ويمكن الجواب أن اللفظين إذا اختلفت فائدتهما من وجه صح عطف أحدهما على الآخر للتأكيد، وغن كان معناهما واحداً في الحقيقة، فإذا كان لفظ النبي يفيد الرفعة بنفسه ولفظ الرسول الرسول يفيدها بواسطة يحمله للرسالة أو صبره على المشاق فيها صح العطف كما يقال فلان قادر عالم، فإن العالم يتضمن معنى القادر، لكن خالفه من وجه آخر.
قيل ولا يبعد أن يكون الرسول هو المبعوث بشريعة وكتاب، والنبي هو من بعث بتقرير شريعة فيفترقان من باب الأعم والأخص؛ إذ لا بد من كون الرسول نبيئاً فيكون على هذا كل سول نبيئاً، وليس كل نبيء رسولاً.
ويمكن أن يجعل الفرق بينهما أن الرسول يدخل فيه الملك بخلاف لفظ النبيء.
فصل
في أنه يحسن بعثة الأنبياء عقلاً، وقد خالف في ذلك البراهمة، قيل: هم قوم ممن يعتزي إلى اليهود وهم فرقتان.
فرقة أنكرت حسن البعثة رأساً. قالوا: لأن الرسل إن جاءوا بما يوافق العقل ففي العقل عينة عنهم، وإن جاءوا بما يخالفه وجب رده.
وفرقة أجازت البعثة إذا كانت مؤكدة لما في العقول لا أن جاءوا بما لا يعلمه العقل.
ويحكى عن هؤلاء صحة بنوة آدم وإبراهيم عليهما السلام، وذهب قوم إلى أن الغرض بالبعثة هو التكليف والتكليف محال؛ لأن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، فلا معنى للبعثة، وهذا إنما يلزم المجبرة فقط، وذهبت طائفة من الصوفيَّة إلى إنكار النبوة، قالوا: لأن الاستغلال بغير الله حجاب عن الله والأنبياء إنما يأتون بما شغل عن الله كالعبادات والشرائع فيجب أن يكون باطلاً، وهذا هو بين محض وجهالة مفرطة.

لنا: أنه لا يمتنع أن يكون في أفعالنا ما هو لطف في ما كلفناه من العقليات وفيها ما هو مفسدة في ذلك، ثم لا يكون في قوة عقولنا ما نعلم به تفاصيل هذه الأفعال وإن كنا نعلم بالعقل جملةً حسن المصلحة، وقبح المفسدة، ولا شبهة حينئذٍ في جواز أن يرسل الله إلينا بتعريف المصلحة من المفسدة، فإذا علمنا ذلك بالشرع على التفصيل أتحفناه بالجملة المقررة من حسن اتباع المصلحة وقبح اتباع المفسدة، فيكون الرسل قد جاءوا بما يوافق العقل على الجملة لا على التفصيل، وصار الحال فيه كالحال في الطبيب إذا عرفنا أن في كل بعض الأشياء ضرراً، وفي أكل بعضها نفعاً، وقد علمنا بالعقل على الجملة حسن أكل ما ينفع وقبح أكل يضر، فإنه يجب التحرز مما نهى عنه، ويحسن اتباع ما أمر به ولا يقال أنه أتى بما يخالف العقل.
وبهذا انبطل قولهم: إنا نعلم بالعقل قبح كثير مما جاء به الشرع كالهرولة والطواف حول البيت، ورمي الجمار ونحو ذلك؛ لأنا نقول: العقل لا يقضي بقبح هذه الأفعال /329/ على الإطلاق ألا ترى أنا نعلم بالعقل حسن الطواف بالبيت لغرض يسير، وهو أن يعلم هل استَرَم أم لا، وهل هو عامر أو خراب ونحو ذلك، فهلا جاز أن يطوف حوله لمصلحة أعظم من ذلك.
فإن قيل: هلا جاز أن يخلق الله فينا علماً ضرورياً بما يريده منا في هذه الأفعال التي جاء بها الأنبياء لا على أن يعد ذلك العلم في كمال العقل، ولهذا يختلف الناس فيه.
قلنا: الاضطرار إلى قصده تعالى لا يصح، والدار دار تكليف.
فصل
إذا ثبت أن وجه حسن البعثة كونها لطفاً لم يجب أن يكون في كل زمان نبي خلافاً لقوم أوجبوا البعثة في كل زمان؛ لأنه لا يمتنع أن يكون البعث لطفاً في بعض الأزمان دون بعض، وفي حق بعض الأشخاص دون بعض، فلا تجب البعث حيث يعلم الله أنها لا تكون لطفاً، وإذا لم تجب لم تحسن؛ لأن الحسن في البعثة ملازم للوجوب كالثواب وشكر النعمة.

شبهتهم أن الرسول يحتاج في كل زمان، إما لأمر ديني كالدعاء إلى الله والتنبيه على الأدلة العقلية أو لأمر دنيوي كمنع الظالم والزجر عن الفساد وتعريف اللعان والفصل بين الأغذية والسموم ونحو ذلك.
والجواب: لا يسلم أن يكون لبعثة الرسل وجه غير كونها لطفاً؛ لأن التنبيه على معرفة الله، والدعاء إليه لا يستقل وجهاً في حسن البعثة من حيث لا يمكن معرفة اتباع الرسل وأجابتهم إلا بعد معرفة الله.
وأيضاً فالدعاء إلى الله والتنبيه على توحيده يتم بدون الأنبياء بأن يتنبه من ذي قبل أو يقوم الصالحون به، فلا يحتاج إلى الأنبياء، وكذلك قولهم يبعث مؤكداً لما في العقول؛ لأن في العقول عيبة عنه.
وأيضاً فكان لا يفترق الحال بين نبي واحد وأنبياء كبيرة، فكان لا يجوز بعث أكثر من واحد في جميع الأزمان.
على أنه لو وجبت البعثة لما يرجع إلى التنفية وحفظ الصحَّة لما حاز من الله أن يميت المكلفين، ولما حسن بنفيه من جهل ما يبعث به الأنبياء.
فصل
وقد تقدم أن البعثة متى حسنت وجبت، والذي يختص هذا الفصل أنه إن كان الصلاح يتعلق ببعثة شخص معين وجب بعثته على التعيين أو يتعلق به وبغيره على الجمع وجب على الجمع.
أو على البدل كان الله مخبراً في بعثة أيهما شاء على البدل.
وعلى الجملة فإنه يحسن بعثة من في بعثته صلاح للمرسل إليهم وصلاح للمرسل نفسه، وقد كان يجوز أن يبعث الله إلى بني آدم بالرسالة ملائكة أو جناً، لكن لما كان كل جنس أقرب إلى القبول من جنسه جعلت رسول كل خلق من جنسهم، ولهذا قال تعالى: {قل لو كان في الأرض /330/ ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} وهذا إذا استوت المصلحة في بعثة الجنس وغير الجنس، فأما إذا تعلقت المصلحة ببعثة غير الجنس تعين كما يرسل الملائكة إلى الأنبياء وكما أرسل الأنبياء عليهم السلام إلى الجن.

ومتى أرسل نبي إلى أمة فلا بد أن يكون لهم طريق إلى معرفة شرعية، إما بمشاهدته أو بالنقل عنه، وكذلك لا بد من تنفيته حتى يؤدي الرسالة، ثم بعد ذلك يجوز احترامه.
فصل
ذهب جمهور الشيوخ إلى أنه لا يبعث رسول إلا بشريعة، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يستفاد من جهته مالولاه لما أمكن الوقوف عليه، وذلك قد يكون بشريع متحددة، وقد يكون ناحياً شريعة دارسة، وقد يكون بما طريقة العمل فقط، وقد يكون بما طريقة العلم فقط، كأن يبعث رسولاً يعرفنا أن الله تعالى يوقر العقاب على مستحقه، فإن العقول تجوز العفو، وقد يكون بما طريقه العلم والعمل، إما في حق كل واحد كتعريف أحكام الصلاة فإن العلم والعمل شامل لكل مكلف، وإما في حق بعض المكلفين كتعريف أحكام الحيض، فإن العلم يتناول الرحال والعمل يتناول النساء.
وعلى الجملة فلا بد أن يعرف من جهته ما لولاه لما عرف، وغلا لم يكن لبعثته فائدة.
وقد حكي عن الشيخ أبي علي جواز أن يبعث الله لتأكيد ما في العقول.
قيل: والصحيح أنه ليس بمذهب له، وغنما أخذ الحاكي من جوابه على البراهمة، حيث قال: أن الأنبياء لا يأتون بما يخالف العقول مطلقاً ومهما يكن قد أبطل الشيوخ هذا المذهب بما تقدم من أن غير الأنبياء يقوم مقامهم في ذلك.
إلا أن لقائل أن يقول: ما أنكرتم أن يعلم الله أن عند بعثة شخص بتأكيد ما في العقول يكون الناس أقرب إلى فعل العقليات وترك المقبحات كما يجوز أن يعلم أن عند المرض أو القحط يكونون أقرب؛ لأن البعثة كغيرها من سائر أفعاله تعالى في جواز كونها لطفاً في العقليات.
فصل
والطريق الذي يعرف كون الرسو رسولاً هو في الحقيقة المعجز، وأما خبر الصادق فهو وإن دل على ذلك، فإنما يعلم صدق المخبر بالمعجز، فقد عاد الأمر إلى أنه هو الدليل الحقيقي.
وأيضاً فلا بد أن يظهر المعجز عقيب دعوى من أخبرنا الصادق بنبوته لتميزه عن غيره؛ لجواز أن يكون الذي اخترنا بنبوته غير هذا الشخص، فالطريق الحقيقي هو المعجز.

فإن قال: هلا عرفنا الله نبوته بالاضطرار؟
قيل له: كيف يعلم بالاضطرار كونه مرسلاً من الله ونحن لا نعلم ذات الله ضرورة، والعلم بالله أصل للعلم بكون الرسو رسولاً.
فصل
وحقيقة المعجز هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة على جهة المطابقة، واعتبرنا كونه فعلاً؛ لأن ماليس بفعل لا يدخل تحت الإحسان، فلا يصح كونه معجزاً، ولا يكون للتحدي به فائدة؛ ولأنه ليس بأن يدل على صدق المدعى أولى من كذبه، أو من صدق غيره أو من أن لا يدل.
ومن هنا صعب على المجبرة تصحيح كون القرآن معجزاً لما قالوا بقدمه، وقلنا لهم: لو صح كون القرآن معجزاً مع قدمه لصح كون علم الله معجزاً /331/ وقدرته بل كان يصح أن يكون الباري معجزاً نفسه، واعتبرنا كونه خارقاً للعادة؛ لأن المعتاد ليس بأن يدل على الصدق أولى من الكذب أو من أن لا يدل ولا يختص يريدون عمرو، واعتبرنا تعلقه بدعواه؛ لأنه لو لم يتعلق بها لكان أجنبياً عنها، وفي حكم المبتدأ، فلا يكون بأن يدل على الصدق أولى من سواه لفقد الاختصاص؛ ولأنه يجري مجرى التصديق بالقول، والتصديق بالقول لا بد أن يتعلق بالدعوى.
واعتبرنا المطابقة؛ لأنه لو حصل الفعل على عكس ما تناولته الدعوى لما دل على الصدق عن لم يدل على الكذب كما حكى أن مسيلمة تفل في بئر ليفور ماؤه ويعذب كما سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام فغار ماؤه وملح.
وقد اختلف في هذا هل يعتبر في المعجز كونه عقيب الدعوى، فأجاز أبو القاسم تقدمه وأجاز غيره تراخيه.
والحق التفصيل، وهو أنه لا بد من معجز يتعقب الدعوى على الفور ليثبت الصدق من بعد ذلك يجوز في معجز آخر أن يتراخى كما في كثير من معجزات نبينا عليه السلام.
فأما التقديم فقيل: جائز مطلقا.
وقيل :جائز إذا كان المعجز في نفس المدعي ككلام عيسى عليه السلام في المهد.
وقيل: ما تقدم على النبوة فهو إرهاص لا معجز.
فصل

ومن شروط دلالة المعجز أن يكون من فعل الله أو جارياً مجرى فعله؛ لأنه تعالى قد صدق دعواه لجواز أن يكون من فعل غيره.
وقد زعمت اليهود أنه لا بد أن يكون مما يختص الله بالقدرة عليه، ولا يدخل جنسه تحت مقدورنا، وهو باطل؛ لأن العرض بالمعجز التصديق، وذلك كما يحصل بما يختص الباري تعالى بالقدرة عليه، فقد يحصل بما يكون جارياً مجرى ما يختص بالقدرة عليه.
يوضحه أن من معجزات موسى عليه السلام فلق البحر ونتق الجبل وهو من الأجناس المقدورة للخلق.
ومن شروط دلالة المعجز: أن يصدر من حكيم لا يجوز أن يلبس ولا أن يصدق الكاذب، ولا أن يفعل القبيح، ومن هاهنا انسد على المجبرة، وطريق العلم بالنبوة.
وقيل لهم: إذا كان المعجز يجري مجرى التصديق بالقول فلا شك أن التصديق إنما يدل على الصدق إذا كان المصدق حكيماً لا يصدق الكاذب، وغلا لم يأمن أن يكون أظهره على كاذب على جهة التلبيس والنعمة، وجرى مجرى قوله لمسيلمة: صدقت ولا يقبح منه ذلك كغيره من القبائح.
فصل
والفرق بين المعجز والحيل من وجوه:
منها: ما تقدم من أن المعجز لا بد أن يكون من فعل الله أو جارياً مجراه.
ومنها: أن الحيلة يُرى في الظاهر على وجه وهي في الحقيقة على خلافه، وإنما هي من قبيل السحر والخيال، والمعجز على ظاهره.
ومنها أن الحيل لا تمضي إلا على العوام ومن ليس له صناعة، والمعجز تمضي على جميع الناس، ولهذا جعلت معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطاه /332/ أهل زمانه ليعلم قصورهم.
ومنها: أن الحيل لا تدرك إلا بتعلم وممارسة، والمعجز يحصل لا عن طريق.
ومنها: أن الحيل لا يختص بها واحد من الناس، بل يدركها كل من مارسها.
ومنها أنه يمكن معارضتها بما شاهدها أو يزيد عليها بحسب الصناعة بخلا فالمعجز.
ومنها أن الحيل لا تدوم، ولهذا تجد أحدهم يرى الناس أنه نبت نباتاً في الحال ويثمر ويرى أنه يصير التراب دقيقاً بر، ويصير الورق دراهم ولا يدوم ذلك، وإنما هو كأحلام نيام.

ومنها: أن الحيل تحتاج إلى آلة متى فقدت لم يتم عمله.
قال شيوخنا: وكثير من المعجزات يعلم بالضرورة إعجازها ومفارقتها للسحر والحيل.
ولهذا اعترف سحرة فرعون بمعجزة موسى عليه السلام، وهم أعلم الناس بالسحر، ووصف الله قوم فرعون الجحود في قوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم..} الآية، ولا يوصف بذلك إلا منكر الضرورة، وهذا الوجه كاف في الفرق بين المعجز والحيل.
فصل
منع الجمهور من صحة ظهروه على الصالحين كرامةً لهم وفضيلة، وأجازه ابن الأخشية عقلاً لا سمعاً.
حجة الجمهور أنه لو جاز ظهور ذلك على بعض الصالحين لجاز تكرره وتتابعه حتى يصير معتاداً، واعترضه أبو الحسين بأنا إنما يجوز ظهوره على حد لا يصير معه معتاداً، ولو سلمنا جواز كونه معتاداً فإنما يكون معتاداً لأن العبرة في المعجز أن يكون خارقاً لعادة زمان ذلك الشيء فقط.
قال الجمهور: إذا ظهر على غير الأنبياء لم يدل على صدق الأنبياء.
قيل لهم: إنه ظهر على الأنبياء عقيب الدعوى ومتعلقاً بها، فلهذا دل على نبوتهم كما أن من ادعى بحضرة الملك أنه رسوله وأن علامة صدقه أنه ينزل عن سريره، فإنه إذا نزل عن سريره عقيب هذه الدعوى دل نزوله على صدقها، ثم إذا قدرنا أنه نزل عن سريره مرة أخرى لحاجة له أو معظماً لرجل دخل عليه لم يخرج النزول الأول عن كونه دليلاً على صدق ذلك المدعي، ولا وجب في النزول الثاني أن يدل على مثل ما دلَّ عليه الأول، لما لم يحصل عقيب دعوى أحد.
قال الجمهور: النبي إذا ادعى التمييز على غيره بالمعجز ثم ظهر على غيره بطلت دعواه.
قيل لهم: النبي إنما ادعى التمييز بالنبوة والمعجز إنما هو دليل عليها من حيث أن التمييز والفضل إنما يكون بالأعمال، وكما لا يحط منزلته لظهور المعجز على نبي آخر، ولا يقدح في صدقه /333/ وفضله، كذلك لا يحطها ظهوره على بعض الصالحين.

ومن قوى ما يمكن أن يقال للجمهور: إنما يظهر على الأولياء والصالحين ليس بمعجز رأساً؛ لأن من تمام ماهيَّة المعجز أن يكون متعلقاً بدعوى النبوة، والكرامات ليست كذلك، وغنما تشارك المعجز في بعض صفاته وهو كونها خارقة للعادة.
حجة ابن الأحشيد: أن الإجماع وقع على أن شهادة الواحد لا تقبل، ولو جاز ماهو بصفة المعجز على بعض الصالحين لوجب قبول شهادته.
واعترض بأن الشرع ورد بذلك لمصلحة يعلمها الله تعالى كسائر الشَّرعيات.
تنبيه
اختلف الشيوخ في هل يجب تجوز ظهور ما هو بصفة المعجز على العكس مما سأله الكاذب تكذيباً له، فمنعه القاضي والجمهور وأجازه أبو الحسين، مثاله ما حكى أنه قيل لمسيلمة الكاذب أن محمداً تَفَل في بئر فكثر ماؤه وعذب، فجاء إلى بئر فتفل فيها فغار ماؤه، وقيل له: إن محمداً مسح على أعور فبرئ فمسح على أعور فذهبت عينه الأخرى.
حجة الجمهور: أن هذا المعجز لا تعلق له بالدعوى لظهوره على العكس منها، فهو كالمبتدئ، واعترض بأن معنى تعلق المعجز بدعوى الصادق أنه لو لا صدقه لما ظهر مطابقاً لدعواه، وهذا التعلق حاصل هنا، فإنه لو لا كذبه لما ظهر على العكس من دعواه.
قال القاضي: يكفي في بيان كذبه أن لا يظهر مطابقاً لدعواه، والزيادة على ذلك عبث له، يجوز أن يكون الغرض بذلك المبالغة في كذبه ونقص منزلته والتنفير عنه، وربما يكون ذلك لطفاً في ترك اتباعه.
فصل [في الصفة التي يجب أن يكون النبي عليها وما يجب أن ينزه عنه]
اعلم أنه يجب أن يختص بما معه يكون أقرب إلى القبول من الكمال والصدق والأمانة والتواضع والفطانة وقوَّة التدبير ونحو ذلك من صفات الرؤساء.
ويجب أن يكون منزهاً عمَّا يقدح في الأداء سواء كان خلقياً كالعمى والصمم والخرس أو اكتسابياً كالكذب وكثرة الشهوة والغفلة، وكالكتمان والزيادة والنقصان.
وعما يقدح في القبول وينفي سواء كان خلقياً كالجذام والبرص ودمامة الخِلقة ونقص الأعضاء وسلس الريح والبول.

وقد دخل في هذا ما يكون صفة كمال، لكن ينفر كالعلم بالكتابة والشعر في حق نبينا عليه الصلاة والسلام، أو اكتسابياً كمواقعة الكبائر والصغائر المسخفة كسرقة عشرة دراهم وأقل منها وكالفظاظة والغلظة وكالمباحات المنفرة نحو كثرة المزاح والمخالطة والهذر والحرف الوضيعة وأشباه ذلك.
والوجه في تنزيهه عن الجميع أن الغرض بالرسالة هو القبول والإقبال على الطاعة، وذلك لا يثمر إلا بالتمكين من الأداء وإزالة المستنفر.
فصل
قد اختلف الناس في جواز الكبائر على الأنبياء مع اتفاقهم على امتناع كفرهم إلا عند بعض الخوارج فعندنا لا تجوز عليهم الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها، وقال أهل الحشو: يجوز عليهم /334/ في الحالين.
وقالت الأشعرية يجوز قبلها لا بعدها، وحكى مثله عن أبي علي.
لنا أن ذلك من أبلغ المنفرات، فإن من علم الناس من حاله أو جوزوا مواقعته للكبائر كانوا عن القبول عنه أبعد.
وهذا فإن الخطيب إذا بات شرب الخمر ويزني وأصبح يعظ الناس لم يكن لموعظته تأثير، ولا فرق بين أن يقع ذلك قبل البعثة أو بعدها، فإن الناس إلى القبول ممن لم يتدنس بالمعاصي أقرب منهم إلى القبول ممن يتعاطاها، وإن كان قد تاب لا شك في ذلك.
وبعد فالمواقع للكبائر يجوز ذمه والاستخفاف به، والنبي يجب مدحه وتعظيمه.
وبعد، فلو واقعوا الكبائر لما قبلت شهادتهم ومعلوم أنهم الشهداء في الدنيا والآخرة.
وبعد، فكان يجب نهيهم وزجرهم عن المعصية لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل شريعة.
وبعد، فكنا لا نأمن أن يكتموا بعض ما أرسلوا به ويكذبوا فنزول الثقة.
فإن قيل: أليس قد قبل المخالفون عن الأنبياء مع تجويزهم الكبائر، ولم ينفرهم ذلك ووثقوا بنبوتهم.
قلنا: أما الثقة فلا نسلمها…… منعنا أهل الجبر من الثقة بالنبوءات متى جوزوا القبيح على الله تعالى.

وأما القبول فلم نمنع من وجوده رأساً، ولكن دللنا على أن الناس مع تجويز الكبائر يكونون أبعد عن القبول، وإن كان في الناس من لا ينفره ذلك، كما أن التقطيب في وجه الضيف ينفره، وغن كان في الناس من لا ينفره ذلك كأهل الدناءة.
على أنا منعنا من ذلك لأمر يرجع إلى الحكيم، قلنا: يجب أن ينزهه عما ينفر ويزيح علة الناس سواء حصل النفور أم لا.
فإن قيل: ما ذكرتم أنا نمنع من جوازها بعد البعثة.
قلنا: بل وقبل البعثة لما تقدم من أن الناس إلى القبول ممن لم يدنس نفسه بمعصية قط أقرب منهم إلى القبول ممن يتعاطاها ثم تاب، ومن حق اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه.
شبهتهم ما يدعونه من أن داود عليه السلام عشق امرأة أوربا بن حنان وقدمه في الجهاد ليتقل وأن يوسف هم بالزنا بامرأة العزيز وأن ذا النون غاضب رية ظن أنه لا يقدر عليه، وأن لوطاً عرض بناته للفاحشة بقوله: {هؤلاء بناتي} وأن إبراهيم كذب في قوله: {إني سقيم} وفي قوله: {بل فعله كبيرهم} هذا وإن محمداً عشق امرأة أسامة بن زيد وأنه عبس وتلوى وأشباه ذلك من تأويلاتهم الفاسدة، وعندنا أن هذه التأويلات مزيَّفة باطلة.
فأما الصغائر التي ليس لها حظ إلا في تقليل الثواب دون التنفير والقدح في التبليغ فجائز قبل البعثة وبعدها إلا عند من لا يعنى به.
وعلى هذا يحمل ما حكاه الله من ذنوب الأنبياء وأكل الشجرة وعبوس النبي عليه الصلاة والسلام حين جاءه الأعمى ونحو ذلك، وقد قال تعالى /335/: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ، وقال: {واستغفر لذنبك} واختلف الشيوخ في كيفيَّة إقدام النبي على المعصية، فقال النظام وجعفر بن مبشر: على السهو وهذا ضعيف؛ لأن الساهي لا تكليف عليه فضلاً عن أن يكون مذنباً.

51 / 75
ع
En
A+
A-