وقال بعض المعتزلة: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في كل وقت، أما في علمنا أو في ظننا بحسب الإمكان إلا أن يمنع مانع من إمامة الفاضل عدلنا إلى الذي يليه في الفضل، قالوا: ولهذا عدل الصحابة عن علي عليه السلام عن كان أفضلهم؛ لأن الناس أقرب عهداً بالكفر، وكان علي قد بكى قلوب أكثر الناس بالقتل، فمنهم من قتل أباه ومنهم من قتل ولده ومنهم من قتل أخاه، وكانت قلوب الناس نافرة عنه، فخافت الصحابة أن لا ينقاد له الناس وأن يفترق عليه الناس لشدة ميل القلوب عنه، فعدلوا إلى أبي بكر لأن قلوب الناس إليه أميل لشدة رفقه وكثرة ماله؛ ولأنه قد اهتدى على يديه كثير من كبار الصحابة.
هذا كلامهم واحتجوا لاعتبار الأفضل بأن الصحابة فزعوا يوم السقيفة إلى عد الفضائل فقالت الأنصار الدار دارنا والإسلام عز بنا.
وقالت الصحابة: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيضة التي تفقأت منه من غير تناكر.
ولقائل أن يقول: إنه وإن كان كذلك فإنما يدل على أن اعتبار الأفضل أولى، وليس يدل على أنه واجب؛ لأنا لم نعلم الواجب الذي عليه اعتبروا الأفضل أولى، وليس يدل على أنه واجب؛ لأنا لم نعلم الوجه الذي عليه اعتبروا الأفضل هل الوجوب أو الندب.
الثامن: أن يكون شجاعاً، والمراد أن يكون له من رباطة الجأش ما يتمكن معه من تجييش الجيوش والوقوف في الصفوف وتعبئة العساكر والوقوف معهم وحثهم على القتال وحسن التدبير عند فشل القلوب؛ لأنه مالم يكن كذلك لا يؤمن أن يهرب عند الصدام فيهلك الناس.
/340/ علي كل حال، فالقتال في الحقيقة إنما هو بالقلب.
التاسع: أن يكون قوياً في يديه بدنه على التمكن من إمضاء هذه الأمور ومباشرة الخطوب واحتمال أعباء الأمة، فلا يكون به آفة تمنعه من عمى ولا جذام ولا برص.

العاشر: أن يكون سخياً سخاء متوسطاً فلا يكون معه من الشح ما يمنعه من وضع الحقوق في مواضعها فتزدريه النفوس ويتقاعد النفس عه ويأثم في أهل الحقوق، ولا يكون معه من الكرم ما يضيع أموال المسلمين فيتضرر أهل الحقوق بفواتها ويطلب هو الشيء وقت الحاجة، فلا يجده وإنما يكون من أهل الاقتصاد في الإنفاق والإمساك.
الحادي عشر: للإمامية قالوا: يجب أن يكون أعلم الناس.
ويبطله فقد الدليل على اشتراطه وتعذر العلم بأعلم الناس.
على أن حصول ما معه يكون مجتهداً يغني عن الزيادة.
الثاني عشر: لهم أيضاً وهو أن يظهر عليه المعجز وأن يكون ممن يعلم العيب وهو أظهر فساداً؛ لأن المعجز لا يظهر إلا على الأنبياء، وكذلك علم الغيب استأثر الله به، فلا يطلع عليه أحد إلا من ارتضى من رسول.
الثالث عشر لهم أيضاً وهو أن يكون معصوماً، وهذا لا دليل لهم عليه؛ ولأنه مبني على أن الشرائع توجد منه، وقد تقدم فساده؛ ولأنه كان يلزم في قضائه وأمرائه أن يكونوا معصومين.

فصل [في ما يخرج به الإمام عن كونه إماماً]
وذلك ضربان أحدهما: يخرج به عن التمكن من انفذا ما نصب له كالجنون المطبق وبطلان بعض حواسه المحتاجة أو بطلان رأيه أو أحد الشروط المتقدمة، فمتى صار كذلك خرج عن كونه إماماً ولا يحتاج إلى من يخرجه.
الثاني: لا يزول معه التمكن من ذلك كالفسق وهو إما أن يكون باطناً أو ظاهراً، إن كان باطناً لم ينخل به عقد الإمامة؛ لأنه قد جاز العقد لمن باطنه الفسق، فكذلك إذا حدث ولم يعلموه وإن كان ظاهراً، فاختلف الناس، فقال الجمهور من المعتزلة والزيدية والشافعي: يخرج به عن كونه إماماً كما لا يجوز ابتداء العقد له وهو الذي رواه العراقيون عن أبي حنيفة ومنعوا أن يكون مذهب أبي حنيفة جواز إمامة الفاسق.
وحكى ابن الملاحمي عن معتزلة خراسان وأهل ما وراء النهر أنه لا ينعزل بالفسق وأنه يجوز العقد للفاسق.
ولمحمد بن الحسن قولان في هل تنعزل ولايته أم لا.

حجة الجمهور قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه تعالى أخبر إبراهيم عليه السلام أنه يأمر الناس أن يجعلوه إماماً أي قدوة في دينهم وكذلك سائر الأنبياء قدوة والأئمة هم خلفاء الأنبياء في وجوب الاقتداء بهم، وكذلك القضاة والولاة والمفتون /441/، فسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة بهذا المعنى، فأخبره بامتناع ذلك في حق الظالمين، فدل على أنه لا يجوز أن يجعل من الفسقة أئمة ولا قضاة ولا أمراء ولا مفتين.
وبعد، فالإمامة إما أن يكون طريقها النص، ومعلوم أن الله لم ينص على فاسق، وإما أن يكون طريقها الاختيار فإنما أمر الناس أن يحسنوا الاختيار وينصحوا فيه للمسلمين فيختاروا من يكون الناس أقرب إلى الانقياد له؛ لأنه حينئذٍ يقوم لهم مقام أنفسهم، وكالوكيل في أمر دينهم ودنياهم، وليس هذه حال الفاسق؛ لأنه لا يأمنونه على دين ولا دنيا، فثبت أنه لا يجوز إمامة الفاسق.
وقد اختلف الجمهور في الإمام إذا فسق ثم تاب هل يحتاج إلى عقد جديد أو تعد له الإمامة من دون عقد، فقال بعضهم: لا بد من عقد جديد؛ لأن ولايته قد زالت، فلا تعود إلا بعقد كالمبتدأة.
وقال بعضهم: لا يحتاج؛ لأنه بالتوبة قد عاد إلى الحالة المرضية؛ ولأن في العقد الجديد مشقة وإظهاراً للفاحشة وتشنيعاً عليه وحطاً من منزلته وكل ذلك قد ندب إلى ستره.
واختلفوا في الفسق من جهة التأويل، قال بعضهم: هو كفسق الخوارج بجامع خروجه عن ولاية الله والتأويل ضم جهالة إلى جهالة، فلا ينجيه عن الانعزال.
وقال بعضهم: يفترق الحال؛ لأنه مع فسق الجوارح تقدم على المعصية مع العلم بكونها معصية، فلا يؤمن أن يقدم على المحضورات في أمر الأمة متعمداً لذلك بخلاف فسق التأويل، فإنه تقدم عليه مع اعتقاده لحسنه وظنه أنه طاعة وشدة تخرجه عما يعلمه معصية.

حجَّة من أجاز العقد للفاسق، هو أنه قد حصل فيه سبب الولاية وهو الاختيار ممن هو أهل له وهو متمكن من إنفاذها، فيجب أن ينفذ كولاية الفاسق ووصايته وشهادته إذا غلب على الظن صدقه.
والجواب: أما على مذهب أهل البيت عليهم السلام في أن الطريق إلى الإمامة هو النص والدعوة مع اجتماع الشرائط، فلا يتوجه السؤال، وأما عند من يجعل طريقها العقد فنقول: إن من حق الاختيار أن يتوجَّه إلى من هو أهل له باجتماع الشروط، والفاسق ليس بأهل لأن يختار،، فلن يحصل الطريق، وأما وكالته فإنما جازت لأن الموكل اختار أن يوليه على نفسه، فهو في حكم الراضي بما يلحقه من الحنابلة، والفاسق لم يرض به المسلمون.
وأما انعقاد النكاح بشهادته عند من يقول به فليس فيه ولأنه حتى يقاس عليه الإمامة، وإنما يفرق بالشهادة بن النكاح والسفاح، وكذلك قبول شهادته ليس فيها ولاية، وإنما هي شرط في حكم الحاكم والولاية هي للحاكم، فإذا حصل له شروط الحكم وهو غلبة الظن بصدق الشهادة وجب عليه امضاؤه.

القول في الطريق إلى ثبوت الإمامة
اتفق الناس على أن الإمام /442/ لا يصير إماماً بنفص الصلاحية، بل لا بد من أمر، واختلفوا في ذلك الأمر، فقالت العباسية: الإرث، وقال المصححون لإمامة معاوية الغلبة، وقالت الإمامية النص الجلي في الاثنى عشر، وقالت البكرية: الجلي في أبي بكر، وقال الحسن البصري: النص الخفي في أبي بكر، وقالت المعتزلة والصالحية من الزيدية: العقد والاختيار، وقال أهل البيت عليهم السلام: النص الخفي في أمير المؤمنين والدعوة والخروج في من صلح من أولاده، وهذا هو الحق، ومعنى كون النص جلياً أنه يعلم قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه ضرورة، ومعنى كونه خفياً أنه لا يعل المراد به إلا بالنظر.
واعلم أن أكثر هذه الأقوال ظاهر السقوط ونحن نتتبعها بالإبطال ليتعين الحق فيما يقوله أهل البيت عليهم السلام.
فصل
أما قول العباسية فإنما افتعله ابن الراوندي تقرباً إلى خلفاء السوء.
ويبطله فقد الدليل عليه، وأنه لو كان لما عدل الصحابة عن العباس، ولكان سبيله وسبيل ابنه عبدالله أن يطلبوها وعلى كل حال فالإجماع وقت الصحابة على أنه ليس طريقها الإرث، ولهذا كانوا بين قائل بإمامة علي رضي الله عنه، وقائل بإمامة أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك أجمعوا على أنه ليس طريقها الغلبة؛ ولأن الفسقة قد يغلبون ويقدم أنهم لا يصلحون للإمامة.

فصل
وأما قول أهل النص الجلي باطل؛ لأنه لو كان ضرورياً لعلمه الناس كلهم، ولتوفرت الدواعي إلى نقله؛ لأنه من مهمات الدين كما في الصلاة والحج ونحوها، ولو صح ا ادعوا لصح لغيرهم أن يدعي نصاً جلياً على العباس مثلاً أو على وجوب صلاة سادسة ونحو ذلك.
وبعد، فلو كان كذلك لوجب أن يكفر الصحابة برده، وفي علمنا بسلامة دينهم وثناء الله عليهم ما يدل على انهم لا ينكرون ما هذا سبيله.
وبعد، فقد روي أن أبا بكر قال بحضرة الجماعة: وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الأمر في من هو فلا أنازعه، ولو كان هناك نص جلي لما قرروه على هذه المقالة.
وبعد، فلو كان هناك نص جلي لما تواطأ أهل البيت عليهم السلام على إنكاره والعدول إلى الاستدلال بالنص الخفي.
فصل
وأما قول الحسن البصري بالنص الخفي على أبي بكر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يصلي بالناس، فهو أظهر فساداً من الأول؛ لأن الإمامة الصغرى بمعزل عن الإمامة الكبرى، بدليل أنها تجوز خلف قريش وغيرهم، والإمامة لا تصح إلا في قريش، بل عند الخصوم أنها تصح في كل بر وفاجر.
وبعد، فعند أئمتنا عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بذلك، وإنما أمر به عائشة، فقالت للمؤذن: مر أبا بكر فليصل بالناس فظن أنها إنما أمرت بذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى الجملة فالمشهور في كل زمانٍ /443/ أن يأتم الناس في الصلاة بالمفضول.
وبعد، فليس بأن يدل تقديمه في الصلاة على إمامته أولى من أن يدل عزله عنها على عدم إمامته ومن المشهور عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع الناس خرج أبا بكر ثم صلى بالناس.
وعلى الجملة: فلا يصح الاستدلال بما ذكروه.
فصل
وأما قول المعتزلة والصالحيَّة من أن طريقها العقد والاختيار فإنما يظهر بطلانه بأن تتبيع ما يحتجون به في ذلك.
قالوا: أجمعت الصحابة يوم السقيفة على الاختيار، ولم يقع إنكار في الاختيار، وإنما وقع في المختار.
قلنا: إن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك معتقدين أنه طريق إلى الإمامة، فدلوا على ذلك ولا سبيل إلى تصححه، وإن أردتم أنهم أجمعوا على مجرَّد فعله فلا فرح لكم في ذلك.
على أنا لا نسلم حسن الاختيار حينئذٍ ولا عدم الإنكار فيه؛ لأن عندنا أن الإمام منصوص عليه، فالإجماع للاختيار يكون عبثاً لا فائدة فيه.
وقولهم: أن عدم الإنكار دليل على أنه لم يكن لا يصح لأنه إنما يحصل من عدم نقله غلبة الظن بأنه لم يكن، فلا يكفي فيه عدم نقله.
قالوا: قال العباس لعلي رضي الله عنه: امدد يدك أبايعك ولم ينكر عليه، وكذلك بايع الناس له يوم قتل عثمان رضي الله عنه، ولم ينكر البيعة، فلو كان الاختيار منكراً لأنكره، وكذلك أهل البيت ما منهم أحد يقوم إلا ويبايع له ويختار، ولو كان الاختيار منكراً لما صح في شيء من ذلك، لوما اتفقت عليه الأزمنة.
قلنا: إنما يكون الاختيار منكراً ويجب إنكاره حيث يعتقد المختارون أنه طريق إلى الإمامة؛ لأنه يكون عبثاً حينئذٍ، فأما حيث يفعل على جهة التقوية للإمام واستدعاء الناس إليه، فليس بمنكر، ولهذا فعله جميع أئمتنا عليهم السلام على جهة الاستظهار وأخذ الطاعة من الناس ومعرفة المخلص من المرتاب.
قالوا: جعل عمر الأمر شورى في ستة ولم ينكر لعيه أحد، فنقول: كيف يجعل الأمر شورى مع وجود المنصوص عليه.

قلنا: بل قد أنكر ذلك عليه السلام في نحو قوله: فبالله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول حتى أقرب إلى هذه النظائر، والمشهور في مناشدته يوم الشورى ما يدل على إنكاره الاختيار.
والمختار قالوا: لما بويع له عليه السلام كتب إلى معاوية أن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام وبايعني بالمدينة الذين بايعوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فليس للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، فصرح بأن الإمامة لأجل البيعة.
قلنا: قد قدمنا أنه ليس في البيعة أكثر من إظهار الطاعة من المبايعين وقبولها من المبايع له، وذلك واجب على الجميع، فمن أين أنها هي الطريق إلى الإمامة، فإن ذلك هو ومحل النزاع.
قالوا: احتج عليٌّ على طلحة والزبير بالبيعة ولم يحتج بالنص.
/444/ قلنا: له أن يحتج بالأمرين جميعاً في وجوب طاعته، وليس عليه اقتراح إذا أورد دليلاً من دليلين لا سيما وقد تقرر أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فليس احتجاجه بالبيعة يدل على نفي احتجاجه بالنص.
على أن أصحابنا قد ذكروا أنه إنما احتج عليهما بالبيعة ليريهما أنهما لا يثبتان على الحق.
تنبيه
اعلم أنه إذا بطل الإرث والاختيار وسائر مذاهب المخالفين فقد كفانا في ذلك في أن الطريق هو النص؛ لأنه قد تعين الحق فيه، وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة وهو باطل.

القول في تعيين الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ذهب أهل البيت عليهم السلام وأكثر الزيدية إلى أنه علي عليه السلام، وذهبت المعتزلة والصالحية وسائر الفرق إلى أنه أبو بكر.
لنا: النص والوصاية والتفصيل والعصمة وإجماع أهل البيت عليهم السلام.
فصل
أما النص فنصوص كثيرة الأول قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} إلى قوله: {وهم راكعون} ووجه الاستدلال بهذه الآية أنها نزلت في علي رضي الله عنه فقط، قد أثبت الله له الولاية فيها كما أثبتها لنفسه ولرسوله، والولاية هنا بمعنى ملك التصرف، وذلك هو معنى الإمامة.
وهذه الدلالة تبنى على ثلاثة أصول: أحدها: أنها نزلت في علي عليه السلام. والثاني: أن المراد بها ملك التصرف. والثالث أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول وهو أنها نزلت في علي عليه السلام فقط فعلى ذلك دليلان:
الأول: إجماع أهل البيت وهو حجة كما سيتضح.
فإن قيل: كيف يصح دعوى إجماع أهل البيت مع أن فيهم من يذهب مذهب الإمامية واعتبار النص الجلي دون النص الخفي.

70 / 75
ع
En
A+
A-