القول في الجنبة العقلية
اعلم أن الذي يستحق على الأفعال هو المدح والذم والعقاب والثواب.
والمدح: هو كل خبر ينبي عن ارتفاع حال المذكور مع القصد إلى ذلك.
قلنا: المذكور ولم يقل الغير؛ لأنه قد يمدح نفسه.
وقلنا: مع القصد إلى ذلك احترازاً من الحكاية نحو: أليس لي ملك مصر، ومن التعريف نحو: {وآتيناه من الكنوز} الآية وينقسم إلى ما يتبعه ثواب كالمدح على الطاعة وإلى مالا يتبعه كالمدح على النعمة وعلى سائر صفات الكمال في الذم، هو كل قول نبي عن إيضاح حال المذكور مع القصد إلى ذلك.
وقلنا: مع القصد احترازاً من الحكاية نحو {أم أنا خير من هذا الذين هو مهين} ومن التعريف نحو {وعصى دم ربه فغوى} وينقسم أيضاً إلى ما يتبعه عقاب كالذم على المعصية، وإلى مالا يتبعه كالذم على الإساءة، وعلى القبائح الصادرة من الباري لو صدرت عنه تعالى عن ذلك.
والثواب: هو المنافع المستحقة على جهة التعظيم.
واعتبرنا كونه نفعاً احترازاً من قول من يجوز تحمل المشاق لأجل المدح والسرور، واعتبرنا الاستحقاق لينفصل عن التفصُّل.
واعتبرنا التعظيم لينفصل عن العوض /352/ والعقاب هو المضار المستحقة على جهة الاستحقاق.
والتعظيم هو كل قول أو فعلٍ أو ترك ينبني عن ارتفاع حال من وجه إليه مع القصد. والاستحقاق عكسه.
فصل
وهذه الأمور كما يستحق على الفعل فقد يستحق على أن لا يفعل.
قال الشيخ أبو علي والمجبرة: الترك فعل فلا يقع الاستحقاق إلا على فعل.
لنا: إنَّ أن لا يفعل جهة في استحقاق المدح والذم عند جميع العقلاء على مثل ما يقول في من طولب برد الوديعة، وهو مستلفٍ فلم يفعل في نفسه فعلاً، وكذلك فإنه يمدح إذا لم يطالب غريمه بالدين، وهذا معلوم تأويل العقول، ولهذا يعرفه من ينفي الأفعال.
وبعد، فإن لا يفعل قد صح كونه معلوماً أو مخبراً عنه، والعلم لا يتعلق بالنفي.
قلنا: متعلق هذا العلم هو المقدور على انتفاء صفة الوجود، فيصير كعلمنا بذات الباري على صفات أليفي، وإذا تعلق به العلم تعلق به الخبر.
وبعد، فالعقلاء يعملون استحقاق المدح والذم على أن لا يفعل ضرورة ولا يعلم هذا الترك الذي يثبته الخصم إلا بدلالة دقيقة، ولا يصح أن يعل الاستحقاق ضرورة، وجهته استحقاقه دلالة.
وبعد، فكلامهم إنما يتأتى فيما له ضد من الأفعال، ومعلوم أن فيها مالا ضد له كالنظر والاعتماد، فلا يكون للاستحقاق جهة، غلا ما ذكرناه.
على أن المتولدات لا يصح أن يكون لها ترك لوجوب وقوعها عند وقوع أسنانها.
شبهتهم أن القادر لا يجوز أن يخلو عن الشيء وضده.
والجواب: أن هذا باطل عند الجمهور بأن من يعلم تصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها، والأعراض ليس بمعنى، وكذلك القادر القوي إذا وضع يده على وسادة، ثم أزيلت الوسادة يجب أن لا تهوي كما إذا سكنها، ومعلوم أنها تهوي على طريقة واحدة.
قال أبو علي: فكيف يذم ويمدح على شيء لا تعلق له به، وله هذا إلا خبر.
قيل له: إن أردت أنه يذم لا وجه أصلاً، ولم يقل به؛ لأنه عندنا يذم على كونه لم يوجد المقدور مع تمكنه من إيجاده، وتلك جهة معقولة، وإن أردت أنه يذم لا على فعل فهو محل النزاع، ولا مانع منه.
قالوا: لو كان أن لا يفعل جهة كافية في استحقاق المدح والذم لوجب إذا أخل بالواجب وبالقبيح أن يستحق المدح والذم في حالة واحدة.
قيل لهم: يستحقها وتعتبر الموازنة كما إذا فعل الطاعة والمعصية.
قالوا: إذا جاز أن يستحق الذم بعد أن لم يستحقه لا لمعنى وجب أن لا يوجد طريق إلى إثبات الأعراض.
قيل لهم: إنه يعتبر في إثبات الأعراض حصول الصفة مع الجواز، والحال واحدة والشرط واحد، وذلك مفقود هنا.
قالوا: يوصف من لم يرد الوديعة بأنه ظالم، والظلم لا بد أن يكون فعلاً.
قيل لهم: بل يوصف بذلك من حيث أضر بالغير بكونه لم يرد الوديعة.
تنبيه
ولسنا نمنع أن يكون في الواجبات ماله ترك قبيح، فإن كل فعل يستغل به عن الواجب فإنه ترك له، لكنه إن كان تركاً واحداً بأن لا يمكن الانفكاك من الواجب المضيق إلا إليه ولم يكن أيضاً هو /353/ واجباً لصيقاً، فإنه يقبح لا محالة، وغن كانت تروكاً كثيرة، فقيل: لا يقبح واحد منها؛ لأن كل واحد منها لم يمنع الواجب من وجوده من حيث يمكن الانفكاك من الواجب، ومنه جميعاً.
قيل: يفسخ كل واحد منها على الجمع. وقيل: على البدل.
وقال أبو إسحاق: يقبح مجتمعه ولا يقبح أفرادها.
تنبيه آخر
ومتى كان الواجب مما له ترك قبيح فليس ذلك هو الوجه في وجوب ذلك الواجب، ولا في استحقاق الذم على الإخلال به، بل المخل بالواجب يستحق الذم على أن لا يفعل، وغن جاز أن يستحق الذم على فعل الترك الذي هو قبيح، فليس يمتنع استحقاق الذم من جهتين.
فصل
والشرط في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عليهما بصفة ما أقدم عليه أو تركه أو يمكنه من العلم، ولهذا لا يستحق الصبي شيءاً من ذلك، وغن صدر منه ماهو بصفة الحسن أو القبيح.
فصل
والدليل على استحقاق الثواب على الطاعة وترك المعصية أن الله تعالى كلفنا الشاق، فلا بد من عوض في ذلك، وليس إلا ما نعود إلى المكلف بالنفع كما تقدم.
وبعد، فقد كلفنا الشاق مع إمكان أن نجعله غير شاق بأن نزيد في وقتنا أو نزيل الشهوة والنفار ويعيننا بالحسن عن القبيح، فلو لم نخبره بنفع كان ظلماً من حيث أن إلزام المشاق تجري مجرى إنزال المشقة، وهذا النفع لا يصح أن يكون تفضلاً؛ لأن التفضل يحسن الابتداء به، فيكون التكليف لأجله عبثاً؛ ولأن التكليف وجوب نفع من جهة المكلِّف والتفضل لا يجب.
فإن قال: هلا كان له أن يلزمنا الشاق في مقابلة النعمة التي علينا له تعالى وتجري هذه العبادات مجرى الشكر لها ويكون الثواب تفضلاً؟
قيل له: مثل هذا القدر من النعم لا يقابل إلزام الشاق وإنزال العقاب على الإخلال به.
وبعد، فلا يحسن في الشاهد إلزام الشاق لأجل النعمة، ويقل للمنعم عليه أن يقول كان الأولى أن لا ينعم علي ولا يلزمني الشاق.
وبعد، فحسن التكليف مشروط بأصول النعم، فلا يصح أن يكون في مقابلتها التكليف.
وبعد، فهذا يؤدي إلى أن يسقط وجوب شكر نعمة الله علينا؛ لأنا قد فعلنا ما يقابلها، بل كان يلزم أن لا يبقى علينا له نعمة وخلافه معلوم.
وبعد، فكون التكليف نعمة مستقلة أولى من جعله في مقابلة النعمة ومسقط بها.
وبعدن فجعله للتكليف شاقاً مع إمكان أن يجعله غير شاق يكون عبئاً لولا الثواب في مقابلته.
فإن قال: هلا كفا استحقاق المح على الطاعة دون الثواب، فإنا رأينا العرب يبذلون الرغائب في طلب المدح والثناء.
قيل له: متى تجرد المدح عن نفع نضامه لم يقع به اعتداد، وإنما يبذلون الرغائب في ذلك لاعتقاد النفع على أن المدح كما يستحق من جهة الله يستحق من جهة غيره، وقد بينا أن الجزاء على الشاق يكون على من ألزم الشاق دن غيره.
وأيضاً فكما يستحق المدح على الشاق يستحق عليه لو لم يكن شاقاً فلا بد من نفع يقابل المشقة.
أما السرور فالمرجع به إلى اعتقاد النفع أو ظنه فلا يصح أن يجعله /354/ في مقابلة الشاق.
تنبيه
ولا بد من اختصاص الثواب بصفات يتميز بها عن غيره.
منها الدوام ودليله أن الثواب يظير المدح والمدح يستحق دائماً، فكذلك الثواب لاتحاد جهة استحقاقهما.
وأيضاً فلو لم يقطع المثاب بدوامه لأدى ذلك إلى التبعيض المنفى عنهم.
وأيضاً فقد حسن من الله إدامة التفضل، فلو كان الثواب منقطعاً لكان أعلى حالاً من الثواب، ولقبح التكليف لأجل الثواب، ولاختار العقلاء التفضل الدائم على الثواب المنقطع.
وأيضاً فإذا كان لا يمكن تقديره بوقت دون وقت كان حال الأوقات معه على سواء.
ومنها أن يقارنه التعظيم والألم ينفصل عن العوض الذي كان يصح الابتداء بمثله فيقبح التكليف لأجله.
ومنها أن يخلص عن كل شائب وتبعيض؛ لأن المكلف مرغب فيه، فلا بد ان يتميز حاله عن حال التكليف في الخلوص من المشاق والمضار.
ومن هنا زال التكليف عن المثابين وصاروا ملجئين.
على أنه لا وه يقتضي حسن إنزال المشاق بأهل الآخرة.
ومنها أن يكون بالغاً في القدر مبلغاً عظيماً لا يحسن الابتداء بمثله في المقدار لتفارق التفضل، وكان أبو علي يذهب إلى أنه يكفي أن يفارق التفضل بالصفة التي هي التعظيم دون المقدار، ثم رجع إلى ماقاله الجمهور من أنه لا بد أن يفارقه في القدر والصفة، والوجه في ذلك أن الصفة التي هي التعظيم لا بد أن توازي قدراً من المنافع محصوراً، فإذا صممنا منافع الأصل إلى منافع التعظيم جاز على مقتضى قوله الأول أن يكون التفضل أكثر قدراً من الجميع، فيؤدي إلى حسن الابتداء بمثل منافع الثواب، فيؤدي إلى قبح التكليف.
مثال المسالة قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ولا شك أن الواحد ثواب والتسمية الثانية تفضل، فلا بد أن يكون منافع الجزء الواحد أكثر من منافع التفضل بالغة ما بلغت وإلا لزم ما تقدم.
فصل
والذي يدل على أن العاصي يستحق العقاب هو أن الله تعالى جعل الفعل شاقاً علينا بأن خلق فينا شهوة القبح ونفرة الحسن، ولولم يكن هناك ضرر يستحقه بالإقدام على القبيح والإخلال بالواجب ويكون العلم بذلك الاستحقاق زاجراً لنا لكنَّا في حكم المغرين بالمعصية، ويصار كأنه قال لنا: اعصوا ولا ضرر عليكم في ذلك.
وبعد، فقد أوجب علينا الطاعة، فلولا أنا نتخلص بها من ضرر عظيم لما حسن هذا الإيجاب.
قلنا: إذ لا يحسن الإيجاب لمجرد جلب النفع.
فإن قالوا: هلا كفى مجرد الوجوب في حسن الإيجاب؟
قلنا: لا يكفي؛ لأن في الأفعال ما يجب ولا يحسن إيجابه كمن خوفه السلطان بضرر عظيم إن لم يشاطره على ماله، فإنه يجب عليه المشاطرة، وغن كان لا يحسن من السلطان هذا ما ذكره الشيوخ.
ولقائل أن يقول: لا معنى لكون الله أوجب، إلا أنه عرّف بالوجوب، وهذا يكفي فيه وجوب الفعل ولا حرم يحسن من الله ومن غيره أن يعرفه بوجوب مشاطرة السلطان، وليس السلطان بموجب للمشاطرة فضلاً عن أن يحسن منه الإيجاب أو يقبح، وإنما فعل /355/ بسبب الوجوب، فالمعتمد ما تقدم.
فإن قال: هلا كفى استحقاق الذم أو حصول الغم في الزجر عن المعاصي.
قيل: إذا تجرد الذم عن الضرر لم يحتفل به العصاه وأثروا الإقبال على الملاذ.
وأما الغم فالمرجع به إلى اعتقاد الضرر أو ظنه، فلا يصح أن يجعل في مقابلة المعصية.
فإن قال: إنما يحسن إنزال الضرر لأجل التشفي أو لنفع المعاقب أو المعاقب، والأولان مستحيلان على الله تعالى، والثالث مفقود.
قيل له: بل يحسن أيضاً للاستحقاق، ثم يقلب السؤال في استحقاق الذم.
على أن تشفي الغيظ لا ينهض وجهاً في حسن إنزال الضرر، وكذلك يقع المنزل، وغنما يكون ذلك تبعاً في حق من يصح عليه التشفي والنفع.
تنبيه
ولا بد أن يكون العقاب دائماً؛ لأنه نظير الذم؛ ولأنه لو كان منقطعاً لسهل على كثير من الناس احتماله إيثاراً للذة العاجلة، ولا شك أنهم مع العلم بدوامه أبعد عن المعصية.
ولمثل ذلك يجب أن يبلغ مبلغاً عظيماً نكون مع العلم به أبعد عن المعصية، وأما كميَّة فطريقه السمع، وكذلك لا بد أن يقارنه الاستحقاق ليفارق الامتحانات، ولا بد أيضاً أن يكون خالصاً عن كل روح وراحة لمثل لما تقدم.؛ ولأنه تعالى عرض بالتكليف لغاية المنافع، فلا بد أن يتضمن التحذير من غاية المضار.
تنبهيه آخر
والعقاب يستحق على الكبيثرة والصغيرة، لكن كثرة الثواب والتوبة يمنعان من إيصال عاقب الصغيرة إلى مستحقه، وقال قوم: لا يستحق على الصغيرة.
لنا: أن جهة استحقاقه هو الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم والإخلال بالواجب، كذلك لا يفترق في ذلك الصغير والكبير.
فصل
واستحقاق الثواب والعقاب هو من حال الطاعة والمعصية على معنى أن للمكلف الحكيم أن يوصله غليه من حيئنذٍ، إلا لمانع يقتضي تأخره إلى آخره.
واختلف القائلون بالموافاة، فقال بعضهم: لا يستحقها حتى يوافي بالطاعة والمعصية يوم القيامة.
وقال بعضهم: حتى يوافي بها الموت.
قوال بعضهم: بل من فعل الطاعة والمعصية لكن شرط من حاله سلامة ما فعل مما يسقطه، وغلا انحبط الاستحقاق رأساً.
وفائدة الخلاف في هل يوفر إليه ما كان يستحقه في الأوقات الماضية إلى حال دخول الجنة والنار أم لا.
لنا: أن جهة الاستحقاق هو فعل الطاعة والمعصية، فيجب أن يثبت الاستحقاق ثاني حال ثبوت جهته كالمدح والذم.
فصل
والذي امتنع لأجله إيصال ذلك في الدنيا وجوه.
منها أنه يعود على التكليف بالبعض من حيث يصير المكلف في حكم الملجأ إلى الطاعة لتعجيل المنافع ودفع المضار.
فإن قال: هلا أوصل الله ذلك من حيث لا يعلم، فلا يكون ملجأ.
قيل له: لا بد أن يعلم المكلف في ما وصل إليه أنه ثواب أو عقاب لأمر يرجع إلى الحكمة، ولا بد من مقاربة التعظيم والاستحقاق أو العلم بأن الحكيم قصد ذلك.
ومنها أنه لا بد أن يخلص الثواب عن كل شائب، والعقاب عن كل راحة، وذلك لا يحصل في الدنيا.
ومنها أنه لا بد من اللطف مع ثبوت التكليف، ولا شك أن مع التأخير يكون أقرب إلى أن يفعل الطاعة؛ لأنها طاعة لا لطلب النفع وبترك المعصية؛ لأنها معصية لا لدفع الضرر، وهذا هو الوجه في جنس الإفناء، فلأجل هذه الوجوه تأخر إيصال المستحق.
نعم، قد يجوز إيصال بعض العقاب في الدنيا كالحدود ونحوها لصلاح يعلمه الله، ومثل هذا القدر لا يبلغ به المكلف حد الإلجاء.
فصل
يحرر من جهة العقل سقوط الاستحقاق مع ثبوت سببه المؤثر فيه؛ لأن تأثيره ليس كتأثير العلل التي لا يجوز انفكاكها عن معلولاتها، وإنما طريقة ما يحسن من الأفعال أو يقبح من حيث أن الاستحقاق هو حسن أمر أو وجوهب لأجل أمر متقدم على وجهٍ لولاه لما حسن أو لما وجب، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يرد على ذلك الاستحقاق ما يزيله مع قيام سببه كالإساءة فإنها تزيل استحقاق الشكر على الإحسان مع ثبوت الإحسان، وكذلك الاعتذار يزيل الذم على الإساءة مع ثبوتها، وكذلك فإن الحقوق قد تسقط بالإبراء وبمقابلة حقوق آخر ونحو ذلك.
فصل
به يسقط استحقاق الثواب سببان:
أحدهما: الندم على فعل الطاعة؛ لأنها طاعة، فإنه يصير بذلك في حكم من لم يفعلها كالندم إلى الإحسان إلى الغير.
الثاني: أن يفعل معصية يريد عقابها على ثوابه أو يساويه عند من يخير المساواة ويصير كمن يسيء إلى غيره إساءة يزيد على إحسانه أو يساويه.
ولا يجوز إسقاطه بإسقاط الله تعالى، كما جاز في العقاب؛ لأن العقاب حق لله، فجاز منه إسقاطه، وكذلك لا يجوز إسقاطه بإسقاط العبد المستحق له؛ لأنه ليس إليه استيفاؤه حتى يكون إليه إسقاطه، بل هو في حكم المولى عليه.
وأيضاً فهو لا يعلم مقداره ولا كيفيَّة الانتفاع به، وأيضاً فهو بالغ في الكثرة مبلغاً لو علمه لكان في حكم الملجأ إلى أن لا يسقطه، فإن أسقطه كأن في حكم المحجور عليه.
على أن إسقاطه له يكون عبثاً لا عرض فيه من حيث يفوت على نفسه نفعاً عظيماً، وليس يجلب بذلك إلى الله تعالى نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً.
فصل
وبهذين السببين يسقط العقاب إلا أنه لا بد مع الندم على المعصية من قيد زائد وهو العزم بحسب ما يأتي تفصيله ويسقط بسبب ثالث، وهو إسقاط الله له خلافاً للبغداديين، فإنهم قالوا: لا يحسن في العقل من الله إسقاط العقاب.
لنا: أنه حق لله تعالى على الخصوص وهو عالم بكميَّته وإليه استيفاؤه، فجاز إسقاطه كالدين لا كالذم، فإنه ليس يحق لله تعالى على الخصوص، بل هو أيضاً حق للمذموم، فلا يصح سقوطه غلا على جهة البيع لسقوط العقاب.
وبعد، ففي إسقاط العقاب دفع ضرر عن الغير، وذلك في الحسن يجري مجرى الإحسان إلى ذلك الغير، وليس فيه وجه /357/ قبح فيجب جوازه.
شبهتهم أن تجويز المكلف للعفو يغير حاله في الخوف ويكون في حكم المغري على المعصية.
والجواب: إن ظن بزوال العقاب المستحق يكفي في التخويف والزجر، وكما لا يقدح في ذلك تجويز سقوطه بالتوبة، كذلك لا يقدح فيه تجويز سقوطه بالعفو.
والوجه في الموضعين أنه لا يقطع بحصول التوبة ولا العفو، فالحق باق، وليس من حق الزجر أن يكون على أبلغ الوجوه وإلا وجب أن لا يسقط بالتوبة.
قالوا: إن تجويز العفو عن المعاصي يقتضي سقوط الذم عنه.
قيل لهم: لو تركنا والعقل لما ذممناه على القطع، بل كان ذمنا له مشروطاً بأن لا يقع العفو، كما أنه مشروط بأن لا يتوب، لكن ورد السمع بذمه على القطع، إلا أن يتوب.
على أن لا يذمه في الحالين لأجل نزول العقاب، بل للإستحقاق والاستخفاف ثابت مع تجويز العفو.
فصول في الإحباط والتكفير
الإحباط: هو خروج المدح والثواب المستحقين عن كونهما مستحقين لأجل التوبة أو كثرة الطاعات والتكفير هو خروج الذم والعقاب المستحقين عن كونهما مستحقين لأجل التوبة أو كثرة الطاعات.
فصل
ومتى جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي فلا شبهة في تعذر إبطال الثواب والعقاب إليه خلافاً لما تقوله بعض المرجئة من أنه لا بد أن يصل إليه الثواب والعقاب وأنه لا معنى للإحباط والتكفير.
لنا: ما تقدم من أن الثواب يستحق على جهة الإجلال والعقاب يستحق على جهة الاستحقاق، وبين الإجلال والاستحقاق تنافٍ، وما تقدم من أنه لا بد أن يخلص الثواب عن كل شائب، والعقاب عن كل راجه، ومن أنهما يستحقان على جهة الدوام، وكل ذلك يمنع من إيصالهما، وإذا منع من وقوعهما معاً منع أيضاً من استحقاقهما؛ لأن الاستحقاق يتبع صحة الوقوع، وبهذا يفارق الثواب العوض، فإن العقاب لا يسقطه لصحة الجمع بينهما خلافاً لما يقوله أبو علي من أنه يسقط العوض أيضاً.
شبهتهم قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} الآية قالوا: فلا بد أن يصل إليه الخير والشر وإلا كان كذباً.
والجواب: أن ظاهرها متروك لاقتضائه أن يثاب الكافر وأن يعاقب المؤمن ولاقتضائه أن يرى الأعمال بالعين وهي أعراض لا يصح عليها الإعادة فضلاً عن الرؤية.
وبعد، فرؤية الخير والشر مشروطة بأن لا يعارضه ما يسقطه.
وبعد، فصاحب الجنة يرى معاصيته مغفورة له فيزداد سروراً، وصاحب النار يرى طاعته محبطة فيزداد غماً.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها، وذلك عام في كل حسنة، وذلك يقتضي وصول ما هو خير منها، وفي إسقاطه الكذب.
والجواب: أنه يلزم ما تقدم من وصول الثواب إلى الكفار.
وبعد، فهب أنه عام، فهو مخصص بآيات الوعيد التي تقتضي خلود الكفار والفساق /358/ فيجب أن يكون المعنى من جاء بالحسنة خالصة.
يوضحه قوله تعالى: {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} ومتى وجب أن يصل إليه عقاب مع الثواب لم يكن آمناً.