شرح البخاري.
ونسوا أن الحمد لا يكون إلا على الجميل الاختياري، وكذا اللوم.
وقال الكرماني: فإن قلت: فلمَ يحكم بأنه يثاب ويعاقب؟.
قلت: لأنه علامة لهما.
فانظر إلى جعلهم الوعد والوعيد، إنما هما علامة الثواب والعقاب، كالرعد والبرق علامة للمطر؛ وهذا محض الجبر؛ ولم يلتفتوا إلى الاعتذار بالكسب، وإن عدلوا إليه عندما يلزم من القول الشنيع، إنما هو تستر وتمعذر، بما لاحقيقة له.
وقال الرازي في مفاتيح الغيب، بعد ذكر إشكالات واردة على المجبرة: فإن قال قائل: هذه الإشكالات إنما تلزم على من يقول بالجبر، وأنا لاأقول بالجبر، ولابالقدر؛ بل أقول: الحقُّ، حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.
فنقول: هذا ضعيف؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل، على سبيل الاستقلال، أو لايكون، فإن كان الأول فهو كمال القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض؛ والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة؟ انتهى.
ومما يدل على فساد مذهب الجبرية، أن النقاد منهم رجعوا عنه في آخر أيامهم، كالغزالي ـ روى ذلك في مطلع البدور ـ والفخر الرازي ـ روى ذلك الإمام عز الدين بن الحسن ـ والسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني.
قال بعض العدلية: بلغنا ذلك بالسند الصحيح، وهو اللائق بفطنته وهمته العلية. انتهى.
قلت: ماذكره ـ أيده الله ـ تعالى من رجوع مَنْ ذكر؛ فأما الشريف، والغزالي ـ رحمهما الله تعالى ـ، فقد سبقت الإشارة إلى رجوعهما؛ والعدلي الذي روى رجوعه إلى مذهب أهله من آل محمد (ع) هو العلامة المحقق، إسحاق العبدي ـ رحمه الله ـ في إبطال العناد؛ وأما الرازي، فقد ذكر غيره ـ حماه الله تعالى ـ رجوعه.
وما أرى إلا أنهم قصدوا بذلك ماحكاه الإمام الهادي إلى الحق، عز الدين بن الحسن (ع) في المعراج، وهو /239

مالفظه: قوله: وقال المدعون للتحقيق منهم ـ أشار به إلى الجويني، وتلميذه الغزالي، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وابن الخطيب الرازي، وهؤلاء من متأخريهم؛ وهم المشاهير من علماء المذهب واتفقوا على إنكار الكسب، وتجهيل القائلين به، وأن حدوث أفعال العباد من جهتهم؛ لكنهم ذهبوا إلى أن القدرة موجبة لمقدورها، عند الدواعي، وقالوا بأنها صالحة للضدين، لكن يجب أحدهما عند حصول الداعي؛ هكذا حكاه بعضهم..إلى آخر كلامه.
وهذا كما ترى إنما يفيد عدم قولهم بالكسب.
وأما الجبر فلم يخرجوا عنه بهذا؛ لتصريحهم بإيجاب القدرة، ووجوب الفعل، وهو عين مذهب الجبر، وقد تكرر نقل الإمام عز الدين بن الحسن (ع) عن الرازي، مايفيد استمراره على مذهب الجبرية، وإصراره على تلك المقالات الفرية؛ بل حكى تكفيره عمن لايكفر سائر القدرية.
[تكفير الإمام يحيى بن حمزة للأشعري والرازي والمجسمة]
قال (ع) في المعراج في سياق الكلام في إنكارهم النعمة على الكافر، مانصه: ممن صرح بذلك الرازي.
إلى قوله: قال بعض أصحابنا: ولقد ارتكب عظيماً من الضلال؛ فإن المعلوم بضرورة الدين أن إنزال الكتب، وإرسال الرسل، نعمة على المؤمن والكافر، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء].
فإنكار النعمة الدينية على الكافر، إنكارٌ لما عُلِمَ ضرورة من الدين، وَرَدّ للقرآن، وهذا كفر شنيع، من أوضح الكفر.
ولهذا فإن الإمام يحيى بن حمزة (ع) مع بُعْده عن التكفير، كَفَّرَ القائل به أبا الحسن الأشعري، والرازي ابن الخطيب، ولم يكفر من أهل القبلة إلا هؤلاء، والمجسمة المصرحين بالأعظاء لفظاً ومعنى. انتهى.
وقال (ع) في المعراج بعد أن حكى مقالة الأشعري (إنه لانعمة لله على الكافر لا في الدين، ولا في الدنيا) ما لفظه: قال الإمام يحيى: وهذه مقالة /240

شنيعة، ومذهب منكر، لا يقول به من وقر الإسلام في صدره، وهو كفر صريح، فنعوذ بالله من الجهل، المؤدي إلى الخذلان؛ وكيف يمكن إنكار نعمة اللَّه على الخلق؟! ولا يمكن حصرها وعدها؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34]، فإذاً لاعذر له في هذه المقالة إلا الرد والتكذيب، لما هو معلوم بالضرورة من الدين؛ ولاتعريج على التأويلات الباردة، التي لابرهان ينطق بها، ولايدل عليها؛ ولو ساغ في هذا تأويل، لساغ للباطنية وغيرهم من الفرق الخارجة عن الإسلام تأويلاتهم.
إلى قوله، حاكياً عن الإمام يحيى (ع): وإنما العجب من ابن الخطيب الرازي، حيث صوبه على هذه المقالة، وتابعه على ركوب غارب هذه الجهالة، من غير مخافة لله تعالى، ولا مراقبة للدين، ولا محاشاة لأهل الإسلام؛ ويدعي مع ذلك حذقاً وفطانة، وتبحراً في العلوم وكياسة، وقد ذكر هذه المقالة في تفسيره، ونزل كلام اللَّه الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، على منهاج الجبر، وقرره على قواعده، وحاشا لله وكلاّ، أن يشير كلام اللَّه إليه، أو يدل بظاهره ومفهومه عليه، ولو بعث نبي مرسل على تصديق الجبر، لكان ذلك عندي قدحاً في معجزته.
قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): ولله در الإمام يحيى! لقد سَلّ سيف الانتصار للعدل وأهله، وأتى في ذلك بما يشهد بغزارة علمه ووفور فضله. انتهى.
فهذا وغيره يدلك أنه عند الإمام عز الدين (ع) الذي حكوا عنه رجوعه عن ذلك المذهب، وإنما التبس عليهم الكلام؛ نسأل الله تعالى حسن الختام، ونعوذ به من سوء المنقلب /241

[القدر، والأحاديث الواردة في القدرية، أدلة أنهم المجبرة، مخرجوا ذلك]
هذا، ومن تحريفهم وزيغهم، ورميهم بدائهم لأعدائهم، تسميتهم لأهل التوحيد من العدلية بالقدرية، كما أشار إليه الرازي في قوله: وأنا لاأقول بالجبر، ولابالقدر.....إلخ.
وقد اتفقت طوائف الأمة على ذمّ القدرية؛ لما ورد فيهم من كونهم مجوس هذه الأمة، على لسان خير البرية، وهم فريق الجبرية؛ لأنهم الذين يقولون: أفعال العباد بقدر اللَّه وخلقه، وهو الفاعل لها، ولا اختيار لهم فيها؛ ومنها معاصيه جل وعلا.
والعدلية تنفي ذلك عن اللَّه تعالى، وتنزهه ـ سبحانه ـ.
والنسبة في لسان العرب من الإثبات لامن النفي، كهاشمي لمن انتسب إلى هاشم، وثنوي لمن قال بالاثنين، وجبري لمن دان بالجبر، وغير ذلك كما هو معلوم.
وللمجبرة بهذا اللفظ لَهَجٌ كبير، كما قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): بحيث أنه مِن أحب الأشياء في ألسنتهم، فلا يأتي أحد بطاعة، أو معصية، إلا قالوا: هي بقضاء من اللَّه وقدر. انتهى.
ومن أكثر من ذكر شيء نُسِبَ إليه.
قال بعض أئمتنا (ع): قالت المجبرة: بل العدلية هم القدرية؛ لأنهم أثبتوا للعبد قدرة.
قالت العدلية: فالنسبة إليه قُدْرِيٌ (بضم القاف).
قالوا: هو من تغييرات النسب.
قالت العدلية: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((القدرية مجوس هذه الأمة)) جاء في مقام التحذير منهم، والقول بمقالتهم، فلا ينبغي أن يكون كلامه مغيراً في هذا المقام، الذي هو من أخطر مقامات الضلال؛ لأنه يكون نوعاً من التلبيس.
إلى قوله: ثم إن المجبرة يلهجون بذكر القدر، فصحت النسبة إليهم، ولم يلهج العدلية بل يقولون: الطاعة والمعصية فعل العبد.
ألا تراهم يفزعون عند معاصيهم إليه، ويضيفون ذلك إلى اللَّه، فيقولون: قضاء /242

اللَّه، وقدره.
إلى قوله: ثم إنه قد صح عن المجوس، أنهم يقولون: إن اللَّه تعالى أراد منهم وطء الأمهات وشرب الخمور؛ وهذا عين مذهب المجبرة؛ وقد سبق لابن القيم أن المجبرة قدرية، ومذهبهم واحد.
ولانسلم مانسبه إلى العدلية، فقد شهدوا بذلك على أنفسهم؛ ثم إنهم لم ينظروا أنه لو صح مازعموا، أن النسبة لأجل إثبات قدرة للعبد، لَشَمِلَهم ذلك لقولهم للعبد قدرة غير مؤثرة. إلخ كلامه.
قلت: وما ورد من الذم للمكذب بقدر الله تعالى، فالمراد به كما قال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: من نفى أفعال اللَّه عنه، وأن تكون بقضاء منه، وقدر.
قال المولى العلامة، الحسن بن الحسين ـ أيده الله ـ تعالى، في التخريج: أو على نفي القضاء والقدر، بمعنى العلم، والقول بأن الأمر أنف، أي: ليس ثمة كتابة ولا علم، ويكون إشارة إلى من يُجَهِّل الله تعالى، ويقول: لاعلم له بالحوادث، إلا بعد وجودها، وأنه تعالى يعلم الأشياء بعلم محدث.
قال النجري في شرح القلايد: إنه مذهب هشام بن الحكم من الروافض، وجهم بن صفوان من المجبرة.
ومثل ماذكره النجري، ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج. انتهى.
وهذه الفرقة الضالة المبتدعة، قد استوفى الكلام على بطلان قولها، وبيان أهلها ـ علماءُ الإسلام؛ وقد ذكروا انقطاع أربابها، والحمد لله رب العالمين.
نعم، وقد شبههم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ بالمجوس، وبينهم وبين المجبرة كمال المشابهة.
قال الحاكم ـ رضي الله عنه ـ في الرسالة: القدرية هم المجبرة لوجوه أربعة:
أحدها، أن هذا الاسم أخذ من القدر، وإنما يؤخذ من الإثبات، لا من العدم، كالموحد، والمشبهة، والمجسمة؛ وقد اختلفنا أن المعاصي بقدر الله أم لا، /243

فقلتم: بلى وقلنا: لا، فأنتم بالاسم أولى.
ثانيها، أنكم لهجتم بذكر القدر، في إضافة القبيح إليه؛ فنسبتم إليه كما يقال: تمري.
ثالثها، ماروي عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أنه سئل مَن القدرية؟؛ قال: ((قوم يعملون بالمعاصي، ثم يقولون قدرها اللَّه عليهم)).
ورابعها، أنه شبههم بالمجوس، ومذهب المجبرة عين مذهب المجوس؛ لأن المجوس يقولون: من يَقدِر على الخير، لا يَقدِر على الشر ـ قلت: وهو النور عندهم ـ ومن يقدر على الشر لايقدر على الخير ـ قلت: وهو الظلمة ـ.
قال: والمجبرة يقولون: من يقدر على الإيمان لايقدر على الكفر، ومن يقدر على الكفر لايقدر على الإيمان.انتهى المراد.
قلت: وهذا على قول بعضهم، بأن للعبد قدرة موجبة للفعل، ليس لصاحبها اختيار؛ والشبه الجامع لمذهب الجبرية، أن من يأتي من قبله الخير، يستحيل أن يأتي منه الشر، كالمؤمن، فإنه عندهم جميعاً غير متمكن من الكفر، والكافر على العكس.
وقال الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع): قد صحّ عند الجميع ماروي عن رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أنه قال: ((القدرية مجوس هذه الأمة)).
إلى أن قال: وقد صحّ أن المجوس يقولون في نكاح البنات، والأمهات: إنه بقضاء اللَّه وقدره..إلخ كلامه.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: الحديث أخرجه أبو داود، والحاكم عن ابن عمر.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة، والقدرية))، أخرجه الطبراني عن واثلة وجابر، وأبو نعيم عن أنس. /244

وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي لايردان علي الحوض، ولايدخلان الجنة: القدرية، والمرجئة))، أخرجه الطبراني عن أنس.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية))، أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وابن ماجه عن جابر، والخطيب عن ابن عمر، والطبراني عن أبي سعيد.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لاتجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم))، أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم عن عمر.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لُعنت القدرية على لسان سبعين نبياً)) أخرجه الدار قطني عن علي. انتهى.
أورد سعد الدين في شرح المقاصد، ماروي عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، في حديث القادم عليه من فارس فسأله: من أعجب مارأى؟
قال: رأيت أقواماً ينكحون أمهاتهم، وأخواتهم، فإن قيل لهم لم تفعلون ذلك؟ قالوا: قضى اللَّه علينا وقدر؛ فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((سيكون في آخر أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم أولئك مجوس)).
انتهى من إيقاظ الفكرة لابن الأمير. انتهى.
[إقرار ابن تيمية وابن القيم بأن المجبرة قدرية]
قلت: وقد أقر الشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، بأن المجبرة قدرية؛ مع محاولتهما لإخراج أنفسهما بما سبق من تمويههم بالكسب، على رأي الأشعرية.
قال بعض أئمتنا ـ رضي الله عنهم ـ: ومنها ماذكره هذا ابن القيم في ذمِّه من استدل بالقدر على الجبر، وهو أيضاً حجة عليهم، وحجة للعدلية؛ وقد رأينا نقله ليعرف أن بديهة عقولهم، تنكر مايؤول إليه مذهبهم.
قال مالفظه: وأما المقام الثاني، وهو مقام الضلال، والردى والهلاك، فهو الاحتجاج به ـ يعني بالقدر ـ على اللَّه، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة، والأمارة بالسوء، وجعل أرحم الراحمين، وأعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وأغنى الأغنياء، أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم، واحتج عليه بما خصمه فيه من تدحض حجته، ولاتطاق مغالبته، /245

حتى يقول قائل هؤلاء:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له .... إياك إياك أن تبتلَّ بالماءِ
ويقول قائلهم:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى .... دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
ثم ساق احتجاجات العدلية، وحكايات فضائح الجبرية.
ومنها قوله: وبلغ بعض هؤلاء أن علياً (ع) مر بقتلى النهروان فقال: بؤساً لكم، فقد ضركم من غركم.
فقيل: من غرهم؟.
فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والأماني.
فقال هذا القائل: كان علي قدرياً، وإلا فالله غرهم وفعل بهم مافعل، وأوردهم تلك الموارد.
إلى قوله: وسمعته يقول ـ يعني ابن تيمية ـ: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف، هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية؛ والمعارضون به للشريعة، الذين قالوا: لو شاء اللَّه ماأشركنا، وهم القدرية المشركية؛ والمخاصمون به للرب سبحانه، وهم أعداء الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على اللَّه بالقدر فقال: بما أغويتني.
قلت: وقد عنى بالأولى العدلية، وبالأخريين إخوانه الجبرية؛ وانظر إلى قوله هذا كيف أداه إلى المناقضة، والتوسط على زعمه بين الأقوال المتعارضة؟! والقصد بيان إقراره على نفسه؛ فقد أخرج الله تعالى الحق على لسانه؛ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
إلى أن قال: ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية، شر من القدرية النفاة؛ لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب، وتعظيماً له أن يقدر الذنب، ثم يُلزم عليه ويعاقب العبد، على مالا صنع للعبد فيه البتة..إلخ.
فيقال: فما بال ذمهم أيها الشيخ على قول الحق؟ وإلى أي ملاذ لذت عن /246

الولوج في زمرة الثلاث الفرق؟ نعوذ بالله من الخذلان!.
قال الناقل لكلامه من أئمتنا (ع): قال بعض العدلية: وغير خاف عليك ماذهبت إليه الجبرية، وقد سبق، فلا حاجة إلى تكريره، فقد وقعوا فيما شنعوا، وذموا، وكفوك المؤونة في فساد قولهم وبطلانه، وصحة مذهب العدل ورجحانه.
وأما تسترهم بالكسب، فهو شيء لامعنى له؛ وقد سبق كلام الرازي، وهو فحلهم، وقد صرحوا بأن للعبد قدرة لاتأثير لها.
قالت العدلية: فلا فائدة فيها إذاً؛ بل لاتسمى قدرة رأساً. انتهى.
واعلم أن الجميع مجمعون على نفي القضاء والقدر، على معنى الأمر بالمعاصي، وعلى إثباته بمعنى العلم، والكتابة، والأمر بالطاعة.
قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): اتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر، في جميع أفعال العباد بمعنى العلم، والكتابة، واتفقوا على نفيه بمعنى الأمر بكل أفعال العباد.
إلى قوله: ولقولهم ـ أي العدلية ـ بثبوته بمعنى العلم والكتابة، منعوا أيضاً من إطلاق نفي كونها بقضاء اللَّه وقدره.
وأما المجبرة فلإثباتهم بمعنى الخلق، أجازوا إطلاق القول بأنها بقضائه تعالى وقدره..إلخ كلامه.
[قصة الشامي في القدر مع أمير المؤمنين (ع)]
قلت: وقد أبانه، وصرح به على مقتضى مادانت به العدلية في الوجهين، وأوضح من الفرقة الموسومة بالقدرية المجوسية من الفريقين، مع ماتقدم من الدلالات القاطعة، والبراهين الساطعة، إمامُ الموحدين، باب مدينة علم سيد المرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، المبين للأمة ما /247

اختلفوا فيه من بعد أخيه، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، في جوابه للشامي الذي سأله.
رواه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي ـ كرم اللَّه وجهه ـ وقد سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام: أكان بقضاء وقدر؟.
فقال علي (ع): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ماقطعنا وادياً، ولاعلونا تَلْعَةً، إلا بقضاء وقدر.
فقال الشيخ: عند اللَّه أحتسب عنائي؛ ماأرى لي من الأجر شيئاً.
فقال علي (ع): بلى أيها الشيخ، قد عظم اللَّه لكم الأجر على مسيركم، وأنتم سائرون، وعلى منصرفكم، وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين.
فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا؟.
فقال علي (ع) للشيخ: لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً؛ لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من اللَّه والنهي، ولما كانت تأتي من اللَّه محمدة لمحسن، ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولا المسيء بعقوبة الإساءة أولى من المحسن؛ تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب في الأمور، قدرية هذه الأمة ومجوسها؛ إن اللَّه أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرِهاً، ولم يرسل الرسل هزؤاً، ولم ينزل القرآن عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض، وعجائب الآيات باطلاً؛ ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
فقال الشيخ: ماالقضاء والقدر، اللذان ماوطئنا موطئاً إلا بهما؟.
فقال (ع): الأمر من اللَّه والحكم.
ثم تلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء:23].
فنهض الشيخ مسروراً بما سمع، وهو يقول شعراً:/248

26 / 143
ع
En
A+
A-