من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا، واعلم أني قد استغنيت عن الإشارة إلى أحوال من تتصل بهم هذه الأسانيد المباركة، ممن قد تيسر ـ بمن الله تعالى ـ لنا في التحف الفاطمية، شرح الزلف الإمامية ـ نفع الله تعالى بها ـ ذكرُهم.
أما الأئمة الكرام (ع)، فقد جَمَعتْهم بفضل الله تعالى على التمام، واشتملت على أنسابهم على التحقيق، وجوامع مؤلفاتهم وكراماتهم، ولمع من أخبارهم، وأول درجة من أولادهم، وتعيين المجددين، والإشارة إلى ما ورد فيهم عن جدهم سيد المرسلين، ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وعلى الأعيان من علماء أهل البيت وشيعتهم ـ رضي الله عنهم ـ إلى العصر، وسوى ذلك مما فتح الله تعالى به، على اختصارها، وقرب انتوالها؛ فيرجع إليها ـ إن شاء الله ـ ففيها كفاية وافية.
وما أشرتُ إليه من أحوال الرجال فهو علامة أنه لم يكن هنالك، أو على وجه يكون أكمل من ذلك.
[حث النساخ على التصحيح]
وإني أوصي وآخذ على كل من نقل كتاب التحف وهذ المؤلف ـ إن شاء الله تعالى ـ وغيرهما أن يتحرى في التصحيح والمقابلة؛ فقد أبلغت الوسع في طلب الصحة، ولم أرسم شيئاً ـ بحمد الله تعالى ـ إلا على ثقة وتحقيق، ووقوف على الأصول المأمونة المصونة.
ولقد عاب كثيراً من كتب الأصحاب ما اعتراها من الغلط وتغيير أهل النسخ، حتى كثر التحريف في الإعراب، والتصحيف للكلمات؛ والألفاظ قوالب المعاني.
وتقاعد المتأخرون عن البحث والتصحيح، حتى صار بعضها لايُنتفع به ولا يمكن الوقوف فيه على أصل صحيح؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقد أكدت التوصية بهذا؛ لتتم الإفادة المقصودة إن شاء الله تعالى.
[إشارة إلى أمهات هذا الكتاب]
نعم، وقد تيسرت لنا ـ بحمد الله تعالى ـ أرفع الطرقات العالية، وأعمها /23

نفعاً، وأعظمها جمعاً.
وتحصلت لدينا ـ بفضل الله تعالى ـ جوامع الكتب المرجوع إليها في هذا الشأن، كأماليات أئمتنا والشافي للإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والفلك الدوار المسمى علوم الحديث، للسيد الإمام حافظ اليمن، وعالم بني الحسن، إبراهيم بن محمد الوزير، وطبقات الزيدية للسيد الإمام، صارم الإسلام، إبراهيم بن القاسم بن الإمام المؤيد بالله (ع)، وغيرها من مؤلفات أئمتنا وأشياعهم، ومؤلفات العامة؛ وما آخذ من مؤلف فسيضاف إليه، كما هي الطريق المرضيّة والمنهج القويم.
[التقريع على منتحل ثمرة جهود غيره من أرباب العلم]
لاكما يصنع كثير من الماسخين المنتهبين؛ فلعمري، إنه عمل غير محمود، ومذهب ذميم، وما يُؤْمِنُ صاحبَه من الولوج في زمرة الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ والمتشبع بما ليس فيه؟!.
وما عليه من نسبة الكلام إلى من هو له، وإضافة القول لمن حصّله؟
وأي نقص في ذلك عليه، وأي لوم يتوجه إليه؟
ولو لم يكن في الإضافة إلى صاحب الكلام، إلا أنه الحق الصريح، وأن فيه تيسير البحث للباحث وتمكين المطلع من التصحيح، وغير ذلك مما لا يعزب على ذوي النظر الصحيح؛ ولا يغتر ناظر بما قيل: إنه أمر يرتاح له اللبيب، وللأرض من كأس الكرام نصيب؛ فإنما هو تسلية للمأخوذ منه لا الآخذ فهو غير مصيب.
ولا شك أن ذلك الصنيع بعيد عن المقصد الصالح، والمنهج الراجح؛ عصمنا الله تعالى عن الزلل، ووفقنا لرضاه وتقواه في كل قول وعمل.
نعم، وكذلك تحصّلت كتب الأسانيد، كإجازات القاضي العلامة، حواري آل محمد (ع) أحمد بن سعد الدين المسوري - رضي الله عنهما - المشتملة على طرقات أئمتنا (ع) وإجازاتهم، وعلماء شيعتهم وغيرهم، خلفاً عن سلف؛ وهي حافلة، بغالب مؤلفات من سبقه كافلة؛ إلا أنه ـ رضي الله عنه ـ كانت همته الجمع لما وقف عليه من الإجازات والتقييد، فجاءت غير مرتبة ولامهذبة ولا خالية عن التكرير والترديد؛ بل الإجازات فيها موضوعة بألفاظ المؤلفين من غير بيان في الأغلب لاتصال الأسانيد؛ حتى أن كثيراً فيها ليس إليه طريق للمستفيد /24

وكبلوغ الأماني، للقاضي العلامة الولي، محمد بن أحمد بن يحيى بن جار الله مشحم ـ رضي الله عنهم ـ، وهي نعم المجموع في مؤلفات علمائنا ـ رضي الله عنهم ـ خاصة، من طريق شيخه صاحب الطبقات خاصة، وطريقه أيضاً التحصيل لطرقه إلى الكتاب على أي صفة.
وثمة طرق إلى من تتصل بهم الأسانيد، كالإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، والإمام يحيى شرف الدين (ع) هي أجمع وأرفع مما ذكره، كما يطلع على ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد أفاد القاضيان وأجادا، وخدما علوم آل محمد (ع)، ـ رضي الله عنهما ـ وجزاهما عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
وتيسرت ـ بحمد الله ـ كثير من أصول هذين المجموعين، ومما اختصر منهما، كالذي جمعه القاضي العلامة النحرير، حافظ العصر الأخير، شيخ الإسلام، محب آل النبي، عبدالله بن علي بن علي الغالبي ـ رضي الله عنهم ـ ولم يكمل شيء من مجموعاته، بل يشرع فيه وينقطع في أثنائه، إلا الإحازة في طرق الإجازة فإنه أتمها، ولكنها مختصرة جداً؛ وقد جَمَعتْ الكثير الطيب من طرقاتهم الجامعة النافعة وكأنها على عجالة؛ ومسوداته التي بخط يده حاصلة لديّ.
وغير ذلك من محررات أئمتنا وأعلام ملتنا، أغلبها بأقلامهم الشريفة.
[إشارة إلى ما تضمنه هذا المؤلف]
فهذا المجموع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ خلاصة ما ينيف على عشرين مجلداً، في هذا الباب وغيره، سوى ما من الله تعالى بجمعه، وتحصيل نفعه، مما لم يكن مزبوراً في كتاب؛ وليس مختصاً بجمع الأسانيد، فإنما هي مقصد من المقاصد، وفائدة من الفوائد، بل يتضمن ـ إن شاء الله تعالى ـ فوائد وفرائد، من أنواع الفنون، تقرّ بها العيون، ويرتاح لها الراغبون، وتحقق لهم ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يرجون؛ ولكنه لايجل نفعها، ويعظم وقعها، إلا عند ذوي الاختبار، المليين بالإيراد والإصدار، والقصد ـ بفضل الله تعالى ـ التقرب إليه ـ عز وجل ـ بتقريب الفائدة للطالبين، وتحصيل الثمرة العائدة على الراغبين؛ سائلاً لمن وقف عليه /25

من إخواني المؤمنين، والعلماء العاملين، صالح الدعوات المباركات، في المحيا والممات؛ لاسيما بالسداد والثبات، والعفو والمغفرة من رب البريات.
وأنا أسأل الله تعالى بحق جلاله أن يصلي ويسلم على ملائكته المقربين، وأنبيائه الأكرمين، الذين صفوتهم سيد المرسلين وآل محمد الطاهرين، وأن يكافئ عني من أنالني بأفضل المكافاة، ويحسن من فضله وكرمه له في الدارين المجازاة، ويرزقنا جميعاً المرافقة لأوليائه في المقام الأمين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، آمين؛ وأن ينفع به، ويجعله من الأعمال المقبولة، والآثار المكتوبة، إنه قريب مجيب.
وقد وسمته بلوامع الأنوار؛ في جوامع العلوم والآثار، المتضمن للبلاغ المبين، ببراهين اليقين.
وسيكون ـ إن شاء الله تعالى ـ جامعاً نافعاً، شاملاً لِلُباب ما حفلت به الأبواب، مع المبالغة عند الانتهاء إلى الطرقات، في انتقاء أصحّها وأرجحها، وأجمعها وأنفعها، والاقتصار على مالا غنى عنه من المختار، والإيراد لبحث نافع، مما يوفق الله تعالى له من المؤلفات بعد تمام الإسناد، كما هي طريقة الإمام الحجة، المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) في الشافي، عند ذكره لطرق كتب العترة (ع)؛ إلا أني آتي بأبسط مما صنعه الإمام؛ لكونه لم يذكر ذلك إلا عارضاً على سبيل الإلمام، وقد أفعم كتابه بما عمّ نفعه جميع الأنام، وأشاد قواعد الإسلام، فعلى روحه الزكية أزكى السلام؛ سالكاً في جميع ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ للنمط الوسيط، المجانب لجانبي الإفراط والتفريط، وهو المسلك القويم، كما قال:
عليك بأوساط الأمور فإنها .... سبيل إلى نيل المراد قويم
ولا تك إما مفرطاً أو مفرّطاً .... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ويتحصل المقصود ـ إن شاء الله تعالى ـ في فصول عشرة، والحادي عشر في الرجال ـ وهو مستقل ـ، تتمايز بها مباحث المقاصد، ويكون التحويل عليها في /26

المصادر والموارد، وبالله عز وجل الاستعانة، ومنه استمداد العصمة، والتوفيق والهداية، في البداية والنهاية، والحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه.
اللهم صل على محمد وآله، وأتمم علينا نعمتك في الدارين، واكتب لنا رحمتك التي تكتبها لعبادك المتقين؛ اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، واجعلنا هداة مهتدين؛ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولاتجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم؛ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين /27

الفصل الأول [الاستدلال على تحريم الافتراق في الدين]
اعلم ـ أيدنا الله وإياك بتأييده، وأمدنا بمواد لطفه وتسديده ـ أن من أقدم ما يتحتم، وأهم ما يتعين، على الناظر في كتاب ربه وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ من ذوي الألباب، عرفانُ الحق والمحقين، المشار إليهما بقوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة]، لما يتوقف عليه من رواية السنة الشريفة وتفسير الكتاب؛ ولتوليهم واتباع سبيلهم، المأخوذين على كافة المكلفين، بقواطع الأدلة وإجماع جميع المختلفين.
ومن المعلوم: أن الله تعالى أمر عباده بسلوك دين قويم، وصراط مستقيم، ونهاهم عن اِلافتراق في الدين، واتباع أهواء المضلين؛ قال جل جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى:13]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام]، في آيات بينات، وأخبار نيرات.
وما كان العليم الحكيم سبحانه، /31

ليأمرهم وينهاهم إلا بما يستطيعون، وله يطيقون، بعد إبانة الدليل، وإيضاح السبيل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَاهَا } [الطلاق:7]، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه]، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة]، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال].
وقد قص الله على هذه الأمة أنباء الأمم السابقة، والقرون السالفة، وما كان سبب هلاكهم، من الإختلاف في الدين، وعدم الائتلاف على ما جاءتهم به أنبياؤهم من الحق المبين؛ قال عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام:159]، في آي منيرة، ودلائل كثيرة.
ورَفْعُ الجناح للمتأول بالخطأ، مَحَلُّه فيما شأنه أن يخفى، مما لم يقم عليه بيان قاطع، ولابرهان ساطع، وإلا امتنع الحكم بالضلال؛ للاحتمال لكل مدع لشبهة، من أهل الكتابين وسائر الملل الكفرية، وارتفع القطع بالهلاك لأي مخالف يجوَّز ذلك في حقه من البرية، مالم يقروا بالعناد، وذلك أقل قليل من العباد؛ وهذا عدوّ الله إبليس تشبث بالشبهة وهو رأس الإلحاد، ولم يعذر الله تعالى من /32

حكى عنهم ظن الإصابة واِلاعتقاد، نحو قوله عز وجل: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} [المجادلة]، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف]، وما ورد من أوصاف المارقين من الدين.
ولانسدت الطريق، إلى معاملة كل فريق، ولبطلت الأحكام، من الجهاد والمعاداة وغيرها؛ وهذا خلاف المعلوم الضروري من دين الإسلام، وقد أمر الله بالمقاتلة والمباينة لغير المعاهدين، من الكافرين والباغين، ولم يستثن ذا شبهة وتأويل، بل جعل المناط مخالفة الدليل؛ ولايمكن الفرق قطعاً بين من عذره الله تعالى ورفع عنه الجناح، ومن لم يعذره وأوقع عليه اسم الكفر أو البغي ونحو ذلك، مما يفيد المؤاخذة باتضاح، إلا بأحد أربعة أمور:
1. إما أن يكون الخلاف في ضروري.
2. وإما أن يصرح كما قدّمنا بالعناد، وعدم النظر.
3. أو يرد فيه نص بخصوصه.
4. أو يكون المناط المخالفة للمعلوم المكلف به ضرورياً كان أو استدلالياً جلياً.
والأول والثاني غير موجودين قطعاً في كثير من أهل الكتابين، وأهل الملل وغيرهم، وقد علم قطعاً جري الأحكام عليهم جميعاً، من كان منهم في عصر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وبعده.
والثالث ممتنع بعد ارتفاع الوحي؛ وأيضاً على هذا أنه لايحكم إلا على من ورد فيهم النص بأعيانهم، أو قاتلهم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ كذلك؛ وأما غيرهم ـ وإن كانوا على /33

ما هم عليه من الملة ـ فلا؛ لاحتمال أن يكونوا مخطئين متأولين قد بذلوا الجهد، فليسوا بمؤاخذين؛ وهو خلاف ما قضت به الآيات القرآنية، ونطقت به السنة النبوية، وأجمعت عليه الأمة المحمدية، من معاملة كل فرد من كل طائفة من أهل الكتابين، وسائر الملل الكفرية بمعاملتهم، من غير فرق بين ناظر ومعاند، ومقرّ وجاحد.
ولم يبق إلا الرابع؛ واشترك فيه كل مخالف؛ وسواء قُدّر أنه عاند أو قصر؛ لمخالفة المعلوم، الذي كلف العلم به، ضرورياً كان أو استدلالياً جلياً، مع التمكن من النظر، وإن اختلف حكم المخالفة، وتفاوتت الدرج، إلى مُخْرج عن الملة وغير مُخْرج، حسبما يقتضيه الدليل.
وبهذا وغيره من الأدلة القاطعة مما لايسعه المقام يتبين أنه غير معذور، وأن المطابقة للحق ممكنة؛ إذْ لايكلف الحكيم ماليس بمقدور؛ والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
هذا، وقد علم ماعمت به البلوى من الافتراق، وقامت به سوق الفتنة في هذه الأمة على ساق، وصار كل فريق يدعي النجاة لفريقه، والهلكة على من عدل عن منهاجه وطريقه، وأن حزبه أولوا الطاعة، وأولى الناس بالسنة والجماعة؛ كما قال ذو الجلال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون] /34

والدعاوي إن لم تقيموا عليها .... بيّناتٍ أبناؤها أدعياءُ
[السبيل الوحيد لطالب النجاة]
وسبيل طالب النجاة، المتحري لتقديم مراد الله، وإيثار رضاه، الاعتماد على حجج الله، وتحكيم كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، واطراح الهوى والتقليد، اللذين ذمهما الله في الكتاب المجيد، وتوخي محجة الإنصاف، وتجنب سبل الغي والإعتساف، غير مكترث في جانب الباطل لكثرة، ولا مستوحش عن طريق الحق لقلة؛ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله؛ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلايخرصون.
وقد قرع سمعك ـ أيها الناظر، وفقنا الله وإياك ـ مانعى الله تعالى على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وماذاك إلا اتباعهم لهم، وطاعتهم إياهم، كما فسر ذلك رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ لعدي بن حاتم - رضي الله عنه -: ((فتلك عبادتهم)).
وسمعت ما حكى من تبري بعضهم عن بعض، ولعن بعضهم لبعض، وتقطع الأسباب، عند رؤية العذاب ـ أعاذنا الله تعالى منه، وأنالنا بفضله وكرمه الزلفى وحسن المآب ـ والله جل جلاله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النساء:135].
ومن المعلوم أنه متى كان النظر من أهله، فيما يحتاج الناظر فيه إلى النظر على هذه الطريقة، معتصماً في كل مقام بهذه الوثيقة، تتنوّر بصائر صاحبه ببراهين اليقين، وتنكشف عنه رِيَبُ المرتابين. /35

5 / 143
ع
En
A+
A-