الآخر! مع صرائح أقوالهم هذه وغيرها، الدالة على خلافه، ومع نصوصهم على عدم الاشتراك في الذوات.
والقول بزيادة الصفات، مبني على ذلك كما هو معلوم؛ وأعجب من ذلك قول الجنداري المحكي عنه في حاشية شرح الغاية! حيث قال: إن أريد قدماء أهل البيت فلم يُسْمَع عنهم في ذلك نفي ولا إثبات.
إلى آخر كلامه ـ على قول صاحب الغاية ـ ولذا قال بعض أئمة أهل البيت (ع)، الكلام المتقدم.
فهذا كلام القدماء، النجوم العظماء، الذين مقدمهم إمام الموحدين، وسيد علماء الدين، أمير المؤمنين، وصنو سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[قصيدة الإمام الواثق بالله في عقائد أهل البيت (ع)]
قال الإمام الواثق بالله، في حكايته لأقوال الأئمة الهداة، من آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ:
لم يثبتوا صفة للذات زائدة .... ولا قضوا باقتضا حال لأحوالِ
ولا قضوا بثبات الذات في أزل.... وليس لله إلا صنعة الحالِ
دانوا بأن إله العرش ذوتها.... بلا احتذاءٍ على حذوٍ وتمثالِ
لو كانت الذات ذاتاً قبل يوجدها.... لكان كل محل سابق تالي
ما كان يخطر هذا من ركاكته .... للمصطفى صفوة الباري على بال
ولا علي ولا ابنيه وزوجته .... فقولهم من أباطيل الهوى خال
انظر بإنسان عين الفكر في خُطَبٍ .... لهم ومنثور لفظ سلسل حالي
قد لحبوا طرقاً للسالكين بها .... وبيّنوها بتفصيل وإجمال
ثم اقتفى إثرهم زيد ووالده .... وصنوه وابنه والحال كالحال
كذلك القاسم الرسي قال كما .... قالوا وفجّر ينبوع الهدى الحالي
فناظر الفلسفي حتى أَقَرّ له .... وتاب من دسّ تعليلٍ وإيغال
وصفوة القاسم الرسي محمدٌ الـ .... ـجدير منّا بإعظام وإجلال
/170
والهادي الهادي الخلق الذي خضعت .... له الملوك بتصغير وإذلال
كذلك الناصر الأطروش من ألفت .... يمناه طعن العدى والبذل للمال
والناصر الناصر الأديان مذ خَلِقَت .... وصنوه المرتضى والأيمن الفال
والقاسم بن علي والحسين ومن .... يحكيه في حسن أقوال وأعمال
وأحمد بن سليمان الذي قصمت .... سيوفه كل ذي كفرٍ وإضلال
ثم الخليفة عبدالله فهو على .... منوال آل علي خير منوال
وأحمد بن الحسين المَلْكِ إنّ له .... عقيدة عزلت في عكسها الوالي
ثم الإمام الأغرّ المنتقى حسن .... فقد قفاهم بأقوال وأفعال
ـ يعني: الإمام الحسن بن بدر الدين (ع) صاحب أنوار اليقين ـ.
كذا المطهر شيخ الآل قال كما .... قالوا فقدس روحاً خير قوالِ
كذاك قول ابنه المهدي خير فتى .... قوّام ليلٍ وصوّامٍ وصوّالِ
فافهم مسائلهم واتبع مقالتهم .... ولا تبع منفق التحقيق بالكالي
أما حميدان من شاد المنار فقد .... أحيا بهمته قولاً لهم بالي
وإن يحيى بن منصور جلاّ لهم .... أقوالهم حبذا المجلو والجالي
والمرتضى قال والمهدي كقولهم .... صلى الإله عليهم كل آصال
تبدي مقالتهم فحوى عقائدهم .... فدن بها تنج من غي وإخلال
وقد اخترت إيرادها بتمامها؛ لما فيها من الإفادة والإجادة، وقد سبق /171
صدرها، سلام الله على ناظم عقودها، وناسج برودها، ورحمته ورضوانه.
نعم، فهذا القول الأول، وهو قول أهل البيت (ع) السابقين، وأبي الهذيل والملاحمية.
وأما القول بأنها عبارة عما لايعلم كنهه ـ وقد نسب إلى زين العابدين (ع)، واختاره الحسن الجلال ـ فلا منافاة بينه وبين الأول؛ فالذات المقدس لايعلم كنهه، فهي عبارة عنه، وهو قول الآل.
[عودة إلى الأقوال في معنى صفات الله]
الثاني: أنها لعدم صفة النقص؛ فعالم لكونه غير جاهل، وقادر لكونه غير عاجز...إلخ.
قالوا: ربما أوهمه كلام نجم آل الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ورواه الهادي بن إبراهيم عن جماعة أهل البيت (ع).
الثالث: أنها مزايا اعتبارية فقط، في غير صفة الوجود، فهي نفس الموجود، وهو قول أبي الحسين البصري وأتباعه.
الرابع: أنها أمور زائدة على الذات، لاهي الموصوف ولا غيره، ولاشيء ولا لاشيء؛ وقد استشكل عليهم قولهم فيها: الصفات لاتوصف؛ مع وصفهم لها بأنها ثابتة في الأزل، وذاتية، وواجبة، ومقتضاة؛ وأجيب بأنهم يريدون أنها لاتوصف بصفات وجودية زائدة عليها؛ للزوم التسلسل؛ وأما هذه الصفات التي وصفوها بها فهي اعتبارية لاوجود لها في الخارج.
هذا، وهي مقتضاة عن الذات، عند أبي علي وأتباعه، وعن الصفة الأخص، عند أبي هاشم وأتباعه.
الخامس: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان زائدة أزلية، وهو قول الكلابية.
قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): الأزلي هو القديم، إلا أن ابن كلاب لم يتجاسر على إطلاق القول بقدمها؛ للإجماع على أنه لاقديم مع الله - تعالى - وتجاسر الأشعري على ذلك لوقاحته، إ هـ. /172
السادس: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان قديمة قائمة بذات الباري ـ سبحانه وتعالى ـ وهو قول الأشعرية.
وقد اتفق النقل عنهم على إثباتهم للمعاني القديمة؛ ثم اختلف بعد ذلك في أنها نفس الصفات، أو أن الصفات مستحقة للمعاني القديمة عندهم.
والتحقيق ما أفاده الإمام عز الدين (ع) في المعراج؛ قال فيه: قال الإمام يحيى: وأما الأشعرية، فاتفقوا على إثبات المعاني القديمة، ثم اختلفوا، فنفاة الأحوال منهم يقولون: العلم هو نفس العالمية، والقدرة هي نفس القادرية.
ثم هذه الصفة عندهم معلومة بنفسها، موجودة في ذاتها؛ وهو مذهب الأشعري، وابن كلاب، وهو قول المتأخرين من محققيهم.
وأما مثبتوا الأحوال منهم، فعندهم أن القادرية، والعالمية، والحيية، صفات مضافة إلى المعاني، والله ـ تعالى ـ كما هو موصوف بهذه الصفات هو موصوف بالمعاني...إلخ.
وقالوا: لا هي الله، ولا هي غيره، ولا بعضها هو البعض الآخر، ولا غيره.
السابع: أنه تعالى يستحقها لمعان قديمة أغيار لله ـ تعالى ـ أعراض، حالّة في ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ وهو قول الكرامية.
الثامن: أنه ـ تعالى ـ يستحقها لمعان لاتوصف بقدم ولا غيره، وهو قول الصفاتية؛ وأفاد الإمام عز الدين بن الحسن (ع) أنهم سليمان بن جرير الإمامي، وبعض أصحابه؛ وليس هذا القولُ قولَ الكرامية كما نسبه إليهم بعضهم.
التاسع: أنها غير الله ـ تعالى ـ وأنها محدثة بِعِلْمٍ محدث؛ وهو قول هشام بن الحكم، ومن معه من الرافضة، وجهم بن صفوان، ومن معه من المجبرة.
العاشر: قول الباطنية ـ أقماهم الله تعالى ـ وهو في التحقيق خارج عن أقوال المنتمين إلى الإسلام، وهو أنهم لايصفونه ـ جل وعلا ـ بنفي ولا إثبات؛ فلا/173
يوصف عندهم بوجود ولا عدم.
قالوا: الوجود تشبيه، والعدم نفي، فلا هو موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا موصوف ولا غير موصوف.
وقالوا: جميع الأسامي منتفية عنه.
هكذا حقق مذهبهم الأئمة الأعلام؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه.
وفيما سبق كفاية لذوي العقول، وقد بُسِطت النقول، وأقيمت البراهين من المعقول والمنقول، على القول الحق، وإبطال ما سواه من الأقوال في كتب الأصول، على أن أكثرها في نفس حكايته غُنْيَة عن إبطاله؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[السند إلى كتاب صلة الإخوان]
وسبقت الأسانيد في طرق المجموع وغيره، إلى السيد الإمام، عماد الإسلام، عماد العترة الكرام، وعابد الأسرة الأعلام، العالم الرباني، الولي بن الولي، يحيى بن المهدي، الزيدي نسباً ومذهباً، وقد مرّ ذكره مع ولده فخر آل محمد، وحافظ علومهم الأوحد، السباق المجتهد على الإطلاق، الذي بشّر به بعض أولياء الله ـ تعالى ـ في الحرم الشريف والدَه ـ رضي الله عنهم ـ أبا العطايا عبدالله بن يحيى بن المهدي ـ رضوان الله وسلامه عليهم ـ في التحف الفاطمية .
فأروي بذلك السند المسلسل النبوي، إلى السيد الإمام يحيى بن المهدي الزيدي جميع مروياته، ومؤلفاته، منها: الوسائل العظمى، ومنها: كتاب صلة الإخوان في سيرة صاحبه عابد اليمن، ولي الله الماشي على أقوم سنن، صاحب الآيات، والكرامات البينات، إمام أهل التقوى، مخلص /174
الولاية والمودة لذوي القربى، إبراهيم بن أحمد الكينعي ـ رضوان الله عليه ـ وهو كذلك قد مرّ في التحف الفاطمية .
وفي كتاب الصلة، جلاء القلوب، ودواء الكروب، بعرفان أولياء الله العارفين، وأصفيائه المتقين الموقنين، الفائزين بروح اليقين، ودرجات السابقين.
فقد ضمن ذلك الكتاب ما يبهر الألباب، من أحوالهم، ومناجاتهم وكراماتهم ـ رضي الله عنهم، وأعاد علينا من نفحات بركاتهم، آمين رب العالمين ـ.
ونورد هنا الحزب المبين ـ وقد سبق السند، وكيفية تلقين الذكر العظيم، في ذكر علي بن عبدالله بن أبي الخير، في سياق مشائخ محمد بن إبراهيم الوزير ـ.
وقد ساق هذا الحزب الكريم في طبقات الزيدية؛ وهو من الذخائر التي يحق أن يحرزها أولوا البصائر، متقرّبين بها إلى رب البرية، وقد اخترتُ نقله من كتاب صلة الإخوان.
قال فيه ـ قدس الله روحه في عليين، ورزقنا مرافقته ومرافقة آبائه السابقين في دار المتقين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ بعد ما أورد السند، ما لفظه: ثم إن الفقيه الإمام، جمال الإسلام، وبركة الأنام، علي بن عبدالله بن أبي الخير ـ أيده الله تعالى ـ لقن سيدي إبراهيم بن أحمد الكينعي، الذكر العظيم، والسر الكريم، كما ذكر، وكذا الحزب المبين؛ ثم إن سيدي إبراهيم لقنني الذكر العظيم والحزب المبين، وألبسني الخرقة المباركة تبركاً بفعلهم، واقتباساً لأنوار مَنْ ذكر وأسراره.
وكتب الشريف تعريفاً، الفقير إلى الله، اللاجي إلى مولاه، يحيى بن المهدي بن قاسم بن مطهر الحسيني، أمده الله بالألطاف، وآمنه مما يخاف.
إلى قوله: فمن أراد الخير كله، والأنوار والأسرار، ويدخل الحصن الحصين، فليقرأه بعد كل صلاة وسننها، وهو على وضوء، جالساً، متربعاً، مستقبل القبلة، واضعاً راحتيه على فخذيه؛ وإن كانوا جماعة احتلقوا حلقة ذكر، فيقرأ الفاتحة عشر مرات، ويقرؤا /175
هذا الحزب المبارك، فيقول:
[الحزب المبارك]
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فضلاً من الله ونعمة، شكراً من الله ورحمة؛ الحمد لله على التوفيق، ونستغفر الله من كل تقصير، غفرانك ربنا وإليك المصير.
سبحان الله العلي الأعلى الوهاب؛ سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، سبحانك ما قدرناك حق قدرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لايموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (ثلاث مرات)، وإليه المصير.
لا إله إلا الله الملك الحق المبين، لا إله إلا الله الملك الحق اليقين، لا إله إلا الله أرحم الراحمين، لا إله إلا الله أكرم الأكرمين، لا إله إلا الله حبيب التوابين، لا إله إلا الله غياث المستغيثين، لا إله إلا الله الملك الجبار، لا إله إلا الله الواحد القهار، لا إله إلا الله الحليم الستّار، لا إله إلا الله العزيز الغفّار، لا إله إلا الله أبداً، حقاً حقاً، لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً، لا إله إلا الله تلطفاً ورفقاً، لا إله إلا الله تعبداً ورقاً، لا إله إلا الله قبل كل شيء، لا إله إلا الله بعد كل شيء، لا إله إلا الله يبقى ربنا ويفنى كل شيء، لا إله إلا الله المعبود بكل مكان، لا إله إلا الله المذكور بكل لسان، لا إله إلا الله المعروف بالإحسان، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولاشيء بعده؛ لا إله إلا الله له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، /176
هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ حسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.
فإذا فرغ من الحزب كرر قول: لا إله إلا الله ـ يشدّد بالقوة على لفظ الإثبات (إلاَّ الله) ـ من مائة، إلى مائتين، إلى ثلاثمائة، إلى أربعمائة، إلى خمسمائة، إلى الألف، إلى أكثر؛ فإنه يرى العجائب والأنوار، والأسرار والأفكار ـ إن شاء الله ـ؛ لأن قول ((لا إله إلا الله)) ترفع الحجب.
وأوصى إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ أن يجعل هذا الحزب وسنده في كفنه مع ختمة القرآن.
قلت: اشتمل هذا الذكر المبارك العظيم، على الشهادة، وأربعة وعشرين تهليلة، وخمس تسبيحات، وحمدلتين، وله الحمد، وتكبيرة، وحوقلة.
ومن أسماء الله تعالى، على الجلالة والعلي (مرتين)، والعظيم، والرب والأعلى، والوهاب، والحي، والقدير، والملك (ثلاث مرات)، والحق (مرتين)، والمبين، واليقين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وحبيب التوابين، وغياث المستغيثين، والجبار، والواحد، والقهار، والحليم، والستار، والعزيز، والغفار، والمعبود، والمذكور، والمعروف بالإحسان، والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والعليم، والسميع، والبصير، والوكيل، والمولى، والنصير (ستة وثلاثين، بغير التكرير)، وقد حررت هذا للتحقيق، فليتأمل والله ولي التوفيق.
ولاينبغي الإهمال لأمثال هذا الحزب الكريم، والذخر العظيم، لمن يرغب في الدرجة العلية، والسعادة الأبدية، من رب البرية، وإن لم يتمكن من ورده كما ذكر، فما لايدرك كله لايترك كله، وإن لم يكن وابل فطل، وهذه توصية لنفسي، ولذريتي، ولصالحي إخواني.
أسأل الله ـ تعالى ـ بجلاله، أن يصلي على رسوله وآله، وأن ييسر لي ولهم طريق الأسباب، إلى الفوز /177
بالزلفى وحسن المآب، إنه كريم منعم وهاب.
[من صلة الإخوان في عبادة إبراهيم الكينعي]
ونتبرك بإيراد المختار، مما ضمنه من آثار أولئك الأبرار، على سبيل الاختصار؛ لما فيها من التذكرة والاعتبار.
قال (ع) في صفة عابد اليمن، وعالم الكتاب والسنن، الشيخ الكريم الولي، إبراهيم بن أحمد الكينعي، ـ قدس الله روحه، وأحله دار المقامة، وألبسه حلل الكرامة ـ ما لفظه في الفصل الأول:
أما صفته وحليته، فهي معنى ما قاله باب مدينة علم الله، وحامل وحي الله، وأسد الله في الأرض، وحجته على الخلق، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ حيث قال لهمَّام ـ رحمه الله تعالى ـ في صفة المتقين.
إلى قوله: والمدينة لاتدخل إلا من بابها؛ لأنه إمام أهل هذه الطريقة، ومفتاح علوم أهل الحقيقة.
وهذه هي الغرة المباركة: روى جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين: أن رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين (ع) قام إليه يقال له: همَّام، وكان عابداً مجتهداً، فقال: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.
فتثاقل عن جوابه، وقال: يا همام، اتق الله وأحسن؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
قلت: وقد حمل العلامة شارح النهج تثاقل أمير المؤمنين عن الجواب، على أوجه لاحاجة إليها؛ والأولى أن يقال: قد أوضح الجواب عن ذلك الوصي ـ صلوات الله عليه ـ في قوله: أما والله، لقد كنتُ أخافها عليه...إلخ، وليس البيان على /178
هذا الوجه بواجب، حتى يوصف بعدم جواز التأخير عن وقت الحاجة على الصحيح، والله أعلم.
(رجع) فقال همَّام: يا أمير المؤمنين، سألتك بالذي أكرمك بما خصك به، وفضّلك بما آتاك وأعطاك، لما وصفتهم لي.
فقام (ع)، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ثم قال: أما بعد، فإن الله خلق الخلق، وكان غنياً عن طاعتهم، لاتضره معصية من عصاه، ولاتنفعه طاعة من أطاعه، وقسم بينهم معائشهم، ووضعهم مواضعهم؛ فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب.
ثم ساق الخطبة الشريفة...إلى قوله: فلما انتهى إلى آخر كلامه (ع)، شهق همام شهقة كانت فيها نفسه؛ فقال أمير المؤمنين: هكذا العظة البليغة في أهلها.
قلت: في النهج: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها.
قال السيد الولي يحيى بن المهدي (ع): سبحان المعطي من يشاء بغير حساب؛ ما أشبه الليلة بالبارحة!.
ثم أورد أبيات المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان (ع) من قصيدته المشهورة، منها:
فقد مات همّام لوعظ إمامه .... وصادف قلباً للمواعظ واعياً
ثم ساق في أوصافه؛ وأنا أورد منها، ومن أحوال أولئك الأعلام الأبدال ـ رضوان الله وسلامه عليهم ـ على اختصار، زبداً شافية، ونكتاً وافية.
قال (ع): هو رجل شمّر تشمير اللبيب، واستعمل عقله الذي هو حجة الله عليه، وتبصر ما يصير إليه، استصبح بكتاب الله، واستنار بسنة محمد بن عبدالله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وخاض في لججهما مدة من الزمان، فاستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، فاعتدلت فطرته، وصفت طبيعته، وسمت همته؛ نظر بعينه /179