ويؤكد الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ التوصية بالثقلين، والاستمساك بالخليفتين، ويجعلهم كسفينة نوح المنجية من الغرق، ويخبر أنهم الأمان لأهل الأرض، وأنهم لايفارقون الكتاب إلى يوم العرض؛ ولا يكون لنا سبيل إلى ذلك، ولا اهتداء إلى سلوك تلك المسالك؛ فتبطل ثمرة هذه الحجج القويمة، وتضمحل فائدة تلك المناهج المستقيمة، وهل هذا إلا محض العبث أو الجهل؟!
تعالى وتقدس عن ذلك كله أحكم الحاكمين، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ الصادق الأمين؛ بل هم حجج الله على خلقه إلى يوم الدين، وحملة دينه في كل وقت وحين.
نعم، قال الإمام (ع): فمن أولى بهم في دينهم؟ وما سبب الخلاف بين الفريقين؟ والمفرق بين الأئمة الهادين، كالمفرق بين النبيين، ومثل مقالة الفقيه - أبقاه الله -.......
قلت: وصدور مثل هذا الدعاء من الإمام (ع) لهذا الضال المعاند، من باب التهكّم، الذي لايراد حقيقة معناه، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}[الدخان]، أو أنه أراد بقاءه إلى أن يبلغه مايدحض أقواله الباطلة، ويهدم أساسه وما بناه.
قال (ع): قالت اليهود والنصارى؛ لأنهم قالوا: نتبع من سبق من الأنبياء وتقدم، دون من تأخر، فلم يغن عنهم شيئاً من عذاب الله عز وجل؛ لأنها ذرية بعضها من بعض، ولم يخالفها أولادها، من علي (ع) إلينا، ولا اختلفت في ذات بينها؛ بل آخرها يشهد لأولها، بوجوب الاتباع والطهارة، وأولها يوصي بوجوب اتباع آخرها، وشيعتها ـ في جميع الأحوال ـ باذلة لأرواحها بين أيديها، ومنابذة بألسنتها عنها، ومشركة لأهل بيت نبيها في أموالها.
والفقيه وأهل مقالته في راحة عن هذا؛ فليت أنه جعل نصيبه من ولايتهم، ترك السب لهم، والرمي لهم بخلاف جدهم ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
وأكبر دليل للفقيه ومن كان على رأيه من أهل سنته وجماعته، أنهم على بغضهم لهذه العترة الزكية، لايعلم في بلادهم ساكن من أفاضل ولد الحسن والحسين (ع). /505
[نبذة من الشافي في تعلُّق العلم بالمعلومات وردِّ شبهة الجبرية]
هذا، وقال الإمام (ع): وأما قوله ـ أي فقيه الخارقة ـ في جواب صاحب الرسالة ـ أي الشيخ محيي الدين ـ: إن الواحد منا لو كان قادراً على خلاف الواقع، أن عِلْمَ الله ينقلب جهلاً.
ثم قال بعده: وهذا باب الكفر يقرعه.
انتهى كلام الفقيه.
فالجواب: أن القول بأن العبد يقدر على خلاف ما علم وقوعه، لايقلب العلم جهلاً؛ لأن ما علم الله بأنه يقع، فإنه يقع لامحالة من حيث اختاره القادر عليه، لامن قبل أن اللَّه تعالى علمه، وما علم الله أنه لايقع، فإنه لايقع؛ لأن القادر لم يختر إيجاده، لا لأنه تعالى لم يعلم وقوعه.
قلت: وهذا معنى قول أهل العدل: إن العلم تابع للمعلوم، وسابق غير سائق ـ أي أن اللَّه تعالى علم أن الأمر سيقع لأنه سيقع؛ لا أنه سيقع لأن اللَّه تعالى علمه ـ فلا يخرج بذلك عن كونه مقدوراً.
والعلم إنما يقع على الشيء على ماهو به، ولا تأثير له في الوقوع ولا عدمه.
قال الإمام ـ صلوات الله عليه ـ: والعبد قادر في الحالين؛ فما في هذا مما يقلب العلم جهلاً؟
فإن أراد الفقيه أنا لو قدّرْنا وقوعه لانقلب العلم جهلاً، كان هذا سؤالاً غير ماسطره الفقيه، وكان الجواب عنه أن التقدير في هذا الباب لايكشف عما يكشف عنه التحقيق؛ لأن وقوع ما علم أنه لايقع، يقدح في العلم بأنه لايقع، والقدرة على ما علم أنه لايقع، لاتقدح في ذلك؛ وإنما يكشف عن حالة القادر، وهو أنه يقدر على ما وقع منه، وما يمكنه أن يوقعه.
على أن هذا لو لزم في القادر من العباد، للزم في الباري تعالى؛ لأنه يقال للسائل: ما تقول؟ هل الله قادر على ماعلم أنه لايكون أم لا؟
فإن قال: لا، قرع باب الكفر، الذي ذكره الفقيه حقاً.
وإن قال: بل هو سبحانه قادر على ماكان، وما سيكون، وما لايكون لو أراد أن يكون.
قيل له: فهل هو قادر على تجهيل نفسه، أو قادر على أن يقلب العلم جهلاً؟
فإن قال: لايجب ذلك؛ لأن التجهيل إنما يلزم بالوقوع، دون تقدير الوقوع.
قيل له: فارْضَ منا بمثله في فعل العبد.
ولأنه متى شرع في التقدير، أتبعنا التقدير تقديراً آخر؛ فمتى قال:/506
لو فعل؛ قلنا: كان في علمه أنه يفعل.
إلى قوله (ع): فكيف يقال: إن القدرة على خلاف ما علم وقوعه من التجهيل، لولا قلة التأمل والتحصيل؟
قلت: وهذه شبهة الجبرية، التي عميت فيها بصائرهم، وضلّت أفكارهم، وهي مستمدة من الملحدة الفلاسفة، أقماهم الله، كما أن كثيراً من أصول الجبرية، على قواعدهم المنهارة مبنية؛ يعلم ذلك المطلع على الآثار والرسوم.
وقد ألزمهم أهل العدل ألا يكون الله ـ جل وعز ـ قادراً على شيء؛ لسبق علمه بكل معلوم، فيكون على قَوَدِ قولهم: واجب الوقوع، مستحيل التخلف.
فخرج عن الاختيار، وصار القادر على كل شيء غير مختار؛ وهذا عين الكفر، وصريح الجبر.
وقد اعترف بعض المحققين، من هؤلاء المخالفين، كسعد الدين، وأقروا أنه يلزم منه الكفر؛ فنعوذ بالله من الخذلان وسلب البصائر.
وقد أقام الإمام ـ رضوان الله عليه ـ واضح البرهان، وأبان الحجة بما لامزيد عليه من البيان لكل ناظر؛ والحمد لله رب العالمين.
وقال (ع) عند ذكر الأسانيد إلى أئمة العترة (ع): وذكرنا أخذنا لمذهبنا بطرق تشفي المرضى؛ لشرف المذكورين فيها، منا إلى أبوينا: محمد وعلي ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ.
ثم ساق بسنده إلى أبي عبدالله جعفر الصادق، عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي (ع) أن رجلاً سأله عن الحوض، فقال: الحوض حق، ولا يشرب منه في الآخرة إلا من ائتم بعلي (ع) في الدنيا ووالاه، وعرف حقه وعادى عدوّه.
قال: وقال الحسين بن علي: والله ما أحد على ملة محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، إلا أنتم معشر الشيعة، والناس منها براء.
قال الإمام (ع): فما ترى فيما حكاه، ماترى؟ أتسمح وتقول إنك شيعي، كما قلت أولاً إنك زيدي، ودون ذلك خرط القتاد، فقد رضينا منك بقول أبي عبدالله؛ والصواب أنك تستقر على السنة والجماعة، كما بينا لك معناهما، فهو بك أليق.
وبسنده إلى الحسين السبط (ع)، أنه قال يوماً لشيعة أمير المؤمنين: أما والله، ما اكتسب مؤمن ذخيرة في دينه أفضل من ولاية علي بن أبي طالب، (ع) /507
.
قال: ففرح القوم؛ فقال: أبشروا؛ فوالله ما يتقبل إلا منكم، ولا يغفر إلا لكم.
وهذا يؤيد الأول في أمر الشيعة.
قال الإمام (ع): ومن مسند أبي القاسم محمد بن علي بن أبي طالب (ع)، المعروف بابن الحنفية، الذي بشر به الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وأذن في تسميته باسمه وتكنيته.
وساق سنده في الشافي إلى قوله: قال أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب (ع): أيها الناس، إن محمداً ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)) فوالله، ما على ظهرها مؤمن إلا ولنا في عنقه حق، إنْ أنكره فذهب إيمانه، أو عرفه فثبت إيمانه.
[نبذة من الشافي عن الصادق في تحديد وقت تسمية علي بأمير المؤمنين]
وبسنده إلى أبي جعفر الباقر (ع)، قال: لو أن جهال هذه الأمة يعلمون متى سمي علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين، لم ينكروا ولايته ولا طاعته.
فسألته: ومتى سمي أمير المؤمنين؟.
قال: حيث أخذ الله ميثاق ذرية آدم (ع)، وكذا نزل به جبريل (ع) على محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى؛ قال: وأن محمداً رسولي إليكم، وأن علياً أمير المؤمنين؛ قالوا: بلى.
قال أبو جعفر: والله، لقد سماه الله باسم ما سمى به أحداً قبله.
قال الإمام (ع): فهذا قول محمد بن علي (ع)، ومثل هذا لايكون إلا توقيفاً؛ لأنه من خبر الله تعالى.
قلت: قد نصّ على ذلك أهل الأصول في حق الصحابي، أن مالم يكن للاجتهاد فيه مسرح، يحمل على التوقيف، وأشار المحققون إلى أن الصحابي وغيره في ذلك على السواء، وهو الحق؛ لأن الموجب لذلك عام في الجميع، كما هو مقرر في محله.
هذا، وبسنده إلى أبي جعفر الباقر (ع) أيضاً قال: إنما كثر الاختلاف من أجل أنهم قدموا رجلاً ليس بأعلمهم بالله وبرسوله وبدينه، وأخّروا رجلاً كان /508
أعلمهم بالله وبرسوله وبدينه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
قال الإمام (ع): فمن تراه أيها الفقيه، وما يزاد في هذا أوينقص، ليوافق مذهبك الذي خرجته على السنة والجماعة بزعمك.
وبسنده إلى أبي جعفر الباقر (ع) قال: الشاكّ في حرب علي كالشاكّ في حرب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
وبسنده (ع) إلى أبي جعفر الباقر (ع)، قال: قال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ لعلي بن أبي طالب: ((لعنتك من لعنتي، ولعنتي من لعنة الله، وهي باقية في أعقابنا إلى يوم القيامة)).
قال الإمام (ع): وهي على الفقيه مصيبة عظيمة؛ لأنه قال: ((وهي في أعقابنا إلى يوم القيامة)) ونحن أعقابهم.
قلت: وهذا الحديث في مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي، متصلاً بسند آبائه إلى رسول الله ـ صلوات الله عليه وآله ـ بدون ((وهي في أعقابنا))..إلخ؛ وبزيادة ((ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً))، والإضافة في الحديثين من إضافة المصدر إلى فاعله، بدليل قوله: ((ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً))؛ وهو الذي يسبق إلى الأفهام هنا؛ وبنى عليه الإمام حيث قال: وقد علم الفقيه إلخ وذلك واضح.
قلت: وقد عين الإمام (ع) في مواضع من الشافي، الذين كان أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - يقنت بلعنهم.
وبسنده (ع) عن الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)، أنه قال: الأئمة المفترضة طاعتهم منا، علي بن أبي طالب، والحسن والحسين (ع)، والقائم بالسيف يدعو إلى كتاب ربه، وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
قال الإمام (ع): فهذا أيها الفقيه هو الذي ذكرنا لك أنا سمينا زيدية؛ لاتباعنا زيد بن علي في القيام بالسيف على أئمة الضلال، وحزب الشيطان.
وقال الإمام (ع) جواباً على الفقيه لما ذكر متابعة المعتزلة: فالجواب، أنا ـ بحمد الله ـ أغنياء باتباعنا آباءنا (ع) مصابيح الظلام، وبدور التمام، وصفوة الله من جميع الأنام؛ فبهديهم اهتدينا، وعلى أنوارهم سرينا، وهم معروفون، عند وليهم محبة، وعند عدوهم جلالة ورهبة؛ ما يجهلهم إلا أنت وأمثالك، من /509
حثالة الحشو، وحزامة الإرجاء والجبر، ورديء القدر.
إلى قوله (ع): فلو قلّدنا الجاحظ والنظام، والعلاف والشحام، لكنا على مثل رأيك الفاسد، في التقديم للمشائخ على أمير المؤمنين، وهذا عندنا أكبر جرمهم؛ فنحن نرميهم في هذا ونرميك من قوس واحدة، وقد أخذنا الدين عن آبائنا تلقينا، كما يلقن الصفوة أولادهم في حال الصغر؛ فلما بلغنا حد النظر اعتمدنا الدليل، فوجدنا قولهم أقوى الأقوال؛ لأن التقليد ذمّه اللَّه تعالى، وحكاه عن الكافرين، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف]، ورد عليهم تعالى بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف]، وذمه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، بقوله فيما رويناه بالإسناد الموثوق به: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، وعن التدبر لكتابه، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزل؛ ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلّدهم فيه، ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)).
وقال (ع) في سياق ذكر العترة مانصه: وإن المخصوص بذلك الذرية الزكية؛ وحققنا ذلك من الصحاح عند العامة، مع الذي اختصصنا بروايته نحن وأتباعنا من الشيعة، ومن حذا حذوهم في العدل من العدلية.
قلت: وفي قول الإمام (ع): من الصحاح عند العامة، دليل واضح، على عدم الحكم بصحتها، وأن تسميتها بالصحاح إنما هو مجرد اصطلاح؛ فافهم. /510
[مسموعات الإمام المنصور بالله (ع)]
قال (ع): ومجموع مسموعاتنا من الخاصة والعامة، تجاوز مائة ألف حديث، ظننا ذلك ظناً، وحزرناه حزراً، ولم نرد بذلك التبجح؛ وإنما أردنا التعريف، وبينا أنا المخصوصون بوجوب الوداد، من ذوي القربى، وخرجناه من الصحاح.
إلى قوله (ع): وقدمنا اختصاص أولاد الحسن والحسين (ع) بالإمامة، دون سائر إخوتهم وبني عمهم، ودللنا على ذلك؛ وكذلك اختصاصهم من الحرمة والحق والتبجيل والتعظيم، بما لايستحقه سائر أهلهم؛ لما لهم من الاختصاص بالنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ؛ لكونهم نسل بضعته الشريفة؛ وقدمنا أن الذي يشرف به البطون الأربعة على سائر قريش ـ بل على سائر العرب والعجم ـ هو بعينه يدل على شرف أولاد فاطمة (ع) على سائرهم، وهو شدة اللحمة، والقرب منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
إلى قوله: ولما حققه ـ وقوله الحق ـ أنهم أبناؤه وعصبته دون جميع الأقارب، وكان ذلك خاصة، كما ورد مثله في موارد الأحكام؛ فهم أولى به بالتعصيب، وذوو أرحامه، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال:75].
ولأنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، لو بُعِثَ لنكح من بني هاشم، لافينا؛ لأنهنّ بناته، ولما ضرب بينه وبينهن حجاب؛ فأي قرابة أقرب من هذا؟!.
قال (ع): ولقرابتهم هذه القريبة، ودعواهم هذه الظاهرة، لم يترك قائمهم القيام على قلّة الأعوان، وغدر الزمان.
إلى قوله (ع): فلقد لقي عدوّهم منهم أنواع العذاب.
هذا جدنا محمد بن إبراهيم (ع)، وهو القائم بالكوفة، عُدّ القتلى المفقودون من جند بني العباس في دعوته،/511
مائتي ألف قتيل.
وفي أيام علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الناجم بالبصرة مائتا ألف وخمسون ألفاً؛ وقيل: تناهت القتلى إلى ألف ألف.
وفي أيام الحسن بن زيد (ع)، مالم يتأت لنا حصره.
وقتل الناصر الحسن الأطروش يوم نورود خمسة وعشرين ألفاً في يوم واحد؛ ثم قال على منبر آمل: آهٍ آهٍ، في الصدر حرارات لم تشفها قتلى نورود؛ قالوا: يابن رسول الله، ما تبغي؟ وعلى من تبكي؟ قال: أبكي لقوم هلكوا في الحبوس، ولقوم فُرّق بين أجسادهم والرؤوس، ولقوم مُزّقوا تحت أديم السماء.
إلى قوله (ع): فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، بل خاضوا بحار السيوف قدماً، حتى ماتوا كرماء، فأي خِيْم أشرف من خِيمهم؟ وأي عزائم أمضى من عزائمهم؟.
إلى قوله (ع): وهذا دأبهم، حتى يرد الله إليهم أمرهم؛ وإن تكن الأخرى، فما عند الله خير وأبقى؛ وكيف يلذّ لهم النوم، وأبوهم الليث الأغرّ مات مظلوماً، وأمهم الزهراء ماتت غضبانة، أوصت أن تمرض سراً، وأن تدفن ليلاً؟.
أتموت البتول غضبى ونرضى .... ماكذا يفعل البنون الكرامُ
وقال (ع): وقد ثبت أن إجماعهم حجة بما قدمنا ذكره؛ وسيأتي إعادة مايحتاج إلى إعادته من آية التطهير، وآية الاجتباء، وحديثي السفينة، وسواه.
[نبذة من الشافي في المسائل التي أجمع عليها العترة أصولاً وفروعاً]
إلى قوله: ونذكر له طرفاً مما أجمعوا عليه ـ سلام الله عليهم ـ.
فمن ذلك مما يتعلق بالفروع: إجماعهم على نفي صلاة الجمعة خلف أئمة الجور، وعلى تحريم التلبس بهم، وعلى ترك المسح على الخفين، وعلى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى القنوت في الصلاة بالقرآن، وعلى تكبير خمس على الجنائز، وعلى جهاد المحدثين، وعلى تحريم المسكر وأنواع الملاهي.
[قلت:] يحمل قوله: وعلى القنوت في الصلاة بالقرآن، على أن المراد غير ماصحت به الأخبار، نحو: اللهم اهدني فيمن هديت..إلخ.
وكذا قوله: وعلى تكبير خمس، أي: لاينقص منها، وأما الزيادة فلا؛ لما ورد من تكبيره ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ على الحمزة ـ رضوان الله عليه ـ مع جميع الشهداء، وغير ذلك.
قال عليه /512
السلام: وأما مسائل الأصول من نفي التشبيه على اللَّه تعالى، وأن علي بن أبي طالب الإمام بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وأنه أفضل الناس بعده وأعلمهم، وعلى أن من تقدم عليه فهو متعدّ عليه، ظالم له؛ إلى سائر الأصول في العدل والتوحيد، وتوابعهما؛ فلا يناكر في ذلك إلا المباهتون، ومن لا يستحي من الكذب.
ومن كان من ورثتهم غير مائل إلى ملوك الدنيا، فإنما يقتبس من نور آبائه (ع)، ويكرع في حياضهم، ويرتع في رياضهم، ولايروعه بهت الباهتين، عن غاية شأوه في إعزاز الدين.
وقال (ع)، في الجزء الرابع من الشافي في ذكر الكرامات: ونحن نعرفها في آبائنا (ع)، وأتباعهم من فضلاء المسلمين؛ ولولا خشية الإطالة لروينا من ذلك كثيراً.
هذا القاسم بن إبراهيم (ع) دعا إلى الله في مخمصة، فتهدل السرير عليه رطباً؛ ودعا إلى اللَّه تعالى في ليلة مظلمة فامتلأ البيت عليه نوراً.
وقد منّ اللَّه تعالى علينا بما هو أهله، ويجب شكره، مما قد ذكره الأولياء في كتبهم، وبعضهم شاهد ذلك، وبعضهم علمه من المُشَاهد؛ ولكن الكرامات لاتكون إلا للأولياء، ولا ولاية لمن يزعم أن اللَّه تعالى يخلق أنواع المعاصي ويريدها.
فعلى مذهب المجبرة القدرية لا معنى للتطهير؛ لأن اللَّه تعالى خالق لجميع الأفعال، الهدى منها والضلال؛ فإن فعل فيهم الطاعة والإيمان طهروا، وإن لم يفعل ذلك فيهم لم يطهروا؛ فلا معنى للمنة بشيء هو المتولي لأصله وفرعه، ولا حيلة للعبد في الخروج منه بوجه من الوجوه.
ولولا قلّة التحصيل لما أورد ماينقلب عنه أوضح الانقلاب.
قلت: وماذكره الإمام (ع) من الكرامات، فهي من أعلام النبوة، ودلائل الرسالة، ومن قبس ذلك النور، وضياء تلك المشكاة، وهي آيات بينات يزداد بها اليقين، وتطمئن إليها قلوب المتقين.
[نبذة من الشافي في وجه روايته عن المخالفين]
هذا، وقال الإمام (ع): ونحن لاننقل إلا ماصح لنا بالنقل الصحيح، أو كان من رواية ضدنا، فنورده للاحتجاج عليه، ولم نورد من ذلك /513
إلا ومعنا من البرهان عنه مايكفي، ويزيده تأكيداً.
قلت: انظر ـ أيها الناظر بصرنا اللَّه تعالى وإياك ـ وتدبر كلام الإمام الحجة؛ فقد صار مَنْ لا قدم له ولا اطلاع، وكذا أهل الزيغ والتدليس على الأتباع، يوهمون أن رواية الأئمة عن المخالفين تدل على القبول، من غير فرق بين مردود ومقبول، ولا اعتبار بما تقتضيه مسالك الأصول، وأدلة المعقول والمنقول.
ومتى قيل لهم: إن الأئمة (ع) لم يرووا من تلك الطرق للاعتماد عليها، وإنما هو للاحتجاج على ملتزميها، عدّوا ذلك من الكلام الساقط المرذول، وعمدوا إلى الروايات التي يحتج بها أئمتنا (ع) على الخصوم، واتخذوها وسيلة إلى المغالطة على من لاخبرة له ولابصيرة بمدارك العلوم؛ مع أن الأئمة (ع) مصرّحون بأن نقلهم لها للاحتجاج بها عليهم، والإلزام للخصم بما يلتزمه، كما ذكر ذلك إمام الأئمة، الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين (ع) في باب الأوقات من المنتخب؛ فنقله صاحب تنقيح الأنظار محمد بن إبراهيم الوزير مستدلاً بذلك، على أن إمام اليمن يروي عن أولئك؛ فيالله للعجب! كيف يتجاسر هذا الحافظ المحقق، المطلع النظار، على مثل هذا التمويه الذي لايصدر إلا عمن لامبالاة له، ولا تحرج عنده ولا اعتبار؟.
كيف والإمام الهادي إلى الحق مصرح في البحث ذلك بعينه، تصريحاً لااحتمال فيه ولا اشتباه على أولي الأبصار؟!.
هذا، والحديث ذو شجون؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونعود إلى تمام كلام الإمام.
قال (ع): ولما جرى الكلام في الجواب على الفقيه، عن إمامة العباسي ـ فذكر الإمام أحوال ذلك العباسي وتهتكه بمحارم الإسلام ـ.
ثم قال (ع): وإمام الشيخ الذي ردّ عليه الفقيه.
قلت: أراد بالإمام نفسه، وبالشيخ محيي الدين القرشي ـ رضي الله عنه ـ.
رجعنا إلى تمام كلامه في حال نفسه: قام ودعا على من يعاشره من حال /514