في قلوب كثير من الناس من كلامه ماوقع؛ فقلت أنا: صدق رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، هو كما قلت يارسول الله.
فقال: ((أنت الصديق، ويعسوب المؤمنين وإمامهم، وأول المؤمنين إيماناً؛ وأنت الهادي والوزير)).
فلما أصبح ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أقبل الرهط من حضرموت، حتى دنوا منه وسلموا عليه، وقالوا: يامحمد، اعرض علينا الإسلام.
فعرضه عليهم، فأسلم ستة، ولم يسلم ثلاثة، وانصرفوا.
فقال (ع) للثلاثة: ((أما أنت يافلان، فتموت بصاعقة من السماء؛ وأما أنت يافلان، فتخرج في طلب إبلك، فيلقاك ناس من كذا فيقتلونك)).
فوقع في قلوب ناس من ذلك ماوقع، فقلت أنا: صدقت يارسول الله.
فقال: ((صدّق الله قولك ياعلي)).
فما كان حتى أقبل الستة الذين أسلموا، فقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((مافعل أصحابكم الثلاثة؟)) قالوا: والذي بعثك بالحق نبياً، ما جاوزوا ما قُلْتُ.
وأتاه الملأ من قريش: أبو جهل بن هشام، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وشيبة، وعتبة، وصناديد قريش، فقالوا: يامحمد، قد ادعيت أمراً عظيماً، لم يدّعه آباؤك، ونحن نسألك أن تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها، وتقف قدّامك.
فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((إن ربي على كل شيء قدير؛ وإني أريكم ماتطلبون، وإني أعلم أنكم لاتجيبونني؛ وإن منكم من يذبح على القليب، ومن يحزّب الأحزاب؛ ولكن ربي رحيم)).
ثم قال للشجرة: ((انقلعي بعروقك، بإذن الله)).
فانقلعت وجاءت، ولها دوي شديد، حتى وقفت بين يدي رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
فقالوا استكباراً وعتواً: ساحر كذاب، هل صدقك إلا مثل هذا ـ يعنونني ـ.
فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((حسبي به ولياً وصاحباً ووزيراً، قد أنبأتكم أنكم لاتؤمنون؛ والذي نفس محمد بيده، لقد علمتم أني لست بساحر ولا كذاب)).
فكان أشدهم عليه أبو جهل بن هشام، وهشام بن المغيرة، وابن حرب؛ ولم يكن أشد عليه من هاتين القبيلتين: بني مخزوم، وبني أمية؛ فلعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله /465

وسلم فنزل بهم الذبح، فذُبح مَنْ ذُبح، وبقي من بقي ملعوناً، ونزل على رسول الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}[الحجر]، ثم نزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء].
فقال لي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((ياعلي، انطلق إلى بني عبد المطلب، وعبد شمس، ومخزوم، وتيم، وعدي، وكعب بن لؤي؛ فاجمعهم إلى نبي الرحمة، فإني أريد أن أكلّمهم، وأبلغهم رسالة ربي، وأقيم فيهم وزيري وناصري، لايتقدمه ولايتأخر عنه إلا ظالم)).
وأمر ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ بذبح شاة، فانطلقت وجمعتهم إليه، وهم ستون رجلاً لايزيدون ولاينقصون رجلاً، فطعموا، وشبعوا ـ بإذن الله ـ وفضل من الطعام أكثره.
ثم قال: ((ياأيها الملأ من قريش، أتيتكم بعزّ الأبد، وملك الدنيا والآخرة؛ فأيكم يؤازرني، ويبايعن على أمري؟)).
فلم يجيبوه.
فقلت ـ وأنا أحدث القوم سناً ـ: أنا يارسول الله.
قال: ((اللهم اشهد أني وازرته وخاللته، فهو وزيري وخليلي، وأميني ووصيي، والقائم بعدي)).
فقاموا يقولون لأبي طالب: قد ولّى عليك ابنك، واتخذه خليلاً دونك.
وأقبل أبو جهل، فقال: أتزعم أنك نبي، وأن ربك يخبرك بما نفعله؟ فهل تخبرني بشيء فعلته لم يطلع عليه بشر؟.
فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((أخبرك بما فعلت، ولم يكن معك أحد؛ الذهب الذي دفنته في بيتك في موضع كذا، ونكاحك سودة)).
فقال: مادفنت ذهباً ولانكحت سودة.
فقال (ع): ((فأدعو الله أن يذهب بمالك الذي دفنت)).
فضاق بأبي جهل، وقال: قد علمنا أن معك من الجن من يخبرك؛ أما أنا فلا أقرّ أبداً أنك نبي.
فقال: ((والله لأقتلنك، ولأقتلن عتبة، والوليد، ولأقتلنّ أشرافكم، ولأوطئن بلادكم الخيل، ولآخذنّ مكة عنوة)).
قلت: قال الشارح العلامة، بعد أن ساق بحثاً بالغاً في الشواهد من /466

أعلام النبوة: وروي عن جعفر بن محمد الصادق (ع)، قال: كان علي (ع) يرى مع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت؛ وقال له ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لولا أني خاتم الأنبياء، لكنتَ شريكاً في النبوة، فإلا تكن نبياً فإنك وصي نبي ووارثه؛ بل أنت سيد الأوصياء، وإمام الأتقياء)).
وأما خبر الوزارة، فقد ذكره الطبري في تاريخه، عن عبدالله بن عباس، عن علي بن أبي طالب (ع)، قال: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]، على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ دعاني، فقال: ((ياعلي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين)).
ثم ساق رواية الإنذار.
ثم قال لهم: ((هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا)).
قال: ويدل على أنه وزير رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ من نص الكتاب والسنة، قول اللَّه تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)}[طه].
وقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لانبي بعدي)) فأثبت له جميع مراتب هارون من موسى؛ فإذن هو وزير رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وشادّ أزره. انتهى.
[رجع] وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وأنا عنده يوماً: ((يامعشر قريش، يأتيكم غداً تسعة رهط، من وراء هذا الجبل، ـ يعني حراء ـ فيسلم سبعة، ويرجع اثنان كافران، يأكل أحدَهما السبعُ، والآخر يعضّه بعيره، فيورثه حمرة، ثم آكِلَة، ثم موتاً)).
وأخذت قريش تهزأ؛ فلما أصبح، أتى النفر إلى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، فأسلم سبعة، ونزل بالكافرين ماقال، فَصَعِدتُ الجبل وناديتُ: أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
فأرادوا قتلي، فأيدني الله بملك كريم دفعهم عني.
ثم إن خليلي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ قال /467

لي: ((ستقاتل قريشاً؛ إنها لا تحبك أبداً، وإن لك أنصاراً نجباء خيرة، ذُبْلَ الشفاه، صفر الوجوه، خمص البطون، لاتأخذهم في الله لومة لائم؛ رعاة الليل، متمسكون بحبل الله، لايستكبرون ولايضلون)).
ثم الذئب، الذي كلّم أبا الأشعث، طرده من غنمه مرة بعد مرة؛ فلما كانت الرابعة قال: مارأيتُ ذئباً أصفق منك.
قال الذئب: أنت أصفقمني؛ تتولى عن رسول رب العالمين.
قال الراعي: ويلك ماتقول؟.
قال الذئب: الويل لمن يصلى جهنم غداً، ولايدخل في دين محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
قال الراعي: حسبي من يحفظ غنمي لأنطلق، وأؤمن به.
فقال الذئب: أنا أحفظها عليك.
فجاء الراعي يعدو، قال: السلام عليك يارسول الله.
وأخبره بكلام الذئب، فأخذ أبو الأشعث سخلة وذبحها للذئب، وقال: أعتقني من النار.
وأتى رجل يستبحث رسول الله، وكان عاقلاً لبيباً، فقال: يامحمد إلى من تدعو؟
قال: ((إلى شهادة أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له)).
قال: وأين الله يامحمد؟.
قال: ((هو بكل مكان موجود، وليس في شيء منها بمحدود)).
قال: فكيف هو؟.
قال: ((هو خلق الكيف والأين، فلا يقال: كيف، ولا أين)).
فقال: كيف لي أن أعلم أنه أرسلك؟.
فلم يبقَ بحضرتنا يومئذ حجر ولامدر ولاشجر، إلا قال: أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأن محمداً رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
فأسلم الرجل، وقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((قد سميتك عبدالله)).
قال علي (ع): وخلفني رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ في تبوك، فتكلم أناس بما في صدورهم، وقالوا: خلّفه إذْ أبغضه.
فلحقتُ برسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، فأخبرته، فقال لي في ملأ منهم: ((ياعلي، إن الله أمرني أن أواخيك، وأن أقربك، ولاأجفوك، وأدنيك، ولا أقصيك، أنت أخي في الدنيا والآخرة؛ وأمرني ربي أن أقيمك ولياً من بعدي، وسألته أن /468

يشركك معي في الشفاعة)).
ثم سار ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ بمن معه، فشكوا العطش، فقال: ((اطلبوا الماء)).
فلم يصيبوا شيئاً، حتى خافوا على أنفسهم، وقالوا: يارسول الله ادعُ لنا ربك.
فنزل جبريل (ع)، فقال: يامحمد، ابحث بيدك الصعيد، وضع قدميك وأصبعيك المسبحتين، وسمّ.
ففعل ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، فانبجستمن بين أصابعه الماء، فشربوا ورووا، وسقوا دوابهم وحملوا منه، فأعطي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ فوق ما أعطي موسى بن عمران، فازداد المؤمنون إيماناً.
وموضع الماء اليوم معروف، وقد اغتسلت منه يومئذ.
انتهى الكلام الكريم العلوي.
[شروح النهج، ترجمة ابن أبي الحديد]
وقد شرح نهج البلاغة الإمام المؤيد برب العزة، يحيى بن حمزة (ع)، وغيره.
وأشهر شروحه، وأبسطها وأجلّها، وأكملها وأبهجها، شرح البحر المتدفق، والحبر المحقق المدقق، العالم النحرير، والحافظ الكبير، عز الدين، أبي حامد، عبدالحميد بن هبة الله بن محمد المدائني، الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي، المتوفى سنة خمس وخمسين وستمائة، من علماء العدل والتوحيد، القائمين بحق الله ورسوله ووصيه وأهل بيت نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
ويلوح للمنتقد من لمحات كلامه لزوم ماعليه أئمة العترة المطهرة ـ (ع) ـ ويفوح للمختبر من نفحات مرامه الحوم حول طرائقهم النيّرة.
ولعله منعه عن المصارحة في الأغلب إظهار النصفة للخصوم، لعل لها عذراً وأنت تلوم، وقد كان تحت وطأة الدولة العباسية، فعذره في ذلك معلوم؛ إلا أنه يصمم في بعض المقامات، على بعض الأقوال، تصميماً لايتضح الحامل عليه، ولايظهر الملجئ إليه.
وعلى كل حال فشرحه ذلك بغية المرتاد، /469

لكل مراد.
قال فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الواحد العدل.
إلى قوله: وصلى الله على رسوله محمد، الذي المكْنيُّ عنه ـ أراد الوصي (ع) ـ شعاع من شمسه، وغصن من غرسه، وقوة من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبة الغد إلى يومه واليوم إلى أمسه؛ فما هما إلا سابق ولاحق، وقائد وسائق، وساكت وناطق، ومجَلٍّ ومصَلٍّ، سبقا لمحة البارق، وأنارا سدفة الظلمة الغاسق، صلى الله عليهما، مااستخلَبَ خبير، وتناوح حراء وثبير.
ثم ساق إلى قوله: على أن كثيراً من فصوله ـ يعني النهج ـ داخل في باب المعجزات المحمدية؛ لاشتمالها على الأخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية.
[مِنْ شرح النهج في الذين قدَّموا علياً من المعتزلة]
ولما بلغ إلى القول في التفضيل، قال: وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم، ومتأخروهم، كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى عيسى بن صبيح، وأبي عبدالله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي.
قلت: هو محمد بن عبدالله، صاحب الكتاب العظيم في الرد على الجاحظ؛ لأن الجاحظ والنظام، وأمثالهما، من البصريين المائلين عن أمير المؤمنين (ع)، وغير مستنكر منهم، وكلام الوصي في البصرة، وأهلها معلوم.
قال: وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم عبدالله بن محمود البَلْخِي، وتلامذته [قالوا]: إن علياً (ع) أفضل من أبي بكر، وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبوعلي محمد بن عبد الوهاب الجبائي.
إلى قوله: وقال ـ أي قاضي القضاة ـ: إن أبا علي ـ رضي الله عنه ـ يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وقد كان ضعف عن رفع الصوت، فألقى إليه أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي (ع).
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله (ع)، الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري ـ رضي الله عنه ـ، كان متحققاً بتفضيله، ومبالغاً في ذلك، وصنف فيه كتاباً مفرداً؛ وممن ذهب إلى تفضيله (ع) من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبار بن أحمد ـ رضي الله عنه ـ.
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله (ع)، أبو محمد الحسن بن مَتَّويه، صاحب التذكرة، نص في كتاب الكفاية على تفضيله (ع) على أبي بكر /470

واحتج لذلك، وأطال الاحتجاج.
إلى قوله: وأما نحن فنذهب إلى مايذهب إليه شيوخنا البغداديون، من تفضيله(ع)، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية مامعنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثواباً أم الأجمع لمزايا الفضل، والخلال الحميدة؟ وبيّنا أنه (ع) أفضل على التفسيرين معاً.
ثم ساق في بيان أحوال الوصي ـ رضوان الله عليه ـ، وأبان في خلال ذلك استناد جميع العلوم من جميع الفرق إليه.
وقال في حكاية مذهب البغدادين في الإمامة مانصه: إنه الأفضل، والأحق بالإمامة.
إلى قوله: فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين.
إلى قوله: ولم يُخْرِجْه تقدّمُ مَنْ تقدّم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق؛ وقد صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي ـ رحمه الله تعالى ـ بهذا، وصرّح به تلامذته، وقالوا: لو نازع عقيب وفاة رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، وسلّ سيفه، لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدّم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه؛ ولكنه مالك الأمر، وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عنها؛ وحكمه في ذلك حكم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ؛ لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: ((علي مع الحق، والحق مع علي، يدور حيثما دار)).
وقال له غير مرة: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)).
وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي، وبه أقول. انتهى.
وفي شرح قول أمير المؤمنين ـ رضوان الله عليه ـ: هلك فيَّ اثنان: محب غال، ومبغض قالٍ.
ولهذا كان أصحابنا أصحاب النجاة والخلاص، والفوز في هذه المسألة؛ لأنهم سلكوا طريقة مقتصدة، قالوا: هو أفضل الخلق في الآخرة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأكثرهم خصائص، ومزايا ومناقب، وكل من عاداه أو حاربه أو أبغضه، فإنه عدوّ لله سبحانه، وخالد في النار مع الكفار والمنافقين، إلا أن يكون ممن قد ثبتت توبته، ومات على توليه وحبه.
إلى قوله في /471

المشايخ: فلو أنكر إمامتهم، وغضب عليهم، وسخط فعلهم ـ فضلاً عن أن يشهر عليهم السيف، أو يدعو إلى نفسه ـ لقلنا إنهم من الهالكين، كما لو غضب عليهم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
قلت: فتأمل هذا، مع ماملأ به الشرح من تصحيح إنكار الوصي ـ رضوان الله عليه ـ، وشكايته منهم، يظهر لك مصداق ماأشرنا إليه سابقاً.
قال: لأنه قد ثبت أن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - قال له: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)) وأنه قال: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)) وقال له: ((لايحبك إلا مؤمن، ولايبغضك إلا منافق)).
ثم ساق في تقرير كونه راضياً عنهم؛ فالله أعلم، أَغَفْلَةٌ منه أَمْ تغافل؟
قال: والحاصل أنا لم نجعل بينه وبين النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، إلا رتبة النبوة، وأعطيناه كل ماعدى ذلك من الفضل المشترك بينه وبينه.
إلى قوله: والقول بالتفضيل قول قديم، قد قال به كثير من الصحابة والتابعين.
وقال أيضاً في هذا الجزء وهو العشرون من الشرح: فأما علي (ع)، فإنه عندنا بمنزلة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ في الاحتجاج بفعله، ووجوب طاعته.
[شيء من شرح النهج في العترة]
وقال في شرح قول الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: فأين يتاه بكم؟ وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق؟ فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
إلى قوله ـ رضوان الله عليه ـ: ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر؟ ما نصه: وقد بين رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ عترته، من هي لما قال: ((إني تارك فيكم الثقلين)) فقال: ((عترتي أهل بيتي)).
وبين في مقام آخر، مَنْ أهل بيته حيث طرح عليهم كساء، وقال حين نزلت: /472

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ } [الأحزاب:33]: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب الرجس عنهم)).
فإن قلت: فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين (ع) بهذا الكلام؟.
قلت: نفسه، وولداه.
والأصل في الحقيقة نفسه؛ لأن ولديه تابعان له، ونسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة؛ وقد نبّه النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ على ذلك بقوله: ((وأبوكما خير منكما)).
إلى قوله: في أزمة الحق (جمع زمام) كأنه جعل الحق دائراً معهم حيثما داروا، وذاهباً معهم حيث ذهبوا، كما أن الناقة طوع زمامها.
وقد نبّه الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ على صدق هذه القضية بقوله: ((وأدر الحق معه حيث دار)).
وقوله: ((وألسنة الصدق)) من الألفاظ الشريفة القرآنية؛ قال الله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}[الشعراء]، لما كان لايصدر عنهم قول ولاحكم، إلا وهو موافق للحق والصواب.
..إلخ كلامه.
وقال في الجزء التاسع في شرح قول الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تُؤْتى البيوت إلا من أبوابها إلخ مانصه: واعلم أن أمير المؤمنين (ع) لو فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله، بفصاحته، التي آتاه الله تعالى إياها، واختصه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى معشار مانطق به الرسول الصادق ـ صلوات الله عليه ـ في أمره، ولست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة.
إلى قوله: كخبر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة، وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك؛ بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث، التي لم يحصل منها أقل القليل لغيره؛ وأنا أذكر من ذلك شيئاً يسيراً، مما رواه علماء الحديث، الذين لا يتهمون فيه.
ثم ساق أربعة وعشرين /473

خبراً.
[إشارة من شرح النهج إلى بعض المغيبات التي أخبر بها الوصي]
هذا؛ ونختم الكلام فيه ببحثٍ ساقه في شرح قول الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: فاسألوني قبل أن تفقدوني؛ فوالذي نفسي بيده، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولاعن فئة تهدي مائة وتضل مائة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها.
..إلخ كلامه ـ عليه أزكى صلوات الله وسلامه ـ.
لاشتماله على لمعة جامعة من إخباره بالغيوب، التي هي من دلائل النبوة، وأعلام الرسالة، صلوات الله وسلامه على صاحبها وآله.
قال الشارح ـ أحسن الله مكافأته ـ: واعلم أنه (ع) قد أقسم بالله الذي نفسه بيده، أنهم لايسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة، إلا أخبرهم به.
وساق في ذلك، حتى قال في تعداد الأخبار، التي امتلأت بها عنه حافلات الأسفار، مانصه: كإخباره عن الضربة التي تضرب في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه (ع)، وما قاله في كربلاء حيث مَرّ بها، وإخباره عن ملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به عن الخوارج بالنهروان، وماقدمه إلى أصحابه بقتل من يقتل منهم، وصلب من يصلب.
قلت: وإخباره بالإمام الأعظم زيد بن علي وما يلاقي، وتبشيره بإمام الأئمة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق (ع) وغيرهما؛ إلا أن هذه من الأخبار العظام، التي لم يتعرض لها الشارح هنا؛ وقد فصل في الشرح ماأشار إليها من المخبرات فيما سبق، وفيما يأتي له.
قال: وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة، لما شخص (ع) إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبدالله بن الزبير، وقوله فيه: خبّ ضبّ يروم أمراً لايدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش.
وإخباره عن هلاك البصرة بالغرق، وهلاكها تارة أخرى بالزنج، وهذا الذي صحفه قوم فقالوا /474

48 / 143
ع
En
A+
A-