وبعد، فلفظ الحسنة المذكورة شامل لكل الطاعات ومستغرق لها؛ إذ ليس ثم معهود يصرف إليه الكلام، ولا شك أن من جاء بجميع الطاعات خلص ثوابه.
شبهة
قال تعالى: {فلن يضل أعمالهم}، وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} وقال: {إني لا أضيع عمل عامل} ونحو ذلك.
والجواب: أنه ليس مع الموازنة إبطال ولا إضاعة؛ لأنه إذا سقط من عقابه بمقدار طاعاته، ومن ثوابه بمقدار معاصيه فلا إبطال.
على أن الفاسق لا يوصف بأنه من أحسن عملاً لأنه اسم مدح.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} ولم يقل: {إن السيئات يذهبن الحسنات}.
والجواب: دليل الخطاب لا يؤخذ به في مثل هذه الصورة، فلا يدل تخصيص الشيء بالذكر هنا على نفي ما عداه.
وبعد، فالحسنات إنما تذهب السيئات إذا حصلت بعدها، فيجب إذا حصلت السيئات بعد الحسنات أن يذهبا، والجامع أنه يصير بذلك في حكم من لم يفعل ما يسقط.
وبعد، فلو ذهبت سيئات الفاسق لما حسن ذمه، ولا إنزال العقاب به.
فصل
قد ثبت استحالة استحقاق الثواب والعقاب جميعاً.
واختلف الناس في هل يصح أن لا يستحق واحد منهما بأن تستوي طاعاته ومعاصيه أم لا.
فذهب الجمهور إلى استحالة استوائهما، قالوا: لأنه إذا استويا فإما أن يدخل النار وذلك ظلم، وإما أن يدخل داراً غير الجنة والنار، وذلك باطل بالإجماع.
على أنه لا دار غيرهما إلا ما يحكى عن بعض الصوفية وبعض الشيوخ من أن الأعراف المذكورة في القرآن دار غيرها وهي عند الجمهور مواضع عالية في الجنة شبهت بعرف الديك لارتفاعها.
وأما أن يدخل الجنة وهو باطل؛ لأنه لا ثواب له فيدخلها مثاباً ولا يصح أن يدخلها متفضلاً عليه للإجماع على أنه إذا دخل الجنة مكلف، فلا بد أن يتميز حاله عن حال الصبيان والمجانين.
ولقائل أن يقول: هذا إجماع مظنون، والمسألة قطعيَّة أعني جواز أن يدخلها متفضلاً عليه.

على أنه يصح أن يتميز عن الصبيان والمجانين بكثرة التفضل، وليس في الإجماع تصريح بأن التمييز لا بد أن يقع بالثواب.
فصل
إذا ثبت استحالة استحقاقهما جميعاً واستحالة الخلو منهما لم يكن بد من أن يزيد أحدهما على للآخر، فلا يكن بد من أن يسقط الأقل بالأكثر، وذلك معنى الإحباط والتكفير ومصير من زادت طاعاته على معاصيه كمن يحسن إلى الغير إحساناً عظيماً، ويسيء غليه إساءة حقيقة فإنه لا ينبغي سقوط الإحسان العظيم بالكلية ويضير من زادت معاصيه بالعكس.
فصل
واختلف الشيوخ في ما به يقع الإحباط والتكفير، فقال أبو علي: بين الطاعة والمعصية؛ لأنهما السبب واستحقاق الثواب والعقاب.
وقال ابن الأحشيد /359/: بين الطاعة والعقاب.
وقال أبو هاشم والجمهور: بين الثواب والعقاب؛ لأن الذي أوجب القول بالإحباط والتكفير هو التنافي، والتنافي إنما هو بين الثواب والعقاب؛ لا بين الطاعة والمعصية ولا بين الطاعة والعقاب.
وبع، فلا بد أن يؤثر أحدهما في الآخر بالإسقاط، وذلك إنما يتأتى في أمر منتظر دون ما قد حصل.
يوضحه أن المرجع بذلك إلى أنه يحسن من الله ما كان قبيحاً أو يقبح منه ما كان حسياً وذلك إنما يكون فيما ينتظر.

فصل [في كيفية الإحباط والتكفير]
ذهب الشيخ أبو علي إلى أن الأقل يسقط من كل وجه حتى لا يقع به اعتداد، ولا يكون فرق بين وجوده وعدمه، فإذا فعل أحدنا طاعة يستحق عليها عشرة أجزاء من الثواب وفعل معصية يستحق عليها أحد عشر جزءاً من العقاب فإن عشرة الثواب يسقط عنده بالكليَّة ويدل النار بأحد عشر جزءاً من العقاب.
وقال أبو هاشم: بالموازنة فيسقط من الأكثر ما يوازن الأقل فيسقط عشرة أجزاء من العقاب في مقابلة عشرة الثواب ويدخل النار بجزء واحد.
وهذا هو الحق والذي يليق بالعدل.
لنا: أما من جهة العقل فهو انه لا بد لأجل الطاعة أن ينتفع بثوابه ضرباً من الانتفاع، ولما لم يمكن إيصاله جعل تحقيقاً من عقابه.
وبعد، فلو كان كما قاله لما حسن من الكافر والمصر على الكبير أن يفعل شيئاً من الطاعات؛ إذ لا فائدة له في ذلك.
وبعد، فلو لا الموازنة لم يكن فرق بين بعض الكبائر وبعض.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وقوله: {فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ} ونحو ذلك من الآيات.

شبهة أبي علي
أما من جهة العقل فهو أن سقوط ا بعض عقابه بالطاعة يكون ثواباً؛ لأن دفع الضرر يجري مجرى النفع، وكذلك سقوط بعض عقابه بالطاعة يكون ثواباً؛ لأن دفع الضرر يجري مجر ى النفع، وكذلك سقوط بعض ثوابه بالمعصية يكون عقاباً؛ لأن تفويت النفع يجري مجرى الضرر فيؤدي إلى أن يكون كل واحد مثاباً معاقباً، والعقل يحيله، وهذا هو الوجه عنده في استحالة تساوي الطاعات والمعاصي، قال: لأنه يكون حينئذٍ بسقوط عقابه في حكم المثاب وبسقوط ثوابه في حكم المعاقب، وكذلك جعل الإحباط والتكفير بين الطاعة والمعصية.
والجواب: أن هذا لا يصح لوجهين:
أحدهما: أن المانع من اجتماع الثواب والعقاب هو التنافي، ولا تنافي بين سقوط بعض الثواب وإيصال بعضه.
الثاني: أن حقيقة الثواب غير حاصلة في من خفف من عقابه، ولا حقيقة العقاب حاصلة في من سقط بعض ثوابه.
وأما من جهة السمع فقول تعالى: {أن تحبط أعمالكم} وقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} ونحو ذلك.
والجواب: يحتمل أن تصرف هذه الآيات إلى الكفرة وأهل الكبائر فإنهم بفعلها /360/ قد أبطلوا أعمالهم وإن كان فعل الطاعة يقتضي تحقيقاً عنهم.
ويجوز أن يصرف إلى أهل الصغائر ويكون المبطل والهباء والمحبط ما يوازن المعصية دون ما زاد عليه، ولفظ أعمالكم وإن كان عاماً، فما تقدم من الأدلة يخصصه على أن عند كثير من الناس لا يفيد العموم.

فصول في التوبة التي تسقط بها العقاب
التوبة: هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في كونها معصية، وقد دخل في كونها معصية فعل القبيح والإخلال بالواجب.
فصل
لا بد من اعتبار الندم اتفاقاً والعزم خلافاً لقوم.
لنا: أن التوبة نظيراً لاعتذار من الإساءة في الشاهد؛ لأن صورتها واحدة وإن اختلفا في التسمية، وفي أن المعتذر في الشاهد لا بد أن يظهر عذره بالقول لما لم يمكن المساء إليه معرفة ما في ضميره.
وبعد، فهب أن ليست صورتهما واحدة، فالتوبة مقيسة على الاعتذار، فكما أن المسيء لا يكون معتذراً ولا يسقط عنه الذم إلا إذا عزم على أن لا يعود إلى الإساءة، فكذلك التوبة، والجامع كون كل واحد منهما بذل الجهد في تلافي ما وقع منه، ودفع ما يستحقه على ذلك من دم أو عقاب.
يوضحه أن من اعتذر إلى غيره من قتل ولده وهو عازم على قتل الولد الىخر فإنه لا يسقط عنه الذم ولا يكون معتذراً.

فصل
واختلف المعتبرون للعزم. فقال أبو هاشم: هو جزء من التوبة لما تقدم.
وقال السيد صاحب شرح الأصول: هو شرط فيها، والأصل هو الندم؛ لأن من حق التوبة أن يتعلق بالماضي والعزم لا يتعلق بالماضي.
وقال ابن الملاحمي: ليس جزءاً منها ولا شرطاً فيها، وإنما التوبة هي الندم فقط، لكن إذا خطر بباله المعاصي المستقبلة حال الندم ولم يعزم على تركها انكشف لنا أنه لم يندم على المعصية لكونها معصية، فالعزم إنما هو دليل التوبة عنده؛ لأن الداعي إلى التوبة هو الداعي إلى العزم.
قال: فأما إذا لم يخطر بباله المعاصي المستقبلة كفاه الندم.
فإن قيل: إذا وجب العزم فبماذا يتعلق.
قلنا: تتعلق بفعل الواجب لوجوبه وبكراهة فعل القبيح أو بإرادة فعل ضدِّه إذا كان له ضدٌّ، ولا يصح تعلق العزم بأن لا يفعل من حيث هو نفي، فأما الندم فلا يصرف عن ظاهره في التعلق؛ لأنه من قبيل الغم والأسف.

فصل
واعتبرنا أن يندم على المعصية لكونها معصية ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها في كونها معصية؛ لأن وجه التوبة هو دفع ضرر العقاب والذم، والمعصية جهة استحقاقهما، فيجب أن تكون التوبة لأجل الجهة التي جاء منها الضرر؛ ولأنها نظير الاعتذار ومعلوم أنه لو اعتذر لا لأجل الإساءة، بل لأنه لحقه بالإساءة مشقة، أو لأنه ينجس ثوبه بدم المقتول أو نحو ذلك، لم يكن معتذراً /361/ فكذلك إذا تاب من شرب الخمر لأجل أنه أصابه في رأسه صداع أو جمار أو لأجل الناس أطلعوا عليه لم يكن.
وعلى الجملة لا يكون باذلاً للجهد في تلافي ما وقع إلا إذا ندم على القبيح لقبحه.
فصل
واعتبر بعضهم أن يندم على القبيح لعظمه ي القبح لا للقبح المطلق، وقال آخرون: يجب أن يندم عليه لقبحه ولجنسه حتى يندم على الزنا لقبحه؛ ولأنه زنا، وقال بعضهم: بل لقبحه ووله قبحه.
ويبطل الجميع أن العقلاء عند العلم بالقبح يستحسنون الذم عليه وإنزال العقاب لأجله، وان يجرد من جميع ما ذكروه، ولو كان كما قالوه لوجب إذا تعرَّى القبيح عن هذه الأشياء أن يكون فاعله معذوراً، فلا تجب عليه توبة.
وبعد، فقد قدمنا أن وجه وجوب التوبة كونها تدفع ضرر العقاب، فيجب أن تكون التوبة للوجه الذي جلب الضرر، وهو القبح فقط، وبهذا يبطل قول من يقول: هلا صحة التوبة من القبيح لوجه قبحه لا لنفس القبح كان يندم على الكذب؛ لأنه كذب، لا لأنه قبيح كما يصح أن يفعل الواجب لوجه الوجوب كما يؤدي الصلاة لكونها لطفاً.

فصل
واعتبر شمر بن المعتمر وأصحابه في التوبة الموافاة وخالفه الجمهور.
لنا: أنها بذل الجهد في تلافي ما وقع، فلا تحتاج إلى الموافاة كالاعتذار، فإن من اعتذر اعتذاراً صحيحاً سقط عنه الذم سواء أساء مرة أخرى أم لا.
فصل
والتوبة واجبة عقلاً وسمعاً إن كانت المعصية كبيرة، وسمعاً فقط إن كانت صغيرة.
والذي يدل على ذلك من جهة العقل أن فيها دفعاً للضرر العظيم ودفع الضرر عن النفس واجب، وبهذا يعلم أنه لا يجب من جهة العقل التوبة عن الصغيرة؛ لأنه لا ضرر فيها.
وقد ذهب أبو الحسين إلى أن العلم يوجب التوبة عن القبيح لقبحه معلوم ضرورة.
وأما من جهته للسمع فهو معلوم ضرورة من الدين.
ثم المعصية قد يعلم حمله، فتجب التوبة عنها تفصيلاً.

فصل
والتوبة تسقط العقاب عند الجمهور. وقال أبو الهذيل: بل إنما يتفضل الله بإسقاطه عندها، وبه قالت البغدادية، إلا أنهم جعلوا الوجه في ذلك كونه أصلح.
وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن التوبة لا تسقط عقاب القتل.
لنا: أن العذر الصادق في الشاهد يسقط الذم على الإساءة، فكذلك التوبة، والجامع ما تقدم إن لم يكونا جنساً واحداً.
وبعد، فكان يجوز أن لا يتفضل الله بالإسقاط عندها وخلافه معلوم.
وبعد، فكان يقبح التكليف بعد مواقعة المعصية؛ إذ لا طريق للمكلفين حينئذٍ إلى الانتفاع بما كلفوه.
فإن قال كيف يسقط العقاب بالتوبة مع بقاء سببه وهو المعصية.
قيل له: كما يسقط /362/ بالاعتذار ذم الإساءة مع بقائها.
والتحقيق أن الطاعة والمعصية ليست تؤثر على سبيل الإيجاب، وإنما تأثيرها بمعنى أنه يحسن عندها ما كان قبيحاً، وهو المدح ويقبح ما كان حسناً وهو الذم والعقاب.
فأما ما يحكى عن ابن عباس والحسن فمتأول بأن معناهم القائل مخذول لا يوفق للتوبة لعظم ذنبه.

وحكي أن عمر بن عبيد دس إلى لحسن من سأله فقال: لا يخلوا القاتل إما أن يكون كافراً أم منافقاً أو فاسقاً، إن كان كافراً فقد قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا نغفر لهم ما قد سلف} وإن كان منافقاً فقد قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} إلى قوله: {إذا الذين تابوا} وإن كان فاسقاً فقد قال تعالى: {أولئك هم الفاسقون إلا من تاب} فقال الحسن للسائل: من أين لك هذا؟ فقال: من ععمرو بن عبيد، فقال: وما أدراك ما عمرو بن عبيد، ورجع عن هذه المقالة.
فإن قال: لو أسقطت التوبة العقاب في الدنيا لأسقطته في الآخرة.
قيل له: إن من حق التوبة أن يكون ندماً على القبيح لقبحه وأهل النار يندمون لأجل الإلجاء.
فإن قال: لو وجب على الله قبول التوبة لما استحق شكراً على قبولها.
قيل له: يستحق الشكر على ولده في التربية، وإن كانت واجبة عليه، فوجوب الفعل لا يخرجه عن كونه نعمة إذا كان منفعة حسنة قصد بها وجه الإحسان.

56 / 75
ع
En
A+
A-