فصل [في ما يكفر له أصحابنا المجبرة في مسائل الخلاف]
واعلم أن أصحابنا الجماهير ذكروا في كفر المجبرة وجوهاً لا يمكن القطع في شيء منها على كفرهم؛ لأن أكثر ما يعول عليه أصحابنا في ذلك هو القياس، وإنما يكون القياس قطعياً إذا أمكن القطع على علة الكفر في مكان، والقطع على حصولها في مقالة المجبرة، وذلك متعذر في الغالب؛ لأن المرجع بالكفر إلى بلوغ العقاب قدراً عظيماً مع إجراء أحكام مخصوصة، والمجبرة متى كانت تعترف بجمل الإسلام من إثبات الصانع وعدله وصفاته وصدق رسله لم يمتنع أن يكون عقابهم في هذه الأقوال التي أخطأوا فيها أقل من عقاب من لم يعتقد الإسلام، فلا يمكن القطع بكفرهم.
نعم، يلزمهم الكفر في أكثر هذه المسائل الخلافية؛ لأن الكفر لا يثبت بالإلزام مالم يلتزم لما ذكرناه آنفاً من أنه لا يمتنع أن يكون عقاب من لا يلتزمه أقل من عقاب من التزمه.
ومن يذكرها مسألة مسألة ويذكر ما يمكن الاعتراض به على أصحابنا على أصل شيخنا أبي الحسين والسيد المؤيد بالله وسائر من لا يكفر المجبرة.
المسألة الأولى في قولهم بالمعاني القديمة كفرهم أصحابنا بذلك من وجوه:
الأول: إجماع الأمة في الصدر الأول على أن من أثبت مع الله قديماً آخر فهو كافر.
واعترفوا بأن قصد الأمة بهذا الإجماع غير مقطوع به ولعلهم إنما أجمعوا على كفر من أثبت مع الله إلهاً آخر، والمجبرة /397/ وإن لزمهم أن تكون هذه المعاني أمثالاً لله، فالكفر لا يثبت بالإلزام.
الثاني: أنه قد ثبت أن القادر بالقدرة لا بقدرة على فعل الأجسام والألوان وكثير من الأجناس، والعالم بالعلم لا يعلم جميع المعلومات، والقول بالمعاني القديمة يقتضي الجهل بكونه تعالى فاعلاً للأجسام وبكونه قادراً على جميع أجناس المقدورات وعالماً بجميع أعيان المعلومات، والجهل بالله كفر.

واعترض بأنه جهل بالله تعالى على التفصيل؛ لأنهم يعلمون على الجملة بالطرق الابتدائية أن للعالم صانعاً، وأنه قادر عالم حي ونحو ذلك، وليس يمكن القطع بكون الجهل به على التفضيل كفراً؛ لأنه ما من أحد من الشيوخ إلا وقد قال في الله تعالى بمقالة هي أجهل منها.
ويمكن الجواب هنا بأن جهل المجبرة جهل لا يتمكنون معه من العلم بصفات الله على الكمال بخلاف جهل الشيوخ.
الثالث: أن الله تعالى إنما كفر النصارى في قولهم أن الله ثالث ثلاثة لأجل أنهم أثبتوا قدماء غير الله.
يوضحه أن أكثرهم يقول: ذات وصفتين، والمجبرة أدخل منهم في ذلك.
وبهذا قيل لبعضهم: إذا كنت موافقاً للنصارى فلم كفرتهم؟ قال: لأنهم تقصوا عن الواجب واقتصروا على الثلاثة.
واعترض بأن الكفار القائلين بالمعاني القديمة إما أن يؤخذ من ظاهر الآية وهو باطل؛ لأن الله تعالى إنما كفر في الآية من يقول أن الله تعالى ثالث ثلاثة والمجبرة لا تطلق ذلك.
وأيضاً فالنصارى تعتقد كون الثلاثة آلهة، والمجبرة لا تقول به، وأما أن يؤخذ من إجماع الامة وهو باطل لما تقدم من أنه لا يمكن القطع على أن قصد الأمة إكفار من أثبت قديماً على الإطلاق، وأما أن يؤخذ من القياس فيقال: إن الله تعالى إنما كفر النصارى لإثباتهم قدماء مع الله تعالى على الإطلاق، وهذا أيضاً لا يمكن القطع فيه على أن علة كفرهم هو ذلك فقط، وجائز أن يكون الله كفرهم لإثباتهم القدماء ولاعتقادهم استحقاقها للعبادة كما هو ظاهر حالهم، فأما ما يحكى عن الأشعري من أنه إنما كفرهم لأنهم يقضوا عن الواجب واقتصروا على فإنه إن صح هذا عنه فإنه كفر بلى شبهة؛ لأن ظاهره يقتضي أنه كان الحق عنده أن يقولوا أن الله ثامن ثمانية أي ذات وسبع صفات.

الرابع: أن نعلم بضرورة الدين كفر من اعتقد أن الله مشاركاً في العبادة، ولا شك أن اعتقاد مشارك لله في القدم أعظم من اعتقاد مشارك له في العبادة من حيث أن القدم لأمر يرجع إلى الذات واستحقاق العبادة لأمر يرجع إلى الفعل وهو خلق أصول النعم فيجب أن يكون كفراً.
واعترض بعدم التسليم ودعوى أن اعتقاد مشارك في العبادة أعظم عقاباً من اعتقاد مشارك في القدم واستحقاق العبادة /398/ وإن كان لأمر يرجع إلى الفعل وهو خلق أصول النعم إنما ثبتت لأمر يرجع إلى الذات وهو كونه قادراً لذاته.
الخامس: أنه قد دلت الأدلة القاطعة على أن القدم صفة ذاتية وأن المشاركة فيها تقتضي المشاركة في سائر صفات الذات، فيلزم أن تكون المعاني أمثالاً لله تعالى والإجماع على كفر من جعل لله مثلاً وفيه أيضاً تشبيه لله بغيره، والتشبيه كفر.
واعترض بأنه وإن لزمهم أن يكون أمثالاً لله تعالى فهم لا يلتزمونه ويجتهدون في الانفصال عنه بكل ممكن، فلا يكون حكمهم حكم من اعتقد لله مثلاً.
وأما التشبيه فظاهر إصطلاح الناس على أنه لا يطلق إلا على من شبه الله بغيره لا على من شبه غير الله به وإن كان لا فرق في المعنى.
وعلى كل حال فلم يلتزموا شيئاً من ذلك.
السادس: أن القول بالإرادة القديمة يقتضي أن يكون مريداً لجميع الكائنات وفيها ما هو قبيح بالضرورة، ومن وصف الله بإرادة القبيح فقد وصفه بصفة نقص وذلك كفر.
واعترض بأن المجبرة تجعل القبائح مستندة إلى إرادة الله تعالى لا من حيث أنها قبيحة؛ لأن قبحها عبارة عن كونها منهياً عنها، وذلك مما لا يتعلق بالإرادة، بل كلما يصدر عن الله تعالى مما يكون متعلقاً للإرادة، والقدرة فهو حسن عندهم، وهذا العذر وإن كان مضمحلاً متلاشياً فقد اعتقدوه عذراً وفروا به عن الكفر فلا يمكن القطع بكفرهم مع اجتهادهم في دفعه.

السابع: أن القول بالمعاني القدرية يقتضي القول بحاجة الله إلى غيره؛ لأن عندهم أنه لولا هذه المعاني لما وجد الباري أو لكان ناقصاً، وليس الحاجة بأكثر من أن يقف الشيء في وجوه أو كماله على غيره.
واعترض بأن الذي يقولونه ي الأحوال تقوله المجبرة في المعاني.
ومتى فرقتم بأن الأحوال غير مستقلة بالمعاوميَّة بخلاف المعاني.
قيل لكم: قد اعتقدت المجبرة في المعاني أنها غير مستقلة، ولهذا قالوا: لا هي الله ولا هي غيره واعتقادهم هذا وإن لم يكن حقاً فقد اعتذروا به فلا يمكن القطع معه بكفرهم.
المسألة الثانية: في قولهم بالجبر وأن الله خالق لأفعال العباد، وقد كفرهم أصحابنا في هذه المسألة بوجوه.
الأول: أنهم سدوا على أنفسهم طريق العلم بالصانع وكونه قادراً وعالماً؛ لأن الطريق إلى إثباته تعالى يبني على أن لنا أفعالاً محتاجة إلينا في حدوثها، ثم يقيس عليها أفعال الباري في الاحتياج إلى محدث مختار، ومع إنكار احتياج أفعالنا في حدوثها إلينا لا يتم هذه الطريقة، وكذلك الطريق إلى كونه قادراً هو صحة الفعل منه وتعذره على غيره، وذلك لا بد أن يود إلى طريقة القياس في الشاهد، وكذلك كونه عالماً يبنى على صحة الفعل /399/ المحكم، وأيضاً فما لم يكن في الشاهد فاعل لا يمكننا معرفة ماهيَّة الفاعل ولا القادر ولا العالم.
واعترض بأنه يمكنهم معرفة الصانع وصفاته بطريقة ابتدائية من دون الناس، وهو أن العالم قد حصل مع الجواز بعد أن لم يكن، فلا بد من أمر أثَّر في وجوده وذلك الأمر لا يجوز أن يكون موجباً، فبقي أن يكون مختاراً، وهذا يتم من دون قياسٍ على الشاهد، وكذلك معرفة ماهيَّة القادر والفاعل لا يقف على أن في الشاهد فاعلاً، ولهذا يعرف كبيراص من الماهيَّات في الأذهان وإن لم يكن لها وجود في الخارج كالفناء ونحوه.

الثاني: أنه قد يثبت بالضرورة أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور وعبث، والقول بأن الله فاعل المظلم والعبث والجور قول بأنه ظالم عابث جائر؛ لأنه لا فق عند أهل اللغة بين أن يقول القائل فلأن يفعل الظلم وبين أن يقول: هو ظالم، ولا شك في كفر من أطلق هذه الأوصاف على الله تعالى، فكذلك ما في معناها.
واعترض بأن المجبرة يعتقدون أن الظالم هو من قام به الظلم واكتسبه، فهم يفسرونه بغير ما يفسره به أهل العدل وأهل اللغة والإجماع إنما وقع على من أطلق هذه الأوصاف على الله إذا اعتقد معناها عنده، فإذا لم يطلق العبارة ولا اعتقد معناها على أصله لا يمتنع أن ينقص عقابه عن عقاب من وقع عليه الإجماع.
نعم، يلزمه ذلك لكن الإلزام ليس بكافٍ في الإكفار، ولذا قال بعض شيوخنا لبعض المجبرة: أتقول بأن الله تعالى يفعل العدل والإحسان؟ قال: نعم، قال: أفتشتق له من فعله لذلك عادلاً محسناً؟ قال: نعم، قال: أفتقول أنه يفعل الظلم والكذب؟ قال: نعم، قال: أفتشتق له من ذلك ظالماً كاذباً قال: لا، قال: فما الفرق بينهما؟ فسكت المجبري.
الثالث: أنهم بتجويزهم أن يفعل ما هو قبيح في الشاهد ولا يقبح منه سدوا على أنفسهم الوثوق بالأدلَّة لجواز أن ينصب الله دلالة على الأمور الباطلة ولا يقبح منه ويضل عن أدلة الصواب ويجعلها شبهاً ويلبس الحق بالباطل، فلا يحصل ثقة بأن ما عليه المسلمون حق وأن ما عليه الكفار باطل؛ إذ لا يمتنع عكس ذلك.
واعترض بأن الأدلة العقليَّة قد دلت على أن الإسلام حق والدلالة لا تقف في دلالتها على اختيار مختار، وضع واضع حتى إن شاء دل وإن شاء لم يدل، فلا تقف ذلك على اعتبار حال فاعلها والاعتراض هذا إن ثبت فإنما يثبت في بعض الأدلة كدلالة العقل على الفاعل والمعلول على العلة ونحو ذلك، فأما نحو دلالة المعجز على النبوَّة، فلا بد من اعتبار حال فاعل تلك الدلالة كما سيتَّضح.

الرابع: قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا..} الآية إلى قوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} فبين أنهم كذبوا لأجل قولهم لو شاء ما أشركنا، وهذه هي مقالة المجبرة، فيجب أن يكونوا مكذبين، والمكذب كافر بالإجماع.
واعترض بأنه لا يمكن القطع على أن التكذيب كان لأجل هذه المقالة ويجوز أن يكونوا علموا ضرورة /400/ من قصد النبي عليه السلام أن الله أراد منهم الإيمان، فكذبوه في ذلك وزعموا أن الله لم يرده، والمجبرة لا تعلم ذلك من قصده عليه السلام، فلا يكون حكمهم حكم المشركين، وأيضاً فالمكذب في الحقيقة يقول لغيره: كذبت وهم لم يقولوا ذلك، وأيضاً فالمجبرة يعتقدون أن الله تعالى إنما وصف المشركين بأنهم كذبوا؛ لأنهم قالوا: ذلك على جهة التهكم وإلا فهم صادقون في ما قالوه، وذلك وإن لم يكن مخلصاً لهم فقد اعتقدوه عذراً، فلا يمنع أن يفارق حالهم حال أهل الشرك.
المسألة الثالثة: في النبوات قال أصحابنا القول بأنه يجوز أن يفعل الله ما هو قبيح في الشاهد، ولا يقبح منه بسد باب العلم بالنبوة؛ لجواز أن يظهر المعجز عند دعوى الكاذب، ولا يقبح منه أو يفعل فيه الكذب كما فعله في غيره، وأكثر ما فيه أن يكون تلبيساً وأصولهم لا تمنع منه.
واعترض بأن هذا وإن لزمهم لكنهم لا يلتزمونه، بل يعملون في دفعه كل حيل، ولهذا أحد النظار منهم يحتالون للانفصال عنه بما لا يخفى على مميّز ضعفه وتهافته.
فقال الجويني: العلم بكون المعجز دلالة على التصديق علم ضروري وتجويز إظهاره على الكاذبين لا يقدح في ذلك، وهذا ظاهر الاختلال، فإن المعلوم ضرورة هو كونه معجزاً فقط، فأما كونه تصديقاً فهو واقف على اختيار الفاعل له وقصده، والفاعل له إنما يعلم دلالة، فكذلك قصده.
على أن أصحابنا لم يلزموهم الجهل بالتصديق الذي يرجع إلى الله، وإنما ألزموهم الجهل بالدق الراجع إلى الرسول، وقالوا: يلزم صحَّة أن يصدق الكاذب.

وقال الغزالي: الطبع باعث والعقل هادي، والرسول معرف والمعجز ممكنه، ومهما كان كذلك توجَّه على المكلف النظر في دلالة المعجز وغن لم يوجب الرسول النظر فيها، فإذا نظر عرف، ولا يقدح في ذلك تجويز إظهار المعجز على الكاذب، وهذا كلام لا حاصل له، فإنه إذا نظر فكيف يؤديه نظره في المعجز إلى العلم مع تجويز ظهوره على كاذب، ومن أين أنه إذا نظر عرف، وهل وقع النزاع إلا في ذلك.
وقال الرازي: الكلام في صدق الرسول ينبني على مقدمتين: أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول.
والثانية أن من صدقه الله تعالى فهو صادق.
قال: ونحن نقطع بالمقدمة الأولى وإن جوَّزنا أن يفعل الله القبيح والمعبر له يوافق في ذلك.
وأما المقدمة الثانية فهي وإن توقفت على استحالة كونه فاعلاً للقبيح، لكن المعتزلة معارضون بمذهبهم في المقدمة الأولى، فإنها تجري مجرى قول الله: صدقت، وهذا القول يحتمل الصدق والكذب، فإذا قطعوا بالصدق مع احتمال في المقدمة الأولى قطعنا به في المقدمة الثانية أيضاً، وهذه مراوغة منه ومغالطة ظاهرة.
أما أولاً فالمقدمة الأولى التي هي التصديق لا يقف العلم بها على العلم بحال فاعلها ولا حكمه، ولهذا لو قال قائل: السماء تحتي والأرض /401/ فوقي، وقال له آخر: صدقت لعلمنا أنه قد صدَّقه، وإن كان كاذباً في تصديقه له بخلاف المقدمة الثانية، وهي أن الله لا يصدق الصادق، فإه لا يمكن العلم بها إلا بعد استحالة فعل القبيح على الله تعالى.
وبعد، فمن سلم له أن المعتزلة قطعوا بالصدق في المقدمة مع الاحتمال، وإنما قطعوا بالتصديق، فأما صدق التصديق فلأنه هو المقدمة الثانية.

وبعد، فيقال له: هب أن المعتزلة معارضون بما ذكرت، فإن المعارضة لا تكفي في العلم فبماذا تعلم أن الله لا يصدق إلا الصادق مع تجويزك أن يظهر المعجز على الكاذب، وقد صرَّحت بأن ذلك يقف على استحالة فعله للقبيح، وما جوابك لو أوردت عليك البراهمة هذا السؤال وادعوا جهلك بالنبوات، فنه ليس ينفعك وروده على المعتزلة أيضاً.
وقال ابن الحاجب: أنا لا نعلم صدق الرسول عند ظهور المعجز؛ لأجل حكمة الله وعدله، ولكن قد أجرى العادة بأنه لا يظهره إلا على صادق، وهذه هي المهازلة والتلاعب بالدين وكيف يصح له هذا والبرهمي يقول له: عندي أنه لم يصدق نبيء قط فضلاً عن أن تجري العادة بذلك.
وبعد، فيقال له: بماذا علمت نبوة أول نبي، فإنه لم يثبت هناك عادة يستدل بها على النبوَّة.
وبعد، فكل شيء طريقه العادة، فإنه يجوز اختلافه، فلا يمكن القطع بنبوَّة تنحصر معين قط؛ لجواز أن تكون العادة قد اختلفت في حقه.
واعلم أن أصحابنا قد ضايقوهم في هذه المسألة وأشباهها وألزموهم مالا يستطيعون عنه فصلاً، لكنهم بإيراد هذه الأقوال وأعمال الحيلة في التخلص من هذه الإلزامات واعتقاد جملة الذين لا يمتنع أن يكونوا قد عصموا أنفسهم عن الكفر.
المسألة الرابعة في الشرائع، قال أصحابنا للمجبرة: لا يمكنكم القطع بصحة شريعةق قط إلا به إذا جاز أن يفعل الله القبائح ولا يقبح جاز أن يدعوا إليها ويرغب فيها مع قبحها، فيجوز حينئذٍ أن تكون شريعة محمد خطأ، وأن يكون التشاغل لها قبيحاً في نفس الأمر.
وبعد، فإذا جاز أن يخلق الله في العبد الكفر والضلال ويزين له الباطل ويصده عن الحق، فهلا جاز في دين الإسلام أن يكون الكفر والضلال وإن كان الله قد زيَّنه في قلوبنا وحسَّنه إلينا وأن يكون الحق في بعض الملل المخالفة للإسلام، ويكون الله قد صدنا عن ذلك.

واعترض بأن مذهب المجرة أن الشيء يحسن لأجل الأمر ويقبح لأجل النهي، ودين الإسلام قد أمر الله ودعا إليه ونهى عن غيره، فيجب أن يكون هو الحق وغيره هو الباطل، وهذا وإن كان غير صحيح لكنه لا يمنتع أن يتخلصوا به عن الكفر.
فصل
فأما ما تفرد به بعض علماء المجبرة من المقالات المنكرة فلزوم الكفر فبها أظهر كمقالة الأشعري أنه لا نعمة لله على الكافر لا في الدين ولا في الدنيا، فإن هذا رد لما هو معلوم ضرورة من الدين وصريح الكتاب، وكما يحكى عنه من أن النصارى إنما كفروا /402/ لاقتصارهم على ثلاثة، وكما يحكى عن النجار أنه ليس لله نعمة دينية على الكافر، وكما يحكى عن العطوي أنه جوَّز الكذب على الله تعلى، قال: لأنه ليس بأبلغ من الظلم والعبث ونحو ذلك، وحققه بمثال، فقال: إن من وعد طفلاً برمانة وأخلف فيها أخف حالاً ممن قطع أوصاله ورمى به في النار، وكما يحكى عن كثير من أغمارهم من القول بوقوع تكليف مالا يطاق، فإنه رد لما علم ضرورة من الدين بخلاف الجواز.
فصل [في ذكر خيالات]
ادعى بعض المجبرة لأجلها كفر المعتزلة، ونحن قد حكينا عن جمهورهم أنهم لا يكفرون أحداً من أهل الصلاة، وأن هذا هو الأقرب في الغالب، فأمَّا هذه الفرقة فإنهم لما رأوا المعتزلة كفروهم بالوجوه المتقدمة تكلفوا مقابلتهم بمثل ذلك من غير حجة ولا سلطان.
حكي عن الإسفراييني أنه سئل عن تكفير المعتزلة، فقال: من كفرني كفرته، وهذا تصريح بأنه لا وجه لإكفاره إياهم، إلا أنهم كفروه.
وقد تعلقت هذه الفرقة بسبةٍ هي أهون من أن يشتغل بالجواب عنها، لكن لا بد من ذلك ليتمخض الحق للمبصرين.
الشبهة الأولى: في إنكاره المعاني القديمة
قالوا: فالمنكر لها يجب أن يكون جاهلاً لله؛ لأن حقيقة الإله تقتضي أن يكون ذاتاً موصوفة بالعلم والقدرة، وكذلك سائرها.

والجواب يقال لهم: مسلم أن ذات الباري يجب أن تكون ذاتاً موصوفة بالعلم والقدرة، لكن الذات إنما تكون موصوفة بالصفات، والمعتزلة قد أثبتوا هذه المزايا والصفات على أتم ما يكون، فإذا أرادت المجبرة بالمعاني ما تريده المعتزلة بالصفات كما يقوله كثير من محققيهم فقد وافقوا في المعنى، وإن أخطئوا في العبارة؛ لأن تسميتها معاني تقتضي أنها ذوات يصح العلم بها على انفرادها، وإن أرادوا بالمعاني أمراً وراء الصفات كما هو الظاهر من كلامهم، فهو أمر لا دليل عليه، فلا يجوز إثباته فضلاً عن أن يخطَّى من نفاه؛ لأن العلم بكون ذات الباري موصوفة بالعلم والقدر قد تمَّ بدونه، فالمثيب له كمن يثبت لله علمين على أصلهم.
وبعد، فهذه المعاني متى لم يريدوا بها ما أراده أصحابنا من الصفات وجب أن يكون أعباراً لله فيكون الجهل بها جهلاً بغير الله فتسقط الشبهة من أصلها.
وبعد، فكيف يكفر المعتزلة لأجل قولها لا ثاني لله في القدم وقد علموه ووصفوه بصفات الكمال ونزَّهوه عن صفات النقص، ولو صح هذا لكان للنصارى أن يكفروا المسلمين بنفي الإلهين الثانيين، ويدَّعوا أن ذلك جهل بالله.
وبعد فدون إثبات معانيهم هذه خرط القتاد، فكيف تكفرنا فيها لا سيما وقد أوضحنا أنه يلزم الكفر على إثباتها لزوماً لا انفصال عنه.
وبعد، فإن أرادوا أن النافي لها جاهل بالله من كل وجه فهو ظاهر البطلان، وإن أرادوا أنه يجهله على التفصيل فقد ينفا أن ذلك لا يقتضي الكفر، وإلا وجب في كل من أخطأ في مسألة في الأصول أن يكفر.
/403/ الشبهة الثانية في أن العباد محدثون لأفعالهم
قالوا: زعمت المعتزلة أن الله لا يقدر على فعل العبد، وغن العبد لا يقدر على فعل الله، وذلك يضاهي مذهب المجوس، وأيضاً فالإجماع لى أنه يجب أن نشكر الله على ما رزقنا من الإيمان ومذهب المعتزلة يقتضي أن الله هو الذي يشكرنا وذلك كفر.

63 / 75
ع
En
A+
A-