وأما إن كان المكلف من أهل العقاب قطعاً أو تظاهر الحال فقد اقتضى السمع فيه عكس ما أوجب علينا في أهل الثواب من الذم واللعن والاستخفاف والمعاداة في الدين والخذلان والدعاء عليهم، إما على الإطلاق أو بشرط يحسب التفضيل المتقدم والوجه في جميع ذلك ما يرجع إلى الألطاف فإنه يكون عند ذم غيره له، ونحو ذلك أقرب إلى ما يقتضي إزالة ذلك والتمسك بالطريقة المثلى وهو أيضاً لطف لغيره من المكلفين.
القول في الإكفار
اتفق الناس على أنه لا يجوز إثبات الكفر إلا بدليل.
واختلفوا في هل يجوز ثبوت كفر في معلوم الله، ولا بد لنا عليه أم لا فمنعه الجمهور وأجازه أبو الحسين وأبو رشيد وابن الملاحمي والمؤيد بالله والبستي والإمام عماد الإسلام يحيى بن حمزة عليه السلام.
حجة الجمهور أنا قد تعبدنا بأحرا أحكام على الكافر لأجل كفره نحو القتل والمنع من المناكحة، ومن الدفن في مقابر المسلمين والموارثة وأكل الذبائح ونحو ذلك، فلا يخلو دليل التعبد بذلك إما أن يكون عاماً في كل كافر، فيجب أن يدلنا الله على كل كفر ليتمكن من إجراء هذه الأحكام فيه، وإما أن لا يكون لم يرد منا إجراءها فيه.
ومتى قيل أليس يجوز أن يبطن الإنسان ما هو كفر ولا بد لنا على ذلك مع أنا قد تعبدنا بإجراء هذه الأحكام فيه.
قالوا: إذا قد دلنا على ما إذا ظهره كان كفراً فذلك كاف في حصول /391/ معرفة للمراد بالخطاب حتى لو قدرنا أنه لم يقع كفر في العالم لم يكن بد من قيام الدليل على ما هو كفر ليتمكن من امتثال الخطاب بإجراء هذه الأحكام عند ظهور ما هو كفر، فإن هذا التكليف موقوف على ما يظهر لنا.
ومتى قيل لمه: أليس يجوز ثبوت فسق لا دليل عليه كن يذنب ذنباً لا يقطع بكونه كبيراً، وهو كبير في معلوم الله تعالى مع أنا قد تعبدنا بإجراء أحكام على الفسقة.
لجابوا بأن الأحكام التي تعلق على الفسق ضربان ضرب لا يمكن تعليقه بالفسق إلا بعد معرفة ذلك الفسق كالحدود، فإنه لا يمكننا حد الزاني إلا بعد معرفة الزنا، فيجب أن يدلنا الله تعالى على كل زنا، وكذلك سائر ما تعلق به الحدود.
وضرب يمكن تعليقه بالفسق على جهة الوصف لا على جهة التعيين كالذم واللعن والدعاء عليه والذي سأل عنه السائل هو من هذا القبيل، فإنا نعلق الذم واللعن بالذنب بشرط كونه كبيراً، فلا يضر الجهل بكونه كبيراً بخلاف الأحكام التي تعلق بالكفر لكونه كفراً، فإنه لا يمكن إنفاذ شيء منها مشروطاً، فلا بد من معرفة كل كفر، فأما سائر ما يجري على الفاسق نحو رد الشهادة، وعزله عن القضاء وأشباه ذلك فليس يتعلق به لأجل الفسق؛ بل لأنه منهم، ولهذا فإن العدل قد يرد شهادته للرق أو الولادة أو الشركة أو غير ذلك لا للفسق، وكذلك الفاسق قد لا يرد شهادته إذا لم يتهمه كشهادة الفاسق في النكاح وكشهادة الفاسق إذا اكن شديد التحرج كالخوارج عند من يقول به، وإذا لم يكن رد الشهادة مخصوصاً بالفسق لم يحتج في رد الشهادة إلى تعيين ما هو فسق.
حجة أبي الحسين ومن قال بقوله أنا إنما تعبدنا بإجراء هذه الأحكام على الكافر لمصلحة يعلمها الله تعالى وغير ممتنع أن يكون في الذنوب ما يبلغ عقابه عقاب الكفر ولا يكون في إجراء هذه الأحكام لأجله مصلحة، فلا يدلنا الله عليه، ويكون دليل التعبد بإجراء هذه الأحكام شاملاً لما يعلم كونه كفراً أو ينصب لنا دليل عليه، ولا يكون لنا مصلحة ي العلم بكون غيره كفراً ولا في إجراء هذه الأحكام عليه، فلا نحب أن يدل عليه.
يوضحه أن النبي عليه السلام قد علم كفر المنافقين في زمانه، ولم نؤمر بإجراء هذه الأحكام عليهم لمصلحة يعلمها الله تعالى، فإذا جاز أن لا يجري هذه الأحكام في بعض ما علمناه كفراً لمصلحة جاز أن لا يجريها إلا في ما علمناه كفراً المصلحة.
فصل
ليس يعلم بالعقل كفر قط؛ إذ لا محال له في أن الذنب يبلغ عقابه مبلغاً عظيماً مع إجراء أحكام مخصوصة وإنما يعلم الكفر بالشرع.
أما بالضرورة من دين النبي عليه السلام كاليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك ونحو ذلك.
وأما بالدلالة وذلك قد يكون تصريح الكتاب أو الستة المتواترة أو الإجماع المتواتر أو القياس القطعي كان يعلم في ذنب أنه كفر لعله مخصوصة، ثم يعلم حصول تلك العلة أو أبلغ منها في غيره، فيعلم أن ذلك كفر؛ لأن بهذه الطريق من القياس يعلم كثيراً من الأحكام، وهذا لا شبهة فيه، وإنما الذي يصعب بيان علل الكفر لما ستعرف.
/392/
فصل [في بيان أنواع الكفر]
اعلم أن الكفر ضربان، والضرب الأول خمسة أنواع أحدها: ما يكون جهلاً بالله تعالى بذاته وصفاته اللازمة لكونه قادراً عالماً حياً موجوداً ونحو ذلك، وقد دخل في هذا كفر الدهرية والطبائعية وأهل العقول والأفلاك. وبالجملة من ينفي الصانع المختار.
وثانيها: أن يكون تشبيهاً له بخلقه كاعتقاد المجسمة وقولهم أنه جسم له أعضاء وجوارح.
وثالثها: أن يكون خروجاً من التوحيد كاعتقاد الثنوية والمجوس والنصارى وعباد الأصنام.
ورابعها: أن يكون خروجاً من التعديل كان يعتقد معتقد أن الله ظالم أو عابث أو جائر أو سفيه أو نحو ذلك.
وخامسها: أن يكون جهلاً بالنبوة إما بأن ينفي النبوة رأساً كاعتقاد البراهمة، وإما بأن يتوقف في صدق بعض الأنبياء أو يعتقد كذبه.
الضرب الثاني: أن يظهر من حاله ما يدل على أحد هذه الأنواع المتقدمة من غير إكراه ولا سهو، كأن يجحد الصانع بلسانه أو بعض صفاته المذكورة أو يجحد وحدانيته أو عدله وحكمته أو صدق رسله، فإن ذلك كفر بنفسه، وإن اعتقد خلاف ما أظهره بلسانه وكان يندم على الإقرار بالله تعالى وتوحيده وعبادته؛ لأنه حينئذ ٍيصير في حكم من لم يفعلها، وكان يستحق بحق الله أو بحق رسله بالتكذيب أو السب أو تمزيق المصاحف أو تحريق أستار الكعبة وخرب المساجد، وقد دخل في ذلك ردَّ ما هو معلوم ضرورة من الدين كإمكان وجوب الصلاة ونحو ذلك، وان يعزم على نبي من هذه الأمور، فإن هذا العزم يكون كفراً اتفاقاً بين شيوخنا لمشاركته المعزوم عليه في كونه استخفافاً، وإنما اختلفوا في العزم على الكفر إذا لم يشارك ذلك الكفر في الوجه الذي لأجله كان كفراً.
فقال أبو هاشم وأبو عبد الله والسيد المؤيد بالله: لا يكون كفراً بمجرده؛ إذ لا دليل في ذلك من حيث لا يكون كفراً، إلا لأجل مخالطته المعزوم عليه ومشاركته له في ما لأجله كان كفراً وذلك مفقود هنا.
وقال: أبو علي وأبو الهذيل والكعبي وحكى عن واصل أنه يكون كفراً؛ لأن العزم من قبيل الإرادة والإرادة تابعة للفعل غير مستقلة بنفسها فيكون حكمها حكم الفعل المراد، فإن كان كفراً فهي كفر، وإن كان فسقاً فهي فسق.
قيل: والحق هو الأول؛ لأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يعدون العزم على الزنا وشرب الخمر فسقاً ولا يمتنع أن يكون هذا من خصائص أمة محمد عليه السلام.
فصل
اعلم أنه قد تقرر بضرورة الدين حملة ولا يمكن أحد من أهل الملة إنكارها وهي أن للعالم صانعاً وإنه قادر عالم حي سميع بصير مدرك قديم لا ثاني له لا شبهة شيء ولا شبه شيئاً لا يجوز عليه الحاجة ولا صفات النقص وأنه عدل حكيم لا يظلم ولا يكذب ولا يعبث ولا يرسل كاذباً وإن محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي وما جاء به حق، فهذه جملة أصول الدين ولا خلاف بين المسلمين في كفر من خالف شيئاً من هذه الجملة /393/ قولاً أو اعتقاداً، ولهذا لم يقع اشتباه في كفر المتقدم ذكرها من الدهريَّة والملحدة والفلاسفة واليهود والنصارى والمشركين وإنما وقع الاشتباه في من يذهب من أهل القبلة مذهباً خطأ يعود بالنقص على شيء من هذه الجملة ويتأوله على ما يوافقها هل يكفر بذلك أو ينجيه تأويله عن الكفر.
فقال: جمهور شيوخنا المعتزلة وقليل من أهل الجبر أن التأويل لا يمتنع الإكفار.
وقال: بعض شيوخنا لا يكفر أحد من أهل القبلة لفقد الدليل وإليه ذهب جمهور المجبرة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي من الفقهاء حكى عن أبي حنيفة أنه قال من الشبه أن لا يكفر أحداً. وحكي عن الشافعي أه قال: أنا لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاعتقادهم جواز الكذب.
وحكى عن الكرخي ما يدل على أن في بدع أهل القبلة ما يقتضي الكفر، لكن لا تجري عليهم أحكام الكفر.
حجة جمهور أصحابنا أن المخالف، أما أن يدعي أنه لا دليل على الإكفار من جهته التأويل، وهذا غير محل النزاع؛ لأنا إنما يكفره بدليل، وإما أن نقول عليه دليل، ولكنه لم يطلع عليه.
فيقال له: هذا يقتضي التوقف فلم قطعت على أن التأويل يمنع الإكفار.
وبعد، فالتأويل الذي يزعم الخصم أنه يخرج التشبيه وغيره من البدع عن كونه كفراً هو أن يعتقد في شبهته أنها دلالة، وأن الاعتقاد الحاصل عبدها علم وأن دليل خصمه شبهة واعتقاده جهل وتأويله هذا جهل ضمة غلى الجهل باعتقاد تلك البدعة، وذلك بأن يزيده دخولاً في الكفر أولى من أن يخرجه عنه.
فإن قال: أليس عقاب المقدم على المعصية مع الجهل بها واعتقاد جوازه أقل من عقاب المقدم عليها مع العلم وإن كان الأول قد ضم خطأ إلى خطأ.
قيل له: معارض بمن يستخف بالنبي عليه السلام مع اعتقاد جواز الاستخفاف به، فإن كفره يكون أعظم.
والتحقيق أن المعصية إن كانت من باب الاعتقادات ومما ألحق فيه واحد، فلا يسلم أن الجهل بها يقتضي تخفيف عقابه إذا أقدم مع إمكان العلم، وإن كانت من باب الأعمال لم يمتنع ما ذكره فإنه قد أخذ فيها بالظنون.
على أنه كان من أهل الاجتهاد فعليه أن يجتهد وإن أقدم من دون اجتهاد فقد أخطأ ولم يقتض ذلك تخفيف عقابه، وإن كان من غير أهل الاجتهاد فعليه السؤال.
وبعد، فلو كان التأويل عذراً لأهل الصلاة ومانعاً من الإكفار لكان أيضاً عذراً لسائر الملل الكفرية؛ لأنهم يعتقدون صحة مذاهبهم، ويعتمدون على شبهة عقلية يحتاج حلها إلى نظر دقيق، بل يعتمدون على متشابه القرآن ويتأولونه على ما يوافقهم، فكما لا يعصمهم ذلك عن الكفر، فكذلك أهل الصلاة.
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرها أصحابنا يمكن أن يعترض بوجه واحد وهو أن يقال: إن المكلف إذا كان معتقداً للجملة التي تقدم ذكرها من إثبات /394/ الصانع بتوحيده وعدله وصدق رسله لم يمتنع أن يكون عقابه على البدعة التي اعتقدها عقاب دون من لم يصدق بالله ورسله، فلا يقطع بأنها كفر ولا بأنها ليست بكفر.
حجة المخالفين أن المعتمد في الإكفار ما يظهر من جهة الرسول فعلاً وقولاً، ومعلوم أنه لم يعامل بالكفر إلا أهل المل الكفرية كاليهود والنصارى وغيرهم دون أهل القبلة، فعلمنا أن حال أهل القبلة يخالف هؤلاء.
ويمكن الجواب بأنه لم يظهر له عليه السلام شيء من البدع التي ظهرت بعده، فلو ظهرت له لحكم بكفرهم.
على أنه ليس المعتمد في الأدلة قول الرسول عليه السلام وفعله فقط، بل يستدل بصريح الكتاب والإجماع والقياس القطعي.
دليل، قالوا: قال عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها منعا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صلى إلى قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا)).
ويمكن أن يجاب بأن هذا إنما يدل على المنع من قتالهم فمن أين أنهم لا يكفرون باعتقاد ماهو كفر.
يوضحه أن مظهر الشهادة لو كان يبطن خلاف ما يظهر أو شهد لا عن علم لكان كافراً مع أنه منهي عن قتاله.
وأيضاً فلا خلاف أنه لا بد من أن يعرف سائر المعارف من أن للعالم صانعاً وأنه قادر عالم حي ونحو ذلك، وإلا كان كافراً ولو أظهر الشهادة.
وأيضاً فقد قال عليه السلام: إلا بحقها، فما أنكرتم أن من قها ألا يعتقد ما يعود على الجملة المذكورة بالنقض.
دليل، قالوا: المعلوم من حال العلماء في كل عصر أنهم يقبلون شهادة أهل الأهواء ويروون الأخبار.
ويمكن الجواب بأنا لا نسلم هذا الإجماع، فإن أكثر أصحابنا يمنع من قبول شهادة الفاسق وخبره فضلاً عن من يعتقد كفره.
وأيضاً فإن قبول ذلك لا يمنع من الأهواء وخبرهم لشدة تخرجهم.
فصول في ذكر ما كفر به أصحابنا أهل البدع
فصل [في المشبهة الذين اعتقدوا أن الله جسم طويل عريض عميق له أعضاء وخوارج وشكل وهيئة].
قد استدل أصحابنا على كفرهم بوجوه:
الأول: إجماع الصحابة والتابعين على أن المشبه كافر، فلا يقدح في ذلك خلاف العنبري والأشعرية؛ لأن الإجماع سبق مقالتهم، ولهذا قال عليه السلام في بعض خطبه: فاشهد أن من شبهك أو ساواك بمثلك فلقد كفر بما نزلت به محكم آياتك وأيضاً فلا خلاف في أن المشبه كافر.
وإنما خلاف هؤلاء في هل المجسم مشبه أم لا.
وأيضاً فخلافهم إنما هو في من قال بالتشبيه عن تأويل، فأما من قاله به خبطاً فلا خلاف في كفره.
دليل، لا شك أن من شبه الله تعالى بغيره فقد وصفه بصفات النقص يأمن التحيز والكون وجواز الزيادة والنقصان والتفريق والمجيء والذهاب ونحو ذلك من الصفات التي تنافي صفات الإلهيَّة وكل من وصف الله تعالى بصفات النقص فهو كافر بضرورة الدين /395/ وإجماع الأمة.
دليل، لا شك أن المشبه جاهل بالله تعالى جهلاً لا يتمكن معه من العلم بصفات الكمال، وغذا جهل بالله تعالى فهو برسوله أجهل، ومن جهل الله على هذا الحد ورسوله فهو كافر بالإجماع وضرورة الدين.
واعترض بأيكم إن أردتم جهل الله جملة وتفضلاً فذلك كفر، لكن ليس هذا حال المشبه؛ لأنه اعتقد أن للعالم صانعاً وأنه مختص بصفات الكمال، وإن أردتم أنه جاهل بالله على التفضل فلا يسلم حصول الإجماع على كفر من هذه حاله.
يوضحه أن جميع علماء الأمة اختلفوا في صفات الله تعالى على أقوال لا يكاد يسلم أحدهم من الخطأ فيها، كالخلاف في إثبات الأحوال ونفيها، ولا بد أن يكون الخطأ في ذلك جهلاً بالله تعالى على التفضيل، فلا يمتنع في المشيئة إذا علم الله تعالى على الجملة وجهله على التفصيل أن يكون عقابه أخف من عقاب من جهل جملة وتفصيلاً.
ويمكن الجواب بأنا لم نجعل العلة مجرد الجهل بالله تعالى بل الجهل الذي لا يتمكن من العلم باختصاص الله تعالى بصفات الكمال والإلهيَّة واختلاف الأمة في الأحوال لا يقتضي الجهل باختصاصه تعالى بصفات الإلهية.
يوضحه أنهم اتفقوا على أن الله قادر عالم ونحو ذلك، وإنما اختلفوا في هل كونه قادراً صفة زائدة على ذاته أم لا، وذلك أمر يسير بخلاف المشيئة، فإنه لا يمكنه العلم بأنه قديم ولا بأنه قادر على كل شيء وعالم بكل شيء وغني عن كل شيء، ولو اعتقد ذلك فاعتقاده ليس بعلم.
دليل، إذا اعتقد المشبه أن صانع التعاليم جسم ووجه العبادة إليه كان قد وجه العبادة إلى غير الله وبالإجماع أن من عند غير الله فهو كافر.
واعترض بأنه قد علم الله على الجملة فهو يوجه العبادة إلى ما اعتقده على الجملة وأن اعتقد مع ذلك أنه على صفة الأجسام.
ويمكن الجواب بأنه لا حكم للاعتقاد الجملي عن كونه قد وجه البر والتعظيم إلى غير أبيه.
يوضحه ما روى أن علياً عليه السلام سمع رجلاً يتلف بالذي احتجت بسمع سموات فأنكر عليه فسأله هل يكفر عن يمينه؟ فقال: لا لأنك حلفت بغير الله تعالى.
فأما ما يلزم المشبهة فيلزمهم القول بحدوث الصانع أو قدم الأجسام ويلزمهم أن لا يكون الله قادراً على الأجسام وعلى جميع أجناس المقدورات، ولا على الاختراع وأن لا يكون عبثاً ونحو ذلك.
تنبيه
وأما من اعتقد أن الله محل للحوادث كما يحكى عن الكرامية فهو إن اعتقد فيه حقيقة الجسميَّة فالكلام ما تقدم وإن لم يعتقد حقيقتها ويفسر الحلول بغير ماهو المعقول على بعد ذلك، فإن لا يكاد يمكن القطع بكونه مشبهاً.
والذي ذكره أصحابنا في كفر من هذه حاله وجهات /396/ أحدهما: أن المشبه إنما كفر لأه وصف الله تعالى بالجسمية، وهذا أول وصفه بما هو من توابعه وهو الحلول والكون ويمكن اعتراضه بأنه لا دليل على أن المجسم المشبه إنما كفر لمجرد وصفه الله تعالى بالجسميَّة، بل يجوز ان يعتبر في كفره مع الوصف اعتقاد مقتضاه أو معناه، ومن لا يعتقد معنى الجسميَّة والحلول والكون لا يمتنع أن يكون عقابه أخف من عقاب من اعتقد المعنى، وليس ينقلب هذا في من جحد الصانع بلسانه أو وحدانيته أو بنبوة الأنبياء ونحو ذلك وإن لم يعتقد المعنى؛ لأنه قامت أدلة مقررة على كفره بمجرد القول، ولم نفهم مثلها هنا.
الوجه الثاني: أنه يلزمه القول بالتشبيه والتشبيه كفر، وهذا حسن ولكن الصحيح عند أصحابنا أن الكف لا يثبت بالإلزام مالم يلتزمه الصخم.
تنبيه آخر، وأما الذي أثبتوا لله هذه الأعضاء كاليد والوجه والجنب والساق وتأولوها على صفات قديمة كما يقوله قدماء الأشعرية أو توقفوا في معرفة المراد بها كما تقوله الكراميَّة فالقطع بكفرهم وكونهم مشبهة أبعد؛ لأن المشبه من اعتقد معنى التشبيه، وهؤلاء لم يثبتوا من الأعضاء إلا لفظها، ولا يمتنع أن يكون عقاب من أطلق التسمية أقل من عقاب من اعتقد المعنى، وكذلك الكلام في ما تقوله الكراميَّة من أنه جسم لا كالأجسام أي قائم بذاته.
نعم يلزمهم الجميع القول بالتشبيه والكفر لكن الكفر لا يثبت بالإلزام.