ومنها قوله: {هذا يوم لا ينطقون} نقضه بقوله: {ثم أنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} وقوله: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}.
والجواب: يجوز أن يكون المواقف متغايرة، ينطقون في بعضها دون بعض ويجوز أن يكون المراد بقوله لا ينطقون، أي لا حجة لهم ولا عذر، فأخبر عن ذلك بنفي الكلام راساً؛ لأنه لما كان الاعتذار بالنطق اقام فقد العذر مقام فقد النطق كما يقال: ليس فلان بعد هذه الحجة كلام، أي ليس يجد ما يقابلها، ويقال: فلان لا يستطيع في هذه الحادثة كلام، أي ليس له حجة، قال الشاعر:
فَلَوْ أنَّ قَوْمِي أنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ .... نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أجَرَّتِ
أي لا خيرت بمدحهم وحالهم.
ومنها قوله: {فهم لا يتساءلون} نقضه بقوله: {واقبل بعضهم على بعض يتساءلون}.
والجواب: يجوز أن تختلف المواقف ويجوز أن يكون المراد فهم لا يتساءلون عما أجابوا به الرسل، أي لم يجتنبوا الرسل فيسألوا عنه كما يدل عليه سياق الكلام قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي عن أفعالهم وليس إذا لم يتساءلوا عن شيء يجب أن لا يتساءلوا عن غيرهم.
ومنها قوله: {ولن يتمنوه أبداً}/347/ نقضه بقوله: {ليقض علينا ربك}.
والجواب: المراد لن يتمنوا الرجوع إلى الآخرة، وإنما عنه بالموت لأنه لا بد منه.
يوضحه سياق الآية في قوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة إلى قوله: {فتمنوا الموت} أي فتمنوا الرجوع إلى الدار الآخرة، فيكون قولهم: ليقض علينا ربك هرباً من دار الآخرة، فيكون مؤكداً للآية لا ناقضاً لها.
على أن قوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه} يدل على أن الموت الذي لا تتمنونه أبداً هو موت الدنيا؛ لأنه عقبة بقوله: {ثم تردون إلى عالم الغيب..} الآية.
ومنها قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} نقضه بقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، فبين أنه خلقهم للخلاف.
والجواب: الإشارة في قوله: {لذلك} عائدة إلى قوله: {إلا من رحم} أي وللرحمة خلقهم؛ لأنه أقرب المذكورين، ولا يصح أيضاً رجوعها إلى قله مختلفين؛ لأنه جمع ولفظ ذلك مفرد.
فصل
وأما الكلام على من يدعي الطعن من جهة التكرار فهم يدعون التكرار من جهة القصص ومن جهة غيرها.
أما ما كان من جهة القصص ففيه فوائد كثيرة.
منها: أن الله أنزل قصص من تقدم تسلية للنبي ص وأصحابه رضي الله عنهم وإخبارا لهم بما كان الأنبياء يكابدون من الكفرة من الرد والتكذيب والقتل ونحو ذلك، فلم يمنعهم ذلك من المضي على الحق فينزل عليهم في كل حال ما يسليهم به، ولا يكون ذلك معيباً عند الفصحاء، ألا ترى أن الشاعر يكرر مفاخره في شعره وكلامه ويكرر المدح والهجاء، وكذلك هل الوعظ والكتاب يكررون المعنى في عبارات مختلفة.
ومنها: أنه يرد في كل قصة فائدة مستجدة وعبارة بديعة تضمن غير ما تضمنته العبارة الاولى.
ومنها: أن الله تعالى لما تحدى العرب بالإتيان بمثله جاز أن يتوهم متوهم أو يظن أن اللفظ المتحدى بمثله مقدورة وغيره ليس بقمدور، بل هو مستحيل، فلا يعقل التحدي؛ لأن التحدي إنما يصح بما هو مقدور في نفسه، ألا ترى أنه لا يمكن التحدي بالجمع بين الضدين، فالله تعالى كرر القصص بألفاظ أخر ونظم غير الأول ليعرف أن الإتيان بمثله غير مستحيل، وإنما العجز راجع إلى المتحدَّين فقط.
وأما التكرار بإعادة اللفظ بعينه نحو {كلا سوف يعلمون} فذلك يأتي على وجوه، منها: أن يرد بلفظ الأول فيكون اتساعاً وتأكيداً، وتفخيماً للشأن، وقد جرت عادة العرب بذلك ولا يعيب ذلك إلا جاهل باللغة.
ومنها: أن يكون المعنى بغير لفظ الأول نحو : آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر، فالمعنى واحد، واللفظ مختلف، وهذا النوع مستحسن عند أهل الفصاحة يستعملونه ليهر بلاغة اللفظ، فإن البلاغة لا تظهر في اللفظ الواحد /348/ وإنما تظهر ببسط الكلام وتحسينه.
ومنها: أن يذكر نعماً وأسباباً ويكرر اللفظ عند ذكر كل واحد منها نحو قولك لمن أنعمت عليه، ألم أفعل لك كذا، أليس ذلك نعمة ونحو ذلك.
ومن هذا القيل قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} عند ذكر كل نعمة تأكيداً لنعم على الثقلين وبياناً لكونه لا يمكن إنكار شيء منها، ولا التكذيب.
ومنه أيضاً ما يرد على منوال الزجر نحو {ويل يومئذٍ للمكذبين} أو يرد مورد الاحتجاج نحو إله مع الله.
وبالجملة فلو وجدت العرب في ذلك طعناً لطعنوا به، فقد كانوا أعرف بالفصاحة.
فصل
وأما الكلام على الطاعنين بالكذب فيه والفساد فقد تعلقوا بآيات منها قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قالوا: وهذا كذب؛ لأنه ليس كل الناس مسلماً.
والجواب: الإسلام اللغوي الذي هو الانقياد والخضوع يوضحه قوله طوعاً وكرهاًن والإلسام الشرعي لا يكون كرهاً.
ومنها قوله: {وكذلك زينا لكل أمة عملهم} أخبر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، فكيف يفعل الحكيم كفعل الشيطان؟
والجواب: المراد عملهم الذي أمرهم به زينه لهم بالوعد والتغريب كما قال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم.. الآية}.
ومنها قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قالوا: ومعلوم أن الجاحدين والجمادات لا يسبحون بحمده والبهائم.
والجواب: أن التسبيح يستعمل في تبعيد ما لا ينبغي والتنزيه عنه كما قال امرء القيس: (سبحان من علقمة الفاجري) أي بعداً وتنزيهاً، والمعنى أنه لا شيء إلا يسبح لأجله.
وقريب من هذا الجواب عن قوله: {ولله يسجد من في السموات..} الآية، أي يخضع ولا يمتنع عما يفعل الله فيه كما قال الشاعر:
بجمعٍ تَضِلَّ البُلق في حجراته .... ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي لا يمتنع الأكمام من سلوكها عليها.
ومنها قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} وقال: {وأملي لهم إن كيدي متين} وقال: {وهو خادعهم} وقال: {الله يستهزئ بهم} وقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، قالوا: فكيف يجوز من الحكيم أن يفعل هذه القبائح التي هي المكر والخديعة ونحوها؟
الجواب: أن هذا مجاز من باب تسمية الشيء باسم ما يقابله، كما قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} وكما قال: {نسوا الله فنسيهم} وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى الجزاء على الجهل جهلاً، وقال آخر:
فإن الذي أصبحتم تحلبونها .... دم غير ان اللون ليس بأشقرا
فسمى اللبن دماً لما كان جزاء /349/ على الدم أي من إبل الدية.
ومنها قوله تعالى: {والتين والزيتون} ونحو ذلك، قالوا: فأقسم الله بالأشياء الخسيسة.
والجواب: أن القسم قد يكون لتحقيق الأمر المخلوف عليه، وقد يكون لتعظيم المخلوف به، وكلا القسمين داخل في كلام الله تعالى، وليس شيء من خلق الله تخسيس.
ومنها قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} قالوا: فظاهرها أنه أسجد الملائكة لآدم بعد خلقنا وهو كذب.
والجواب: أن المراد بقوله تعالى: {خلقناكم} آدم عليه السلام، ومن عادة العرب إضافة أحوال الآباء إلى الأولاد، فيقال: أنتم فعلتم، أي آباؤكم كما يقال لمتأخري بني العباس أنتم قتلتم أهل البيت، أي آباؤكم وأشعارهم وافتخارهم مشحون بهذا، يقول قائلهم: فعلنا، أي آباؤنا.
وقد قيل: إن تم ما هنا بمعنى الواو ومثلها في قوله{: ثم الله شهيد} والواو لا يقتضي الترتيب.
ومنها أن الله جعل القرآن بعضه محكماً وبعضه متشابهاً، قالوا: وكان اللائق بالحكمة أن يجعل الكل محكماً.
والجواب: أنه تعالى جعله كذلك لوجوه: أحدها أن يكون التكليف أشق، فيكون الثواب عليه أكثر.
وثانيها: أن يكون ذلك حثاً على النظر وصارفاً عن التقليد من حيث لو جعل الكل محكماً لاكتفى الناس بظاهره فتركوا أصول التوحيد والعدل والنظر فيها.
وثالثهاك أنه تعالى أراد أن يفعله في أعلى درجات الفصاحة، ولا يتم ذلك إلا بأن يسلك فيه طريقة العرب من التجوز والاستعارة والتشبيه والكناية ليكون أدخل في الإعجاز والملاحة؛ لأنه يكون بالاشتباه يحتمل أكثر من معنى واحد، وذلك لا محالة مما يريد اللفظ حسناً.
ورابعها: أن يمتحن به عباده في باب الاعتقاد وسائر التكاليف ليتميز المخلص من المرتاب والمحقق ممن في قلبه زيغ.
القول في سائر معجزاته عليه السلام
هي أكثر من أن تحصى، وقد روى الحاكم أنه لألف معجزة.
واعلم أن أكثرها متواتر ضروري لمن عرف السير وفحص عن الأخبار، فلا يقدح في ذلك كون غير أهل السير لا يعرفونها ضرورة، ونحن نذكر من معجزاته على جهة الإجمال والإشارة.
فمنها ما يتعلق بكثرة الطعام القليل لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا بني هاشم على فخذ شاه وعس من لبن وهم أربعون رجلاً فأشبعهم وأرواهم وقاموا وهو بحاله فعل ذلك ثلاثة أيام.
ودعا أهل الخندق على عناق ذبحها جابر بن عبد الله وصاغ من شعير فصدروا وهو بحاله.
وجمع الناس مرة على أقل من صاع من التمر فصدروا والثوب يفيض من أطرافه.
ومنها ما يتعلق بكثرة الماء القليل، شكى الناس إله العطش في غزوة تبوك فاستدعى عليه السلام بميضائه ووضع يده فيها فنبع الماء من بين أصابه، فكانت تفيض حتى ارتوى الجنيش ودوابهم وحملوا الماء.
ومن سواء في هذه الغزاة على ماء قليل يكفي الراكب والراكبين وقد عطشوا فأمر عليه السلام أن لا يمسه أحد حتى يصله، فلما وصله /350/ أخذ منه قليلاً وتمضمض به ومجَّه فيه، فانبعث يجري فارتوى الناس وصارت عيناً تجري.
ونضب ما البئر يوم الحديبية فأمر عليه السلام البراء بن عازب بسهم فقال: اغرزه فيه وقل: بسم الله ففعل ففار الماء حتى غرقوا من رأسها بأيديهم، وجاءه قوم من العرب فشكوا غليه قلة ماء بئرهم وملوحتها، فجاءها فمج فيها ففار ماؤها عذباً زلالاً، فأراد مسيلمة مثل ذلك فعكس الله مراده.
ومنها ما يتعلق بالإخبار عن الغيوب كإخباره بأن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وأن عماراً تقتله الفئة الباغية، وأن آخر زاده ضياخ من لبن، وأن أمته تملك كنوز كسرى وقيصر.
وكإخباره بقتل الحسين وموضع قتله، وأن علياً ستخضب لحيته م رأسه، وإخباره بوفاة النجاشي في يوم توفي، وكذلك قتل جعفر يوم مؤتة في يوم قتله حتى كان يقول: قتل فلان قتل فلان ثم يسكت قليلاً يم يقول: قتل فلان.
وإخباره بقتل شيرويه لأبيه كسرى، فقال: قتل هذه الليلة، وقد مضى من الليل كذا.
وإخباره بأن عتبة بن أبي لهب يأكله الأسد ونحو ذلك كثير.
ومنها تسبي الحصى في يده، وتكلم العضو المسموم له، وكذلك الجمل والطيبة والضب والذئب والشاة وأشباه ذلك كثير.
ومنها أنه كان إذا دعا الشجرة أقبلت تحد الأرض ثم يأمرها فتعود مكانها.
ومنها قصة الحناية وقصة الصحيفة وقصة الأسرى وقصة الغار وقصة خيمة أم معبد وقصة دار الندوة وخروجه من مكة وقصة سراقة بن جعشم حيث أراد لحوقهم فساخت قوائم فرسه حتى تضرع إلى النبي عليه السلام في خلاصها.
ومنها أنه عليه السلام كان يقع تحت الشجرة فتورق ويدعو للمريض فيتعافى.
ومنها إنشقاق القمر كما حكى الله في كتابه، وهو وغن كان ينبغي أن يكون ظاهراً فهو لا يمتنع خفاؤه على كثير من الناس بأن يكون ساعة هدوءٍ من الليل وساعة غفلة، فليس كل الناس تديم النظر إلى القمر وأبلغ من هذا أن القمر قد تكسف وتنطمس، ولا يعلم ذلك كثير من الناس.
ومنها قصة الأحزاب ونزول الريح عليهم ونصرة الملائكة ورميه بالتراب في وجوه الأعداء وإظلال السحاب إياه ونحو ذلك مما يطول استقصاؤه والإشارة إليه.
القول في أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى الكل وأن شريعته دائمة إلى انقطاع التكليف
وذلك معلوم ضرورة من دينه عليه السلام، وقد قال تعالى: {إني رسول الله إليكم جميعاً}، وقال: و{وما أرسلناك غلا كافةً للناس} وقال عليه السلام: ((أرسلت إلى الأحمر والأسود)).
وأما كونه مرسلاً إلى الجن فهو أيضاً ظاهر من دينه لعيه السلام، وإن لم يبلغ حد الضرورة، وقد ثبت التحدي في حقهم، وقد قال: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} إلى قوله: {منذرينْ}.
فأما يأجوج وماجوج فمن الجائز أن لا يكونوا مكلفين رأساً ومن الجائز كونهم مكلفين بالعقليات فقط، وجائز أن يكونوا مكلفين بالشرعيَّات، ويكون قد أتاح لهم /351/ من يبلغهم ما تقوم به الحجة عليهم، وجائز أن لا تكون الشرعيات مصلحة في حقهم إلا بشرط أن يبلغهم كما في صدر الإسلام، فيجوز أن يبلغ وأن لا يبلغ، وعلى هذا جوز أصحابنا أن يكون في الناس وفي البلاد من لا يبلغه دعوة النبي عليه السلام، فلا يكون مكلفاً بشرعة لفقد شرطه.
وعلى مثل هذا يحمل قوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} فأما ما ورد في الخبر من نزل المسيح عليه السلام فيجوز أن يكون ذلك وقت انقطاع التكليف ويجوز أن يكون متعبداً بشريعة محمد عليه السلام حينئذٍ، ويجوز أن يكون متعبداً بشريعته هو فقط، لجواز اختلاف المصالح، وعلى كل حال فلا يجوز أن يكون بعد محمد عليه السلام نبي.
الكلام في الوعد والوعيد
الوعد هو الخبر عن إيصال النفع أو دفع ضرراً في المستقبل من المخبر إلى المخبر، والوعيد: عكسه.
والوعيد: هو كل قول يصح أن يقال لقائله صدقت أو كذبت، ولا يلزم الدور؛ لأن حددنا الخبر بصحة قولهم صدقت أو كذبت ولا يلزم الدور؛ لأنا حددنا الخبر بصحة قولهم صدقت أو كذبت لا ينفس الصدق والكذب، ولا شك ن صحة إطلاق العبادة لا تقف على تصور مفهومها.
فصل
وللوعد والوعيد جنبتان عقلية وسمعية، والعقلية تشتمل على بيان ما يستحق على الأفعال وصفة ما تستحق وشرائط الاستحقاق وما يزيل الاستحقاق وما يحسن إسقاطه وما يجب وكيفيّة الإسقاط، والسمعية تشتمل على بيان ما يفعله الله قبل إيصال الثواب والعقاب من الفناء والإعادة وأحوال القبر وأحوال القيامة والصراط والميزان والحساب ونحو ذلك، وبيان أن الله يفعل في الكفار والفساق ما يستحقونه وما يتصل بذلك من أسماء المكلفين وأحكامهم وبيان ما كلفناه في ذلك والإكفار والتسيق ونحو ذلك.