قلنا: أما الجن فلا نسلم قدرتهم على مثله؛ لأن التحدي شامل لهم، وأما الملائكة فنحن وإن جوزنا قدرتهم على مثله، فذلك لا يقدح في كونه ناقضاً لعادة المتحدين؛ لأن المعتبر في المعجز كونه ناقضاً لعادة من ظهر عليهم والملائكة غير مكلفين بهذه الشريعة ولا نبياً، ولهم التحدي، فلا يعتبر عادتهم، ألا ترى أن حمل الجبال وقلب المدن لا يخرج عن كونه معجزاً وإن قدر الملائكة على مثله.
وأيضاً فكيف يقف العلم بكونه معجزاً على العلم بعجز الملائكة مع أن الملائكة إنما يعلم ثبوتهم بالسمع، فكان يلزم الدور.
فإن قال: هب أن العرب عرفت عجزها من القرآن، وأنه ناقض للعادة، فما بال العجم كلفوا معرفة نبوة محمد عليه السلام وهم لا يعلمون ذلك من حال القرآن.
قيل له: علم العجم بأن العرب عجزت عنه، وأنه ناقض لعادتهم مع أنهم أرباب الفصاحة يكفي في العلم بكونها ناقضاً لعادة العجم أولى وأخرى /341/ كما أن نبياً لو جعل معجزته ثقل الجبال وعجز عن نقلها أرباب القوة والشدة من أهل زمانه، علمنا أن أهل الضعف بالعجز أحق.

فصل [في وجه إعجاز القرآن]
ذهب الجمهور إلى أن وجه إعجازه الفصاحة، فإنه بلغ فيها مبلغاً لم يعط أحد ما يتمكن معه من الإتيان بمثله حتى عجزت العرب عن معارضته، وهم الذين يضرب بهم المثل في الفصاحة والبلاغة.
واعلم أن الفصاحة تكون في مفرد الألفاظ ومركبها ويوصف بها الكلام والمتكلم، والبلاغة كالفصاحة، إلا أنها لا تستعمل في مفرد الألفاظ، فلا يقال: كلمة بليغة، ويقال: فصيحة، فالفصاحة في اللفظ المفرد خلوصه من بناء والحروف والغرابة ومخالفة القياس، وفي اللفظ المركب خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع مطابقة المقام المقتضي لإيراد الكلام، فإن المقامات مختلفة، فمقام التعريف يباين مقام التنكير، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام الإظهار يباين مقام الإضمار، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب.

وبالجملة، فلكل مقام ومقال، ولا بد في الكلام الفصيح من جزالة اللفظ أو حسن المعنى، فإن اختل أحدها بأن يكون اللفظ ركيكاً، والمعنى حسناً أو يكون اللفظ جزلاً، والمعنى سحيقاً لم يكن الكلام فصيحاً.
فإن قال: كيف يتفاضل الناس في الفصاحة مع علمهم باللغة.
قيل له: بأن يأتي الفصيح بالمعنى المراد في لفظ وخبر سلس سهل، ويأتي به الآخر على خلاف ذلك، أو بأن يكون فيه تقديم وتأخير يكون معه أفصح أو زيادة أو نقص بحسب المقام ويتفاضلون في العلم بذلك وكيفيَّة إيراده.
وعلى الجملة فتفاضل الناس في الفصاحة مع علمهم باللغة كتفاضلهم في حسن الخط، مع علمهم بالقلم العربي والحاصل أن العلم بكيفية إيراد الكلام على وجه يكون معه فصيحاً علم ضروري فبتفاضل الناس فيه، ولهذا يتأتى لبعضهم نظم الشعر دون بعض، وكذلك الخطب والرسائل وسائر أنواع الفصاحة والبديع.
فإن قال: فما وجه الحكمة في أن جعل الله وجه الإعجاز الفصاحة التي يتعاطاها العرب، وكذلك جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطاه أهل زمانه حتى جعل معجزة عيسى عليه السلام من جنس الطب ومعجزة موسى من جنس السحر.

قيل له: وجه الحكمة في ذلك أنه إذا أتى بما يخرق عادتهم في ما يتعاطونه ويدعون الصناعة فيه علموا عجزهم عنه، ولم يكن لأحد أن يقول: لو كنت من أهل هذه الصناعة لأثبت بمثل ما أتى به.
وقد ذهبت النظام وغيره إلى أن وجه الإعجاز الصرفة، بمعنى /342/ أن الله صرف العرب عن المعارضة، وهم إن أرادوا أن الله صرفهم عن العلم الذي معه يبلغ الكلام هذه الدرجة في الفصاحة، أي لم يؤتوا هذا العلم فصحيح وإن أرادوا أنهم منعوا من الكلام الفصيح والعلم بكيفية ترتيبه مع قدرتهم على ذلك فباطل؛ لأن المعلوم أنهم لم يمنعوا عن الكلام الفصيح، بل كان يصدر منهم حال النبوة وبعدها، وإن أرادوا أنهم سُلبوا الدواعي الداعية إلى المعارضة مع قدرتهم عليها فهي أظهر فساداً؛ لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك.
وغن أرادوا أنهم منعوا من المعارض مع قدرتهم عليها وحصول العلم الذي يحتاج إليه فباطل أيضاً؛ لأن ذلك يخرج القرآن عن كونه هو المعجز، والإجماع على خلافه.
وعلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بمثل القرآن وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله، وذلك لا يتم إلا إذا لم يكونوا قادرين عليه.
وبعد، فكان يجب أن يجدوا من أنفسهم كونهم ممنوعين عن ذلك مع قدرتهم عليه، وإن تفرقوا بين حالهم قبل نزول القرآن وبعده.
وبعد، فكان يجب أن يوجد في كلامهم الصادر قبل نزول القرآن ما يسويه في الفصاحة أو يدانيه؛ لأن الصرفة إنما كانت حال نزول القرآن.
وقد ذهب قوم إلى أن وجه إعجازه الأسلوب أي له أسلوب يخالف أساليب الكلام لا سيما المنثور والخطب والرسائل.
واعترض بأن أكثر أسلوبه يخالف أساليب الكلام، لا سيما المنثور والخطب والرسائل، ولهذا إذا أدرجت الآية في خطبة أو سجع أو كلام كادت تشينه به في أسلوبها وقافيتها، وكذلك فيه ما يصلح أن يدخل في الشعر كقوله:
ويخزهم وينصركم عليهم .... ويشف صدور قوم مؤمنينا
ونحو ذلك كثير.

وبعد، فلو اختص بأسلوب لكان التحدث بذلك لا يقع لعدم اعتيادهم له، فلا يكون ناقضاً لعادتهم.
وقال قوم: وجه أعجازه الإخبار عن العيوب.
واعترض بأن ذلك لا يشمل القرآن والتحدي واقع بكل القرآن، ولهذا قال: {فأتوا بسورة من مثله} ولم يفصل بين ما فيه إخبار عن الغيوب، وغيره، بل قال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
على أن كثيراً مما أنزل الله من الكتب المتقدمة فيه الأخبار عن العيوب، وليس بمعجز.
وبهذا يبطل قول من جعل وجه الإعجاز السلامة عن التناقض والاحتلال، فإن الله إنما تحداهم بما يساويه في الفصاحة فقط، فثبت أن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة، وإن صح أن يكون في هذه الأمور المذكورة وجهاً في الإعجاز آخر، لكن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة، وما عداها تبع، وكذلك كونه عليه السلام أتى بالقرآن وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب مطابقاً لصحيح اللغة وفصيحها، وللقص الصحيحة البعيدة العهد ومطابقاً للعقول في أكثر أحكامه حتى صار يرجع إليه في أكثر أدلة العقل وما يتعلق بالنحو واللغة وسائر الأحكام، وكذلك كون شرعه عليه السلام مؤبَّداً لا يزداد إلا قوة وعلواً، فإن كل هذه لا تستقبل وجهاً في الغعجاز، ولكنها مؤكدة له.
وقد ذهب /343/ قوم إلى أن وجه إعجازه كونه لا يُمل بالتكرار، ولا يزداد إلا حسناً ولذَّة، وهذا أيضاً لا يستقيم وجهاً في الإعجاز، وغنما هو مؤكد له؛ لأن للخصم أن يقولك إنما لذَّ لكم ولم تملوه على التكرار لاعتقادكم صحته والإيمان به وحصول الثواب عليه.
فإن قيل: كيف يكون القرآن معجزاً وقد وقع هذا الاختلاف الكثير في وجه إعجازه؟
قلنا: أنهم إذا اتفقوا على الحكم وهو الإعجاز لم يضر اختلافهم في علته، بل لا يضر الحهل بعلته رأساً، لا سيما وهو حكم يعلمونه من أنفسهم، أعني عجزهم عنه.
وبالجملة فكل حكم يعلم فلا يضر الجهل بعلته.

القول في أن القرآن الكريم محروس عن المطاعن
اعلم أن الطاعنين في القرآن فرق كثيرة، فرقة تزعم أن فيه تبديلاً وتغييراً وزيادة ونقصاً، وفرقة تدعي فيه اللحن والخطأ من جهة الإعراب، وفرقة تدعي التناقض والاختلاف، وفرقة تدعي التكرار الذي لا يفيد. وفرقة تدعي فيه الكذب.
أما الكلام على القائلين بالتبديل والتغيير فهو مدفوع بالضرورة، فإن القرآن متواتر جملته وتفصيله، والمدعي للتغيير فيه كالمدعي لكون مكة غير هذه البلدة المعروفة أو أنها قرى كثيرة.
وبعد، فالمعلوم أنه لم يخل زمان من حفظه يتنقلون القرآن في صدورهم لا يخفى عليهم زيادة حركة أو نقصانها أو تبديلها فضلاً عن غيرها، وقد قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وأشباها.
فصل
وأما الكلام على المدعين للحن والخطأ فيه فهو أن نقول: أن الله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، فكيف يجوز عليه الخطأ، وأما رسوله عليه السلام فهو رأس أهل اللغة والفصاحة، ولم يوضع اللغة على النحو، وإنما وضع النحو على اللغة، فإذا جاء شيء عن أهل اللغة فالنحو له تبع، ولهذا قال الفرزدق للذي اعترض عليه في قوله:
وغض زمانٍ بابن مروان لم يدع .... من المال إلا مسحتاً أو مخلف
عليَّ أن أقول وعليكم أن تحتجوا، وقال بعض العرب لمن اعترض عليه في بيت هذا: سمحت به قريحتي وعليك أن تعربه، على رغم أنفك، ثم أنا نجيب عما ادعوا فيه اللحن، فن ذلك قوله تعالى: {لنعلم أي الحزبين}، وقوله: ثم لتنزعن من كل سبعة أشدهم ترفع أي في الموضعين، قالوا: والقياس نصبها.
والجواب: وأما قوله أي للإستفهام فهو كقولهم علمت، أريد عندك، والمراد في مثل ذلك: علمت جواب هذا السؤال والتقدير في الآية: لنعلم جواب من يقول أي الحزبي.
ووجه آخر وهو أن لأي صدر اللام؛ لأن أصلها الاستفهام، والاستفهام لا يصح أن يعمل فيه بشيء قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده كقوله: {أي منقلب ينقلون}.

وأما قوله أنهم أشد يرفع أي ملائها قد صارت مبنية الحذف صدر صلتها وذلك عادة العرب /344/ وعليه قول الشاعر:
إذا ما أتيت بني مالك .... فسلم على أيهم أفضل
يرفع أي معناه على أيهم ، هو أفضل، وكذلك تدقير الآية أيهم هو أشد.
ومن ذلك قوله تعالى: {إن هذان لساحران} قالوا: وإن تنصب الاسم وترفع الخبر.
والجواب: هذه هي لغة بني الحارث فإنهم أبداً يدخلون الألف في بنية المنصور والمجرور، قال شاعرهم:
إن أباها وأبا أبها .... قد بلغا في المجد غايتاها
وقال الآخر:
فاطرق إطراق الشجاع ولو رأى .... مصيباً لناباه الشجاع لصمما
وقد قيل: أن الباء لا تجوز في الآية؛ لأن ألف هذا القراء أصليّة، وعند غيره عماد وليست بألف تنبيه، وكان قياسه: هذا أن بألفين، ويرجع ألف التنبيه إلى الياء في المتمكن من الأسماء عند النصب والجر، ولما كان هذا الاسم مبهماً غير متمكن زيد في آخره نون تدل على التثنية وهي على حالة في الرفع والنصب والجر للفرق بين ألف التثنية في المتمكن وغيره.
ومن ذلك قوله تعالى :{ولا يؤذن لهم فيعتذرون} القياس هنا حذف النون؛ لأنه جواب النفي.
والجواب أنه ليس بجواب هنا، بل هو كلام مقطوع مستأنف أي فهم يعتذرون بكل حال، وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تسل الربع ألقوا فينطق .... وهل يجيرك اليوم بيداء سملق
أي فهو ينطق سواء سألت أم لا.
ومنه قولهم: لا يذهب به تغلب عليه أي فأنت تغلب عليه سواء ذهبت أم لا ونحو ذلك كثير.
والمعنى أنه لا يقبل عذرهم مع اعتذارهم.
ومن ذلك قوله تعالى ك{ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} قالوا: وهو معطوف على المجزوم فكان قياسه الجزم.

والجواب: أنه لو كان معطوفاً عليه لأعاب الجازم؛ لأنه لا يصح العطف عل المجزوم، إلا بإعادة الجازم، وإنما هو منصوب بتقديران، أي وإن يعلم الصابرين، وقيل: أن الواو واو مع أي مع علمه بالصابرين، فيكون نصبه بنزع الخافض والكل متقارب؛ لأنه لا بد من تقديران، ثم يقدر هي والفعل بالمصدر وحيئنذٍ يصح تقدير واو مع.
ومن ذلك قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} وكان القياس أن يقول قريبة.
والجواب: أن الرحمة مصدر، والتاء في المصادر للتوحيد لا للتأنيث.
وبعد، فالرحمة هنا بمعنى الثواب، وكل لفظ يقتضي التأنيث في لفظه والتذكير في معناه، فإنه يجوز نعته.
ومن ذلك قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} فأثبت القيمة وهي نعت للدين.
والجواب: أن الهاء لتناسب رؤوس الآي لا للتأنيث.
وقيل: هو نعت للملة تقديره: وذلك دين الملة القيمة.
فصل
وأما الكلام على من يدعي التناقض فنقول لهم على الجملة: لا شك لا شك أن العرب كانوا أعرف منكم بالتناقض ووجوه الطعن، فلو وجدوا في القرآن شيئاً من التناقض لأظهروه واحتجوا به عليه، فقد كانوا أحرص الناس في إبطال أمره لا سيما مع قوله تعالى /345/: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
وبعد، فمن شرائط التناقض أن يتخذ المنسوب والمنسوب إليه ووجه النسبة والزمان والمكان والجزء والكل ومتى اختل شيء من هذه لم يكن الكلام متناقضاً.
ثم أنا نجيب عن تفصيل ما أوردوه من الآيات، فمنها قوله تعالى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} مع قوله: {ليسألنهم أجمعين}.

والجواب: أن الكناية في قوله: لا يسأل عن ذنوبهم عائدة إلى الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {أولم تعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم} أي ذنوب هؤلاء المذكورين، بل هم الذين يسألون عنها، وكذلك قوله: {لا يسأل عن ذنبه} أي عن ذنب الذي يرسل عليه شواظ من نار، ويجوز أن يكون المنفي سؤال الاستفهام عن ذنبه، وغن كان يسأل تقريراً أو توبيخاً أو مطالبة كقوله: {إن العهد كان مسؤلاً} أي مطالباً به، ويجوز أن يكون المراد أنهم يسألون في بعض المواقف دون بعض الأوقات.
ومنها: قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} إلى قوله: {عطاء ير مجذوذ}.
والجواب: قيل سموات الآخرة وأرضها، وهي لا تفنى، وقيل: المراد المبالغة في التبعيد، وليس من حق المثل المضروب أن يكون كالممثل به، ألا ترى إلى قوله: {مثل نوره كمشكاة..} الآية، وإنما ضرب المثل في التبعيد بما يعتاده العرب من ذلك عند التبعيد، وغن كان خلود أهل الآخرة أدوم، وأما الاستثناء فهو من أول الوقت لا من آخره، المراد إلا أوقات الدنيا والحشر والحساب، فإنهم قد كانوا يستحقون الثواب والعقاب من حال الفعل، فاستثنى الله هذه الأوقات التي لا يقع فيها ثواب ولا عقاب.
ومنها قوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن} نقضه بقوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} فذكر في الأولى أن خلق السماء بعد خلق الأرض وفي الثانية أن خلق الأرض بعد خلق السماء.
والجواب: إنما قال دحاها ولم يقل خلقها، وعندنا أنه خلق الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم دحا الأرض أي بسطها بعد خلق السماء.
ومنها قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} نقضها بقوله: {إ ن الله يغفر الذنوب جميعاً.
والجواب: إنما أراد بقوله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء المبالغة في وصف اقتداره على المغفرة والتعذيب، وأنه يمكنه ذلك.

وبعد فالآية مجملة لم يذكر فيها من الذي يشاء له المغفرة وبيانها /346/ في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..} الآية، وقوله: {يغفر الذنوب جميعاً} معناه مع التوبة، وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} معناه لا يغفره تفضلاً.
ومنها: أنه وصف كيد الشيطان بالضعف في آية، ووصفه في غيرها بالاستحواذ والغلبة على أكثر الناس.
والجواب: أن المراد بالضعف أنه لا يقدر إلا على الوسوسة والدعاء، وذلك يرجع إلى اختيار من يتبعه.
ومنها قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهه} ثم وصفهم بانهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فنفى الفقه وأثبت العلم.
والجواب: إنا قدمنا أن الله تعالى لا يصح أن يمنعهم من الفقه؛ لأن الله لا يكلف مالا يعلم، ولو سلمنا اتنفاء العلم عنهم، فالميت هو طريقه، ودلالته أي من بعد ما جاءتهم الأدلة الواضحة، وهذا هو اللائق؛ لأن الذي يأتيهم من جهة الله هو الدليل لا العلم، وقد سمي طريق الشيء باسمه كما سمي الكتابة والكلام علماً لما كانا يدلان عليه.
على أن قوله: {حتى جاءهم العلم} مجمل يبين فيه بماذا جاءهم.
ومنها قوله: {إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو} مع قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين}.
والجواب: يجوز أن يكون وصفها باللعب تشبيهاً بسرعة زوالها، وانقطاعها، ويجوز أن يكون المراد أن الاقتصار على الحياة الدنيا لعبٌ ولهو لا يفيد. وقوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} أي ما خلقناهما للاقتصار على الدنيا ولا عبثاً.
وعلى الجملة فاللعب المثبت يضاف إلى أفعال العباد، والمنفي مضاف إلى أفعاله تعالى.
ومنها قوله: {وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين} نقضه بقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً}.
والجواب: أنه لا ينافي؛ لأن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم، فقللهم حتى رأوهم مثليهم وهم ثلاثة أمثالهم في الحقيقة.

53 / 75
ع
En
A+
A-