فهذا ما يتحصل لي في هذا الفصل، وقد طال الكلام فيه، والعذر في ذلك أن الفلاسفة استدلوا بها بين القاعدتين كثيراً من فرق الإسلام ولطف مدخلهم في ذلك، ولم أجد لأحد من أصحابنا في الرد عليهم في هذه المسألة كلاماً ولا ينبهنا على خديعة أهل الإلحاد إلا ما أشار إليه سيدنا القاضي الأوحد العلامة سليمان بن إبراهيم النحوي رحمه الله تعالى(1) ففصلت ما أشار إليه، وليس الغرض إلا تقرير دليل العقل على ما يقوله أهل الحق وأن قياس الغائب على الشاهد دليل تعيني إذا حصلت فيه إحدى الطرق الرابطة وأنه لا يقدح في ذلك ما يقوله أهل الزيغ.
فصل
لا بد بين الدليل والمدلول من تعلق وإلا لم يكن بأن يدل عليه أول من يدل على غيره أو من أن لا يدل.
قال قاضي القضاة: وذلك التعلق هو أن يكون لولا المدلول لما صحت الدلالة أو لولاه لما وجبت أو لولاه لما أجبرت أو لولاه لما حسنت مثال الأول دلالة الفعل على الفاعل فإنه لولا الفاعل لما صح الفعل، ومثال الثاني دلالة المعلول على العلة والمسبب على السبب والمقتضى على مقتضيه، فإنه لولا المدلول لما وجبت الدلالة، ويدخل في هذا دلالة مقارنة الجسم للحوادث على حدوثه إن ثبت أنهما غيران وما شأنه ذلك وهو أيضاً يدخل في باب ما لولاه لما صح.
ومثال الثالث دلالة فعل القبيح على الجهل والحاجة، فإنه لولاهما لما اختير، وكذلك دلالة العدو في الشوك والنار على الإلجاء.
ومثال الرابع: دلالة المعجز على صدق المدعي للنبوة، فإنه لولا الصدق لما حسن إظهار المعجز، ويدخل في هذا الأدلة الشرعية، فإنَّه لولا كونها مصالح لما حسن التكليف بها.
قال أبو الحسين: وتخرج من هذا القيد دلالة كونه حياً على كونه مدركاً في حق الغائب فإن كونه مدركاً وإن كان هو الدليل في الشاهد على كونه حياً فالأمر بالعكس في حقه تعالى، ونحن فرضنا الكلام فيه.
فصل
__________
(1) . أبقاه الله.
قد يكون الاستدلال بالتابع على المتبوع، وقد يكون بالعكس، وقد يكون لا يؤاخذ منهما.
والأول كالاستدلال بالفعل، ووجوهه على الفاعل وأحواله وبالمعلول على العلة والمسبب على السبب والمقتضى على مقتضيه، وبوقوع الفعل من العالم المختار على الداعي وباستحالة اجتماع الضدين على التضاد وبوجوب صفات الله تعالى على أنها ذاتية، وبعدم ظهور المعجز على كذب المدعى، وبظهوره على صدقه، وعلى وجوب ذلك الظهور.
والثاني: كالاستدلال بالعلة على المعلول لو قدرنا /41/ أنه يسبق العلم بها، وكذلك الاستدلال بالسبب على المسبب، وكذلك سائرها، ومن هذا القبيل الاستدلال بكونه تعالى قديماً على استحالة العدم والاستدلال بكونه حيّاً على كونه مدركاً، وبكونه عالماً غنياً على أنه لا يفعل القبيح ولا يحل بالواجب والاستدلال بطرو الضد على انتفاء ضده، وتقدم المعاني على زوال تعلقها ونحو ذلك.
والثالث: كالاستدلال ببعض أحكام التخير على بعض وتبعض معلولات العلل على بعض في حق ما يوجب صفة وحكماً، وكالاستدلال بصحة الصفة الذاتية والمقتضاة على وجوبهما وكالاستدلال بجواز عدم الإعراض على حدوثها، فإنه يكشف عن أن وجوبها لم يكن لذاتها.
فصل
قد يجب مقارنة الدليل للمدلول كمعلولات العلل، وقد يجب تأخر الدليل كأفعال الفاعلين، وقد يجوز الأمران كمسببات الأسباب، وكدلالة كونه حياً على كونه مدركاً.
فصل
قال ابن الهذيل: يعرف انتقاض المنتقض من الأدلة بأحد ثلاثة أمور، إما بترك أجزاء العلة في المعلول، وإما بنقض الجملة بالتيسير، وإما بحجة الاضطراب.
مثال الأول: أن يقول الرجل: فرسي جواد.
فيقال: لم؟ فيقول: لأني أجريته عشرة فراسخ، فاستمر.
فيقال: أوَكل فرس أجري عشرة فراسخ فاستمر فهو جواد أم لا؟
فإن قال: نعم، فقد أجرى علته واعتبرت صحة دعواه وفساده بحال غيره من الأفراس.
إن قال: لا، قيل له: قد نقضت علتك، فاطلب لصحة دعواك دلالة.
ومثال الثاني: قول القائل: إذا اشتد حر الصيف اشتد برد الشتاء الذي يليه، وإذا اشتد برد الشتاء اشتد حر الصيف الذي يليه ثم يقول بعد ذلك: وقد يعبران جميعاً، فإنه قد نقض الجملة لأنها لو صحت لاشتد الحر والبرد أبداً، فلا يوجد فتور.
ومثال الثالث سؤالنا للتنويه عن شيخ رأيناه قاعداً على هيئة حصان في مكان مخصوص أتقولون أنه لم يزل كذلك.
فإن قالوا إلا بل قد كان على غير هذه الحالة أقروا بالحدوث وإن قالوا: نعم جحدوا الاضطرار.
قال الشيخ أبو القاسم: وهذا الكلام كان من حقه أن يكتب بماء الذهب لعظم نفعه لولا أن كلام الله تعالى خير منه، وقد كتب بالمداد.
قال: وأكثر ما يدور بين الخصوم إجراء العلة في المعلول وبه يستدل على إبطال كثير من مذاهب خصومنا.
مثاله بأن يقول لأهل الجبر في جميع مسائلهم قد أجزتم على الله تعالى كل قبيح من ظلم وعبث وهذيان وتكليف ما لا يطاق، وإرادة كل قبيح ونحو ذلك، وزعمتم أنه مع ذلك /42/ عدل حكيم لا يقبح منه قبيح، وعللتم ذلك بأن الأمر أمره، وأنه لا يسأل عما يفعل، وأنه ليس يلحقه نقص بصفات الأفعال قط إذا كانت صفات الذات صفات كمال، فهل تجرون علتكم هذه فتزعمون أنه يصح أن يقول في ما لم يكن أنه قد كان وفي ما كان أنه لم يكن، وأنه يجوز أن يكلف الجماد، ويكلف ما لم يعلم، ونحو ذلك، أم لا يجرونها، فإن قالوا: نعم يجوز ذلك كله ظهر عنادهم وأبطلوا الرسل والوعد والوعيد والجنة والنار.
وإن قالوا: لا يجوز لعلة كذا، قيل لهم: قد نقضتم علتكم من أن الأمر أمره وأنه لا يسأل عما يفعل فاطلبوا لصحة دعواكم علة غيرها.
فصل
كثير ما يجري في كتب المتكلمين ذكر ما لا طريق إليه، فمرة يقولون لا يجوز إثباته ومرة يقولون يجب نفيه، والأصل في ذلك أنهما طرفان:
أحدهما أن يقال لا يجوز إثبات ما لا طريق إليه. والثاني: أن يقال يجب نفيه.
أما الطرف الأول، فهو على ظاهره، ودليله لو جاز إثبات ما لا طريق إليه لا يقبح باب الجهالات، وزالت الثقة بالمدركات، وذلك يقدح في العلوم الضرورية والاستدلالية، أما قدحه في الضرورية فلأنه إذا زالت الثقة بالمشاهد جوزنا أن تكون الخردلة بمنزلة جبل عظيم، لكن منع من رؤية بعضها مانع لا طريق إليه، وأن يكون لزيد رؤوس كثيرة، كذلك وأن يكون بين أيدينا فيلة أو جبال أو مهاوي، فيكون سير أحدنا كسير الأعمى.
وأما قدحه في العلوم الاستدلالية فلأناً كنا نجوز حصول شبه قادحة لا طريق إلى العلم بها، فلا يولد النظر العلم بشيء قط، بل كنا نجوز أن يكون على نفي ذلك الشيء دليل لا طريق إليه، ويلزم تجويز أن يكون في المحل معاني لا طريق إليها، فلا نعلم إسناد معلول إلى علة معينة، ولا منافاة ضد لضد لجواز أن تكون العلة في كون أحدنا قادراً غير القدرة، فما لا طريق إليه فلا يصح قياس الغائب، وكان يلزم أن لا يقطع بإسناد فعل إلى فاعله لجواز أن يكون الفاعل غيره، فتزول أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما.
وأما الطرف الثاني فينبغي التفصيل فيه.
فيقال: ما لا طريق إليه ضربان:
أحدهما: يمكن أن يكون إليه طريق، فهذا لا يجب نفيه بل يجوز ثبوته، ويجوز انتفاؤه كما نقول له في أن الباري تعالى كان قبل أن يخلق العالم لا طريق إليه، ولم يوجب ذلك نفيه لما كان يجوز أن يكون إليه طريق، وهو فعله، ومن هذا القبيل تجويزنا /43/كون جبريل عليه السلام في السماء السابعة، فإنه يجوز أن يكون إلى ذلك طريق، وهو الرؤية لمن قوى الله شعاعة أو الخبر الصادق، وكذا تجويز كون زيد في الدار، وكون الذنب صغيراً، أو كبيراً، ونحو ذلك من الغيوب التي يجوز ثبوتها، وإن لم يظهر عليها دليل.
الضرب الثاني: أن يكون المجوز مما لا يمكن أن يكون إليه طريق، فهذا يجب نفيه كما يقوله في تجويز مانع سواء هذا الموانع المعقولة وتجويز صفة الله تعالى لا يعلمها، إلا هو كما يقوله ضرار، فإنه لا طريق إلى صفاته تعالى إلا أفعاله، فما لم يدل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة وجب نفيه، وباجلمة فكلما لو سئل مجوزه كيف كانت بكون الطريق إليه لما درى كيف يجيب، فإنه يجب نفيه.
فإن قيل: ليس بأن يجب نفي ما لا طريق إلى ثبوته بأولى من أن يجب إثبات ما لا طريق إلى نفيه.
قلنا: لم تحصل العلة في وجوب نفيه أنه لا طريق إلى ثبوته بل لأن تجويز ثبوته بفتح باب الجهالات كما علمت سببه.
أعلم أن هذا التفصيل المتقدم إنما هو في العمليات، فأما السمعيات فإن فقد الدليل على ثبوت شيء منها بعد الفحص دليل على نفيه، فلهذا انتفى وجوب صلاة سادسة وحج بيت آخر ونحو ذلك، وبهذا يبطل قول القائل إن فقد الدليل على نفي الشيء دليل على ثبوته، فيقول له جوز صلاة سادسة وحجاً غير هذا وأشياء كثيرة لا يسعه إثباتها، فإن أثبتها فعاد وهو بين.
فصل في الاستدلال على الله تعالى
وهذا هو المقصود بالباب، وما تقدم كان كالتوطئة.
اعلم أنه إنما يستدل على الله تعالى بأفعاله المخصوصة؛ لأنه ليس بعلة فسيدل بمعلوله، ولا سبباً فيستدل بمسببه، وهو تعالى منفرد بالقدم، فليس يصح أن يؤثر فيه ذات أخرى، فيستدل بها عليه، وصحة السمع متوقفة على معرفته تعالى، والأخبار المتواترة حقها أن تستند إلى المشاهدة.
فصل
وكما أن الدليل على ذاته تعالى هو أفعاله، فهي الدليل أيضاً على صفاته، وكذلك كل دليل يدل على ذات فإنه يدل على صفات تلك الذات، فلا يثبت له تعالى من الصفات إلا ما دل عليه الفعل إما بنفسه كدلالته على كونه قادراً وعالماً، وليس الأحكام واسطة هنا لرجوعه إلى نفس الفعل أو بواسطة كدلالته على كونه حياً بواسطة كونه قادراً عالماً، وبواسطتين كدلالته على كونه مدركاً بواسطة كونه حياً وكونه عالماً قادراً أو بثلاث /44/ وسائط كدلالته على الصفة الأخص بواسطة كونه قادراً عالماً وكونه حياً، ووجوب كونه حياً، ومثاله في غير صفاته تعالى ما يقوله في أن الإدراك طريق إلى الجوهر، فكذلك إلى صفاته، والذي يتناوله الإدراك من صفاته هي التحيز، فإنه يدرك عليها، ثم هي واسطة في سائر صفاته.
أما الجوهرية فالتحيز مقتضى عنها.
وأما الكائنية فهو مضمر بها.
وأما الوجود فهو مشروط به.
فصل
والذي يصح الاستدلال به على الله تعالى هو كلما يختص بالقدرة عليه كالجواهر والألوان ونحوها، أو يدخل تحت مقدور العباد، لكن يقع على وجه لا يصح وقوعه من العباد كالألم الزائد عند لسع العقرب، فإنه لو وجد هذا القدر من أقوى القادرين لما حصل هذا الألم، وكالكلام الموجود في الحصى والسحر وحركة المرتعش والعروق الضار به، ونحو ذلك، وكالعلوم الضرورية، فإنها لو كانت من فعلنا لوقفت على أحوالنا، ولو كانت من فعل أمثالنا لكانت إنما تصدر عن اعتماد، وهو لا تأثير له في ذلك، والألزم إذا اعتمد أحدنا على صدر الغير أن يتغير حاله في الاعتقاد، وأن يولد ما لا يتناهى على أنه ليس بأن يولد اعتقاداً أولى من ضده؛ لأنه كان يولد لا بشرط يستحيل اجتماعه، فتفارق توليده للكون.
فصل
وكيفية الاستدلال بأفعاله تعالى أن نعلم ثبوتها أوّلاً وأنها محدثة وأن المحدث لا بد له من محدث، وأن المحدث ليس إلا الله، لكن الاستدلال بالأجسام أولى من الاستدلال بالأعراض؛ لأن ثبوتها ضروري جملة وتفصيلاً، وثبوت الأعراض استدلالي جملة وتفصيلاً إذا كانت غير مدركة وتفصيلاً إذا كانت مدركة، ولأن الاستدلال بالأجسام يتضمن حدوث الأعراض ولا عكس، ويتضمن العلم بنفي التشبيه، وهو كمال التوحيد.
فصل
وقبل الاستدلال بالأجسام وغيرها يتكلم في حقيقة الشيء وأقسامه لأن معرفة ذلك مما يحتاج إليه في أكثر أبواب التوحيد والعدل.
والشيء في اللغة: ما يصح العلم به والخبر عنه، موجوداً كان أو معدوماً، قديماً كان أو محدثاً، ثابتاً كان أو مستحيلاً.
وفي الاصطلاح: لا فرق بينه وبين الذات، وهو كلما صح العلم به على انفراده.
وينقسم: إلى موجود ومعدوم.
فالمعدوم: هو المعلوم الذي ليس بموجود. والموجود: أظهر من أن يحد.
وينقسم الموجود: إلى قديم ومحدث.
فالقديم: هو الذي لا أول لوجوده /45/. والمحدث: هو الذي لوجوده أول.
وينقسم إلى متحيز وغير متحيز، ولا طريق إلى ثالث، خلافاً للفلاسفة، وسيتضح.
والمتحيز: هو المختص بصفة، لكونه عليها يمنع مثله من أن يكون بحيثه، ويحتمل العرض، وهو إن لم يقبل التجزي، فهو الجوهر الفرد، وإن قبله من جهة الطول فهو الخط وإن قبله من جهة الطول والعرض فهو السطح، وإن قبله من جهة الطول والعرض والعمق فهو الجسم.
وغير المتحيز هو العرض وهو اثنان وعشرون جنساً الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والشهوة والنفرة والحياة والقدرة والفناء والأكوان والاعتمادات والتأليفات والأصوات والآلام والاعتقادات والإرادات والكراهات والظنون والأفكار.
وينقسم إلى مدرك، وهي: الخمسة الأول والصوت والألم غير مدرك، وهو سائرها.
وينقسم إلى مقدور لله تعالى فقط، وهي الاثنى عشر الأولة، وإلى مقدور للعباد أيضاً، وهي العشرة الباقية.
وينقسم إلى: ما لا يوجب، وهي المدركات والفناء وإلى ما يوجب وهو سائرها.
وينقسم إلى باق، وهي ما عدا الصوت والألم من المدركات والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والكون والتأليف واللازم من الاعتماد وغير باق وهو سائرها إلى غير ذلك من القسمة.
فصل
والمعدوم شيء عند الجمهور وخالف أبو الهذيل وأبو الحسين وابن الملاحمي والبردعي وهشام بن عمر والمجبرة بأسرهم.
وقال أبو القاسم شيء وليس بذات.
وقال قوم: المعدوم الأصلي ليس شيء، والمعدوم بعد وجوده شيء.
لنا أنه يصح العلم به على انفراده، وذلك هو معنى الشيء والذات والمنكر لصحة العلم به مكابر، فإنا نعلم الجنة والنار والقيامة ونحو ذالك.
واعترضه ابن الملاحمي بأن معنى ذلك أنا نتصور حقيقة المعدوم وماهيته، ويميز بين بعض الأجناس وبعض لأن علمنا قد تعلق بذات معينة.
ويمكن الجواب بأن في هذه إقرار بأن للمعدوم حقيقة وماهية يمكن تصورها، ويفصل بينها وبين غيرها، وهو المطلوب بكونه شيئاً.
قال في الفائق: إنا نجد هذه المعلوم علوماً بصور المعدومات عند وجودها.
ويمكن الجواب بأن يقال إن أردت عند وجود المعدوم نفسه لم يصح لأنا فرضنا الكلام في العلم به حال عدمه، وليس العلم به حال عدمه هو العلم به حال وجوده، لا سيما على أصلك في أن العلم بأن الشي سيوجد ليس علماً بوجوده إذا وجد، وإن أردت عند وجود أمثاله لم يصح، لأنا فرضنا /46/ الكلام في العلم بهذا المعدوم لا العلم بأمثاله. على أنا نعرض الكلام في العلم بمعدوم لم يوجد له نظير بأن يوجد، فنشاهده، ثم يعدم ولا يوجد له نظير. وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
قال في المعتمد: إن تصور المعدوم كتصورنا ثاني القديم، والبقاء والإدراك.
ومعلوم أن تصور هذه الأشياء لا تقتضي كونها ذوات، ولنا أن نقول لا نسلم صحة تصور ثاني القديم وسائر ما ليس شيء؛ لأن التصور علم بصور الأشياء وماهياتها، وليس لثاني القديم ماهيّة يمكن بصورها.
دليل قد ثبت أن المقدور إنما يكون مقدوراً في حال العدم؛ لاستحالة إيجاد الموجود، ومعلوم أن المقدور لا يوصف بصحة الوجود إلا ما دام معدوماً، فأما إذا قد وجد فقد استحال وجوده ومعلوم أن صحة وجود المقدور أمر زائد على المقدور، ومزيّة له، والمزايا لا بد أن يستند إلى الذوات لتعذر استقلالها بأنفسها.
قال ابن الملاحمي: ما أنكرتم أن صحة وجود الجوهر قبل وجوده يستند إلى ما يتصور، ويتوهم من الحجم لا إلى شيء معين.
ولنا أن نقول أتريد أن هذه الصحة تستند إلى ما يتصور من الحجم قبل وجوده أو حال وجوه إن أردت قبل وجوده فهو صحيح لكن ذلك يقتضي كونه ذاتاً؛ لأن ما ليس بذات وماهية لا يمكن تصوره، وإن أردت حال وجوده فغير صحيح؛ لأن الصحة الثابتة حال العدم كيف يستند إلى أمر منتظر.
على أن هذه الصحة زائلة عند وجوده؛ لأن الموجود لا يصح وجوده.
قال رحمه الله تعالى: صحة الصفة حكم والصفة ليست بذات، فقد استند الحكم إلى ما ليس بذات.
ويمكن الجواب بأن هذه الصحة تستند إلى الموصوف والصفة جميعاً فإنا لم نشترط أن يكون بين غيرين حقيقيين.
قال رحمه الله تعالى: الاستحالة حكم كالصحة، فيلزم أن يستند إلى ذات في نحو قولنا ثاني القديم يستحيل أن يوجد والضدان يستحيل اجتماعهما، وفي ذلك لزوم أن يكون ثاني القديم واجتماع الضدين ذواتاً.
ويمكن الجواب بأن يقال: لسنا نقول ثاني القديم يستحيل أن يوجد، ولكن نقول: يستحيل أن يثبت ويكون هذا الكلام بمنزلة قولنا ثاني القديم ليس شيء، فلا تكون الاستحالة حكماً في هذا المكان وإن سلمنا أنها حكم فهي إنما يستند إلى ذات الباري تعالى وصفاته الواجبة؛ لأنه بمنزلة قولنا ذات القديم يستحيل أن يكون لها مثل، ولهذا جعل أصحابنا نفي الثاني مما يستحيل على الله تعالى /47/.
وأما استحالة اجتماع الضدين فهي تستند إلى ذواتهما وصفاتهما دليل لا شك أن للقادر تعلقاً بمقدوره بمعنى أنه يصح اتخاذه له، وهذا التعلق حكم تعلم بين القادر والمقدور، فلا بد أن يكون المقدور ذاتاً أو صفة لتعلم الحكم بينه وبين القادر، وباطل بالاتفاق أن يكون صفة نفي أن يكون ذاتاً وإلا كان الحكم قد علم لا بين غير ولا بين غير وما يجري مجراه.
واعترضه ابن الملاحمي بأن معنى هذا التعلق هو أن القادر يصح منه لذاته أو لاختصاصه بصفة أن يجعل ذاتاً لا أن في العدم ذاتاً معينة يصح إيجادها.
ويمكن الجواب بأن يقال: أتريد أن القادر يصح أن يجعل ذاتاً في حال وجودها وهذا محال؛ لأن الموجود لا يتعلق بالقادر أ وفي حال عدمها، فهو الذي يقول ويعني بكونها معينة صحة العلم بها على انفرادها، وهذا لا يمكن دفعه فإن الله تعالى لو أخبر أنه يعذب زيداً بجزء من العذاب، لكان لا بد أن يعلم ذلك الجزاء بانفراده.
دليل قد ثبت أن أحدنا يفصل في حال عدم الأشياء بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، ولو لم يكن المعدوم ذاتاً لما صح هذا التمييز، لأن الفصل بين الأشياء هو لأمر يرجع إلى ذواتها، وقول أبي الحسين أن التمييز يرجع إلى تصور حقائقها وما هياتها، قد سلف الجواب عنه من أن ما ليس بشيء فليس له حقيقة ولا ما هية يمكن تصورها، وإنما يتوهم وهماً ويقدر تقديراً كثاني القديم والبقاء.