.
(رجع) عن السيد الإمام، علم أعلام العترة الكرام، يحيى بن إسماعيل بن علي بن أحمد بن علي بن علي بن محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن الأفطس ابن علي الأصغر ابن علي بن الحسين بن علي (ع)، هكذا نسبه في مشجر أبي علامة، وبينه وبين مافي الطبقات اختلاف يسير، والصحيح مافي المشجر المذكور؛ بينه وبين أمير المؤمنين ستة عشر.
قال السيد الإمام في ترجمته: السيد الإمام العلامة، يروي عن عمه العلامة، الحسين بن علي بن أحمد الجويني، كتب الأئمة، وغيرهم.
فمما سمعه عليه: كتب الحاكم الجشمي، كتنبيه الغافلين، وجلاء الأبصار، والسفينة.
وسمع عليه من كتب الأئمة: أمالي أبي طالب، وصحيفة زين العابدين علي بن الحسين، وصحيفة علي بن موسى الرضا، ونهج البلاغة.
إلى قوله: وعمه أسند كل كتاب إلى مؤلفه، وأخذ عنه عمرو بن جميل النهدي، شيخ الإمام عبدالله بن حمزة؛ وأحمد بن زيد بن علي الحاجي؛ وكان سماعهما عليه ببلدة نيسابور، في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
قلت: وهنا فائدة، وهي أنا نروي بالأسانيد الصحيحة، منها ماتقدم في المجموع إلى الإمام الحجة عبدالله بن حمزة، عن شيخه عمرو بن جميل، عن السيد الإمام يحيى بن إسماعيل، عن عمه الحسين بن علي، عن الشريف الرضي كتاب نهج البلاغة.
وعن إمام الشيعة الأعلام الحاكم، المعتزلي ثم الزيدي، الشهيد، أبي سعيد، المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي، المتوفى شهيداً في بلد الله الحرام، على يدي أعداء التوحيد والعدل وآل محمد الكرام ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ، عام أربعة وتسعين وأربعمائة، أجزل الله ثوابه، وأكرم لديه نزله ومآبه، جميع مؤلفاتهوهي: ما تقدم ذكره، والتهذيب في التفسير، /455

والعيون، وشرحه في الكلام، وغير ذلك.
وستأتي الطرق إلى مؤلفاته، عند ذكر أسانيد مؤلفات علماء الشيعة ـ إن شاء الله ـ بأبسط مما هنا.
فالحسين بن علي يروي عن الشريف الرضي، وعن الحاكم ـ رضي الله عنهم ـ، جميع ذلك.
(رجع إلى تمام ترجمة السيد الإمام يحيى بن إسماعيل (ع) في الطبقات).
قال تلميذه عمرو مالفظه: هو السيد الإمام، مفخر الأنام، الصدر الكبير، العالم العامل، مجد الملة والدين، وافتخار آل طه وياسين، ملك الطالبية، شمس آل الرسول، أستاذ الطوائف، الموافق منهم والمخالف، قبلة الفرق، تاج الشرف.. إلخ.
[ترجمة السيد الحافظ الحسين الجويني]
(رجع) إلى تمام سند النهج.
عن عمه الحسين بن علي الجويني.
ترجم له السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ في طبقات الزيدية فيمن اسمه الحسن ـ بالتكبير ـ وهو في سائر كتب الإسناد الحسين ـ بالتصغير ـ وقد جريت فيما سبق على كلامهم فقال بعد تمام نسبه المتقدم، في ترجمة ابن أخيه يحيى بن إسماعيل ما نصه: الحسيني الهاشمي العلوي المعروف بالجويني، السيد بدر الدين؛ يروي صحيفة علي بن موسى الرضا، عن الشيخ الإمام عمر بن إسماعيل، عن الشيخ الزاهد، علي بن الحسن الصيدلي، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وأمالي أبي طالب، وتنبيه الغافلين، وجلاء الأبصار، وغيرها من كتب الحاكم أبي سعيد ابن كرامة؛ كل ذلك عن المؤلف.
وروى صحيفة زين العابدين، ونهج البلاغة، وأمالي أحمد بن عيسى، كل ذلك عن مشائخ عدة متصلة طرقهم بالمؤلف.
وأخذ عنه جميع ذلك مابين سماع، وإجازة، ولدُ أخيه يحيى بن إسماعيل.
إلى قوله: كان السيد إماماً حافظاً من حفاظ العترة، وبدور الإسناد المشرقة؛ وقال المنصور بالله: كان إماماً زاهداً. انتهى.
(رجع) بسنده إلى مؤلفها.
قلت: هكذا في بلوغ الأماني، والظاهر فيه عدم الاتصال؛ ولكن في سند الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع) وفي سائر كتب الأسانيد، عن الحسين بن علي، عن المؤلف.
وقد قرر الإمام الشهير، المنصور بالله محمد بن عبدالله الوزير، (ع) /456

في فرائد اللآليء الاتصال.
وحكى ماوقع بينه، وبين السيد العلامة عبد الكريم بن عبدالله أبي طالب، صاحب العقد النضيد ـ رضي الله عنه ـ، من المراجعة وردّ ماشكك به المقبلي في ذلك، وذكر السند الآتي المتصل بلا احتمال، وهو قاطع للإشكال؛ مع أنهم قد ذكروا أن الحسين بن علي قد أسند كل كتاب إلى مؤلفه.
هذا، ومافي إتحاف الأكابر للشوكاني من نسبة النهج إلى المرتضى غلط واضح.
نعم، وأما السند المتصل بالمؤلف الرضي، ـ رضي الله عنه ـ على التحقيق من الطريق الأخرى، فأرويه أيضاً بالأسانيد السابقة إلى الإمام يحيى شرف الدين، عن السيد صارم الدين، عن الواثق بالله، عن أبيه الإمام المهدي لدين الله (ع)، عن الشيخ الفاضل المار ذكره في سند الجامع الكافي، محمد بن عبدالله الغزال المضري، وقد بسط ترجمته السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ.
وقال فيها: الفقيه العالم بدر الدين.
وذكر أسانيده إلى شرح التجريد، وإلى الكشاف، وغيرهما، وأنه أهدى للإمام محمد بن المطهر، نسخة الكشاف المشهورة.
قال: وله تلامذة أجلاء، منهم: الإمام محمد بن المطهر.
إلى قوله: قال السيد محمد بن إدريس: أجاز لي سيدنا الفقيه، الإمام العلامة، الأوحد الصدر، القدوة الحبر، شمس الدين، حافظ علوم العترة الأكرمين، حواري أمير المؤمنين، إلخ يعني بذلك الغزال.
وقد تقدم ذكر السيد محمد بن إدريس في سند الجامع الكافي.
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: ولعل وفاته في عشر الأربعين وسبعمائة.
(رجع) قال في سنده: بإجازتي عن الفاضل العامل، المحقق، محيي الدين ابن الشيخ العلامة، تقي الدين عبدالله بن جعفر الأسدي بإجازته، عن العالم الفاضل الصدر، مجد الدين عبدالله بن محمود بن مودود، من بلد حي، بروايته عن العالم الفاضل العابد، السيد ذي الحسبين، جمال الدين، أبي الفتوح، حيدر بن محمد بن زيد بن محمد بن عبيد الله الحسيني قراءة عليه، بحق /457

روايته ذلك قراءة، عن الشيخ الإمام العالم رشيد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب السروي، عن السيد المنتهى بن أبي زيد بن كياكي الحسيني الجرجاني، عن أبيه أبي زيد، عن السيد الرضي، مصنف الكتاب المذكور.
فاتصل السند، وبطل ماشكك به الشيخ صالح المقبلي ـ كافاه الله تعالى ـ ولله الحمد.
وبعد هذا، فكتاب نهج البلاغة متلقى بالقبول، عند آل الرسول، ـ صلوات الله عليهم ـ وشيعتهم ـ رضي الله عنهم ـ.
وما أحسن قول حافظ اليمن، السيد صارم الدين الوزير (ع):
وإن التلقي بالقبول على الذي .... به يستدل المرء خير دليلِ
وما أمة المختار من آل هاشم .... تلقَّى حديثاً كاذباً بقبولِ
قال السيد الإمام في الطبقات، في ترجمة السيد الإمام الكبير، الفاضل الخطير، داود بن يحيى بن الحسين المتوفى سنة ست وتسعين وسبعمائة: سمع عليه الهادي بن إبراهيم الوزير الكبير نهج البلاغة؛ ثم قال بعد السماع: ماكان في نهج البلاغة فهو صحيح.
قال السيد داود بن يحيى: انعقد إجماع العترة على أن نهج البلاغة كلام علي (ع). ا هـ.
والسيد العلامة داود بن يحيى أخو الهادي بن يحيى المتقدم في سند المجموع، وهما ابنا السيد يحيى بن الحسين صاحب الياقوتة، وقبراهما بمشهد إمام الأئمة الهادي إلى الحق (ع).
وإن من الآيات العجيبة ما ذكره الإمام الشهير، محمد بن عبدالله الوزير (ع)، أن بعض الصالحين كان له أخ يشكك عليه في نهج البلاغة، رأى أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - في النوم ينشده هذين البيتين:
قد صحّ عنّا فتمسك به .... ليس الذي يرويه بالكاذب
أخوك عبدالله احذره لا .... تماشه وإمش في جانب
/458

هكذا في المنقول عنه؛ ولايستقيم إلا بقطع همزة إمش، وهو يجوز للضرورة وإن كانت همزة وصل؛ ولو كان (إلى) مكان (في) لاستقام الوزن مع الوصل؛ ولكن الرواية كذا.
نعم، وهذا الكلام إنما هو لتصحيح جميع ماتضمنه نهج البلاغة؛ ولم يشكك الخصوم إلا في مواضع خالفت أهواءهم، وسفهت آراءهم، لا في جميع ذلك فليس بمستطاع؛ وأنى للأكف أن تغطي من القمرين ضوء الشعاع؛ لأن فصول كلامه، وعيون حكمه، في جميع أبواب العلوم منقولةٌ مأثورة، وفي مؤلفات الأمة المحمدية، وأسفار طوائف الملة الحنيفية، بل وعند غيرهم مرسومةٌ مزبورة؛ وعند الله تجتمع الخصوم.
[ديباجة النهج]
قال الشريف الإمام الرضي ـ رضي الله عنه ـ: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الحمد ثمناً لنعمائه، ومعاذاً من بلائه، وسبيلاً إلى جنانه، وسبباً لزيادة إحسانه، والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الأئمة، وسراج الأمة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم، ومغرس الفخار المُعْرِق، وفرع العلى المثمر المورق، وعلى أهل بيته، مصابيح الظلم، وعصم الأمم، ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة؛ صلى الله عليهم أجمعين، صلاة تكون إزاء لفضلهم، ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع.
وساق إلى قول أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ في أول خطبة من الكتاب:
الحمد لله، الذي لايبلغ مدحته القائلون، ولايحصي نعماءه العادون، ولايؤدي حقه المجتهدون..إلخ.
[يواقيت من خطب النهج]
ونسوق قسطاً من خطبة له ـ صلوات الله عليه ـ، من نهج البلاغة؛ إلا أني متى وصلت إلى فصل منها، مذكور في مصابيح السيد/459

الإمام، وارث الحكمة، وشيخ الأئمة، أبي العباس الحسني (ع)، انتقلتُ إلى روايته لاستكمالها؛ لأن الشريف الرضي ـ رضي الله عنه ـ إنما يأخذ المختار؛ وفيها من ذكر الحجج الإلهية، والآيات الربانية، والمعجزات النبوية، والكرامات العلوية، مايبهر الأبصار؛ وربك يخلق ما يشاء ويختار،وعند الوصول إلى مافي المصابيح أذكر تحويل الرواية، وسند أبي العباس فيها، وقد وافق ذلك أيضاً؛ لأنه لم يذكر ـ فيما سبقـ نقل شيء من المصابيح على العادة، عند انتهاء السند في أمثاله.
قال إمام الأبرار، وقسيم الجنة والنار، أبو الأئمة الأطايب، علي بن أبي طالب، ـ صلوات الله عليه ـ: الحمد لله، الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حماً وحرماً على غيره.
قلت: وفي (لبس) إلخ استعارة مصرحة تبعية، شبّه اتصاف ذي الجلال بالوصفين، بلبس الردائين، أو مكنية، ويكون التشبية في الوصفين بالردائين، واللبس تخييل.
قال: واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده؛ ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين؛ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه، وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ }[ص]، اعترضته الحمية، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله؛ فعدوّ الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادَّرَع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل.
ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره، ووضعه الله بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعد له في الآخرة سعيراً؟‍!.
ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور، يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطِيْب يأخذ /460

الأنفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة.
إلى أن قال: فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس؛ إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وقد كان عبد الله ستة آلاف سنة، لايدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كِبْر ساعة واحدة.
إلى أن قال: إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حما حرّمه على العالمين.
إلى أن قال: فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم، بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران، ومعه أخوه هارون ـ صلى الله عليهما ـ على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزه؛ فقال: ألا تعجبون من هذين؟‍‍‍‍‍‍‍‍! يشرطان لي دوام العزّ، وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب.
إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه.
ولو أراد الله ـ سبحانه ـ لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الأرضين، لفعل؛ ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلّت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها؛ ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى؛ ولو كانت الأنبياء أولي قوة لاترام، وعزة لاتضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم من الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة، والحسنات مقتسمة؛ ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله، /461

والتصديق لكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة لا تشوبها شائبة؛ وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل.
ألا ترون أن الله ـ سبحانه ـ اختبر الأولين، من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الذي جعله الله للناس قياماً؛ ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لايزكو بها خفّ، ولا حافر ولاظلف؟!
ثم أمر آدم (ع) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لمُلْقَى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً، يهللون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خَلْقهم، ابتلاء عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنته.
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتف البناء، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء؛ ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولَوَضَع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس؛ ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحا إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه.
فالله الله في عاجل /462

البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر؛ فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال، مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبداً، ولاتشوي أحداً.
قلت: معنى ما تكدي: ما ترد عن تأثيرها؛ ولاتشوي أحداً: لاتخطئ المقتل، وتصيب غيره، وهو الشوي، والشويُّ الأطراف، كاليد والرجل. أفاده الشارح.
قال (ع): لا عالماً لعلمه، ولامقلاً في طمره؛ وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً؛ مع مافي الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك، إلى أهل المسكنة والفقر؛ انظروا إلى مافي هذه الأفعال، من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر.
قلت: وفي كلامه ـ صلوات الله عليه ـ دلالة واضحة، على كون العبادات مشروعة؛ لمصالح وحكم للعباد، غير مجرّد الشكر، ولكن ليس على الكيفية التي تذهب إليها بعض المعتزلة في الألطاف؛ ولا تنافي بين ذلك، وبين وجوب تأديتها للشكر، كما نصّ عليه محققوا أئمتنا (ع).
إلى أن قال ـ صلوات الله عليه ـ: ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي، والنكث والفساد في الأرض؛ فأما الناكثون فقد قاتلتُ، وأما القاسطون فقد جاهدتُ، وأما المارقة فقد دوّخْتُ، وأما شيطان الردهةفقد كفيته بصعقة، /463

سمعت لها وجبة قلبه، ورجّة صدره؛ وبقيت بقية من أهل البغي؛ ولئن أذن الله في الكرة عليهم، لأديلنّ منهم، إلا من يتشذر في أطراف البلاد تشذراّ.
[من المصابيح لأبي العباس من أمير المؤمنين]
ومن هنا مذكور في المصابيح فنسوق الرواية منها لما سبق.
قال السيد الإمام، أبو العباس الحسني (ع): (ذِكْر بعض دلائل رسول الله -صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -).
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه الحسين (ع)، أن أمير المؤمنين (ع) خطب الناس، فقال:
أنا وضعتُ كَلْكَل العرب، وكسرتُ قرن ربيعة ومضر، ووطئت جبابرة قريش؛ لقد وضعني الله في حجر المصطفى ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وأنا ابن أربع سنين، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده وعرقه، ويقبلني فأمص ريق حكمته، وآكل في قصعته، وألعق أصابعه؛ حتى كان يمضغ الشيء ويلقمني مِنْ فِيْهِ؛ وأنا أصف لكم من علاماته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
لقد قرن الله به أكرم ملائكته، وأقربها إليه، ومنه يكون الوحي؛ إسرافيل (ع)، كان معه ليله ونهاره؛ ولقد كان يرفع رأسه نحو السماء لما أتاه الوحي مِن أول الليل إلى آخره، كأنما ينتظر شيئاً؛ فأنا أول من رأى نور الوحي، وشمّ منه ريح النبوة.
قلت: وفي النهج: أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة؛ ولقد سمعت رنة الشيطان، حين نزل الوحي عليه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، فقلت: يارسول الله، ماهذه الرنة؟ فقال: ((هذا الشيطان قد أيس من عبادته؛ إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك الوزير، وإنك لعلى خير)) إلخ.
وقد ساق شارح النهج العلامة، الروايات على شواهد فصول هذه الخطبة الشريفة، بما فيه كفاية.
(رجع) ثم ذكر في رواية المصابيح تكليم الجمل، والبقرة، والذئب، لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: وكنت معه إذ قال: ((يأتيني تسعة نفر من حضرموت؛ يسلم ستة، ولايسلم ثلاثة)) فوقع /464

47 / 143
ع
En
A+
A-