم؟
ثم ارتعش ملياً وغشي عليه، ثم أفاق، وقال: سبحان من خلق هذه الجبال، من عدم على غير مثال.
ثم قال: قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه.
ثم قال: الذي خلقها سوداء وغبراء يجعلها جوهراً شفافاً، كما روي أن حصباء الجنة من درّ وياقوت؛ فسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ولم يعجل على من عصى، وستر على من غفل وجهل بالمولى.
...إلى قوله: ثم قال: والحوت الذي أقسم الله به: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم]، لو أدرجت السماوات السبع، والأرضون السبع، في أحد منخريه ما تبرم بهنّ.
...إلى قوله: الذي خلق هذه الجبال من عدم، قادر أن يجعل فيها روحاً.
ثم قال: إن هذا الجبل من مكة إلى عدن يسمى في العراق جزيرة اليمن؛ لأن البحر من جميع جوانب هذه الجزيرة، من عدن إلى مكة، إلى الشحر إلى تهامة؛ ويحكى أن بحر عدن، وبحر هرموز ـ كذا في الأصل ـ كالكمين للقميص، وبحر الهند كالقميص، والله أعلم.
ثم قال: قيل: إن الأرضين السبع بجنب سماء الدنيا كحبة خردل، ثم السماء الدنيا تحت الثانية كريشة في فلاة، /187
والأرضون السبع، والسماوات السبع، بجنب العرش العظيم، كخاتم في أرض فلاة.
قال: وذكر الثعلبي في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة:17]، قال: على صورة الوعول، ما بين ظلفه إلى ركبته خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.
فما قمنا من ذلك المقام إلا وقد تقطعت أوصاله من تململ أعضائه، وما سرنا إلا ورجلان يمسكان بيده.
وقال يوماً في معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات]: يا ابن آدم، سافرت المشارق والمغارب لتعرفنا، فلو سافرت في نفسك لوجدتنا في أول قدم، درت البلاد تطلبنا، ونحن أقرب إليك من حبل الوريد، ونحن معكم أين ما كنتم.
...إلى قوله: وأفكاره ـ رحمه الله ـ عجيبة، ونتائجه غريبة، وعلومه باهرة، وحكمه ظاهرة.
قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه))، فكيف من أخلص لله عمره، وهو خمسون أو ستون سنة؟!!
قال: قال له بعض إخوانه: أما أنا، فإن الصوم يشق بي.
فقال ـ رحمه الله ـ: وأنا الإفطار يشقّ بي، سبحان الله، الذي أنت تأكله بالنهار تأكله في الليل، وتنال درجة الصائم الذي ليس له جزاء إلا الجنة، كما في الخبر.
وإن لربي صفوة من عبيده .... قلوبهم في روض حكمته تجري
...الأبيات.
إلى قوله: وجدتُ بخط يده المباركة ما نسخته: حسبي ربي /188
قال شقيق بن إبراهيم البلخي ـ رحمه الله تعالى ـ: حصن العمل ثلاثة أشياء:
الأول: أن يرى العبد أن القوة على العمل من لطف الله وتوفيقه؛ ليكسر به العجب.
الثاني: أن يبتدي العمل بالإخلاص؛ ليكسر به هوى النفس والشيطان.
الثالث: أن يبتغي ثواب العمل من الله؛ ليكسر به الطمع من الناس.
ولا يحكم ذلك إلا بشيئين:
أحدهما: أن يعرف قطعاً أن أهل السماوات والأرض، لو أرادوا أن يزيدوا في رزقه حبة خردل، أو ينقصوا، أو يقدموه قبل وقته، أو يؤخروه، لم يقدروا على ذلك أبداً.
الثاني: لو اجتمعوا على أن ينزلوا به مكروهاً لم يرده الله به ـ قلت: أي لم يمكنهم الله تعالى منه، فالمعنى لم يرد تمكينهم منه، بل دفعهم، قال:ـ لم يقدروا على ذلك؛ أو يدفعوا منه مكروهاً أراده الله ـ تعالى ـ به لم يقدروا على ذلك.
قال: ووجدت بخطه: قال الوافد للعالم من أهل البيت (ع).
قلت: المشهور أن الوافد قاموس آل محمد، محمد بن القاسم؛ والعالم والده نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ـ صلوات الله عليهم ـ وهو كتاب من جوامع العلم، وسواطع الحكم، كله سؤال من الوافد، وجواب من العالم، /189