وبعد، فلو كان متكلماً بكلام قديم وكان ما يفعله من العبارة دليل على ذلك المعنى لكان إذا قال أحدنا لغيره أشرك بالله أن يكون الله تعالى قد أمر بالشرك؛ لأن هذه العبارة دليل على المعنى القائم بذات الله تعالى، وليس صدورها منَّا يمنع كونها دلالة؛ لأن الأدلة لا تختلف دلالتها باختلاف الفاعلين.
على أن عندهم أنه لا فعل لنا وإنما نفعله نحن من العبارة هو من فعل الله تعالى، فلا يفترق الحال في دلالتها على الأمر القائم بذات الله تعالى بين أن يفعلها الله في أحدنا /315/ ولأن أن يفعلها في الحصى والشجر.
وأيضاً فكيف يكون المسموع عبارة عن المعنى النفسي، وهو لا يريد جميع ما يفيده المعنى النفسي، وكيف يكون دلالة عليه والحال هذه.
وبعد، فأما أن يكون المعنى النفسي أشياء كثيرة قائمة بذات الباري بعضها أمر وبعضها نهي وبعضها خبر، وهذا ظاهر الفساد وهم لا يقولون به أيضاً.
وأما أن يكون كما يزعمون شيئاً واحداً وهو مع ذلك أمر ونهي وخبر واستخبار وثمن ودعاء، وهذا فيه من التهافت والبعد مالا يخفى، ولو ادعينا الضرورة في فساده لأمكن فإنه كيف يكون الشيء أمراً نهياً، وهل هذا إلا بمنزلة أن يكون الشيء سواداً بياضاً وكيف يصح في الشيء الواحد أن يفيد الفوائد المختلفة، ولو كان شيئاً واحداً وهو مع ذلك توراة وإنجيل وفرقان لكان القرآن الكريم قد نزل على جميع الأنبياء، فلا يكون لمحمد به اختصاص، ولكان يصح وصف القرآن بأنه توراة وإنجيل ويمتنع وصف التوراة بالنسخ، بل يجب ذلك في كل كلمة من القرآن حتى يكون قوله تعالى: {محمد رسول الله} توراة وإنجيل؛ لأن الكل شيء واحد.
وبعد، فلو كان الله متكلماً بكلام قديم لما كان ذلك المعنى ليختص بعض المخاطبين دون بعض، فلا يكون الأمر بأن يتوجه إلى …… أولى من غيره ولا أولى من النهي وسائر أنواع الكلام، حتى يكون مأموراً منهياً بشيء واحد دفعة واحدة؛ إذ لا اختصاص للمعنى القديم كالعلم والقدرة.
وبعد، فهذا الكلام القديم إما أن يوصف بأنه أمر فيما لم يزل ونهي وخبر كما يقوله جمهور الخصوم، وهذا قول ينبغي أن لا يكون لقائله تميز؛ لأنه كيف يكون الشيء خطابا ولا مخاطب وأمراً ولا مأمور، وخبراً ولا مخبره، ولو صح هذا لكان يصح أن يكون الشيء وديعة ولا وديع وديناً ولا مدين، وكان يصح وصف الباري بأنه فاعل خالق فيما لم يزل، وإن لم يكن هناك خلق ولا فعل، وأما أن لا يوصف بشيء من ذلك فيما لم يزل كما ذهب إليه عبد الله بن سعيد منهم، فهو باطل بما قاله أصحابه له من أن الأمر والنهي والخبر أنواع الكلام، فلا يصح إثباته مع نفيها.
وبعد، فلو كان الله متكلماً بكلام قديم لما صح وصفه بأنه إن شاء أمر وإن شاء نهى وإن شاء قال وإن شاء لم يقل، بل لا يوصف بالقدرة على شيء من الأقوال؛ لأنه كيف يصح ذلك، ولم يوجد فيما لم يزل، وكل مذهب أدَّى إلى أن الله تعالى غير مختار في أمره ونهيه وخطأه فهو ظاهر السقوط والفساد.
وبعد فإن الكلام لا بد أن يكون مفيداً وإنما يكون مفيداً بالمواضعة وبأن يكون بعضه متقدماً على بعض وكل ذلك لا يتأتى في المعنى القديم.
وبعد، فلو كان متكلماً في مالم يزل لكان هادياً عابثاً؛ لأنه كيف يحسن أن يقول {يا موسى اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى}، وليس هناك وادٍ ولا موسى ولا نعلان، وهل هذا إلا في غاية السفه كما في الشاهد.
وبعد فما ذكروه يقتضي أن يكون /316/ جميع القرآن مجازاً، وكذباً؛ لأنه كيف يقول فيما لم يزل كذبت قوم نوح وليس ثم تكذيب ولا مكذب، فلا بد أن يكون هذا خبراً عن الشيء لا على ما هو به أو مقدراً فيه مانع يصير مجازاً.
وبعد، فكان لا يصح وصف الله بالقدرة على أن يكلف شخصاً قط؛ لأن التكليف هو بالخطاب عندهم والخطاب إن كان موجوداً في مالم يزل فليس بمقدور، فكذلك التكليف؛ لأنه خطاب وإن كان غير موجود في الأزل فليس يصح حدوثه.
وعلى كل حال فيستحيل على أصلهم أن يكلف الله شخصاً زائداً على من كلفهم؛ لأن تكليفه لم يوجد في الأزل.
وبعد فيقال لهم: ما دليلكم على أن الله تعالى يوصف بالكلام.
فإن قالوا: الشرع دلنا على أنه أمرٌ تاهٍ قيل لهم: وكيف يعلمون صحة قول الأنبياء؟ قيل: إن تعلموا أن الله متكلم.
فإن قالوا: علمناه بالمعجز.
قيل لهم: عندكم أن وجوب تصديقهم عند ظهور المعجز إنما تعرف بالشرع، فكيف عرفتم ذلك الشرع الذي دل على وجوب تصديق الأنبياء عند المعجز.
قيل: إن تعلموا أن الله متكلم.
على أن الشرع إنما دل على أنه متكلم بالكلام الذي هو حروف وأصوات يفعلها بحيث تسمع، وأتم توافقون في أن ما هذا حاله فهو كلام فما دليلكم على المعنى النفسي.
وبعد، فإذا جاز إثبات كلام قديم يخالف الحروف والأصوات فهلا جاز إثبات لون قديم يخالف هذه الألوان وليس هذا بأبعد من ذلك.
فصل
وبأكثر هذه الوجوه يبطل كونه متكلماً لذاته كما ذهب إليه برغوث ويختص هذا المكان أنه لو كان متكلماً لذاته لكان متكلماً بجميع أنواع الكلام؛ لأنه لا اختصاص لذاته ببعض دون بعض، فكان يكون في كلامه الرفث والكذب، وسواء لنا على نفسه والهذيان والأمر بالقبيح ونحو ذلك، فلا تقع الثقة بشيء من الشرع، وقد اعتصموا من هذا بأن قالوا أنه صادق لذاته.
قيل لهم: هذا هو مجرَّد المذهب، فكيف يدفعون به الإلزام؛ ولأن الصدق كلام مخصوص، مما لم يثبت كونه متكلماً لذاته لا يثبت كونه صادقاً لذاته؛ لأن الصدق نوع الكلام.
على أن أصولهم في الجبر وغيره يسند عليهم طرق العلم بأنه تعالى صادق فضلاً عن أن يكون صادقاً لذاته.
وبعد، فلو كان متكلماً لكان أيضاً مكلماً لذاته؛ لأن المكلم أخص من المتكلم، فإذا كانت الصفة العامَّة للذات، فكذلك الخاصة ويصير ككونه عالماً بجميع الأشياء لذاته، فإنه يجب أن يكون عالماً بالشيء المعين لذاته، وغذا كان كذلك لم يتوجه كلامه إلى بعض الموجودات دون بعض ولا إلى الموجود دون المعدوم، ولم يكن بأن يتكلم بالكلام على وجه أولى من وجه حتى يلزم أن يتكلم بكلامه جهرة.
ولا ينقلب هذا علينا في كونه تعالى عالماً لذاته فيقال: يجب أن يكون تعالى معلماً لذاته؛ لأنا نقول ليس أحدهما عامَّة، والأخرى /317/ خاصة حتى يدخل الخاصَّة تحت العامة، بل كل واحد بمعزل عن الأخرى بخلاف المكلم والمتكلم.
وبعد، فلو كان متكلماً لذاته، لكان قائلاً لذاته فيما لم يزل أنا أرسلنا نوحاً إلى قومه وإن لم يكن أرسل، وهذا صريح الكذب.
فإن قالوا: أن مراده سنرسل؛ لأن هذه طريقة أهل اللغة وعلى هذا، قال تعالى: {ونادى أصحاب النار} أي سينادي.
قلنا: إنما يصح أن يقصد بالخبر عن الماضي الخبر عن المستقبل إذا كان الخبر محدثاً حتى يصح القصد إلى جعلة خبراص عن شيء دون شيء، فأما وهو قديم أو من صفات الذات، فلا يصح أن يصير كذلك بالقصد؛ لأنه بمنزلة من يقول أن العلم القديم يصير قدرة بالقصد.
ثم إن سلمنا أن المراد سنرسل، فكان يلزم أن لا يتغير فائدته إلى الآن حتى يكون قائلاً الآن أنا سنرسل وغن كان قد أرسل في الماضي فيلزم الكذب؛ لأنه كيفي تغيَّر صفة الذات بتغير الأزمان.
ولا ينقلب علينا هذا في أن العلم بأن الشيء يسوجد علم بوجوده إذا وجد؛ لأن التغيّر هناك هو في المعلوم لا في كونه عالماً.
فصل
وشبهتهم أنه تعالى لو لم يكن متكلماً في مالم يزل بكلام قديم أو لذاته، لكان أخرس أو شاكياً كالشاهد.
والجواب: منع الجامع والعرف بأن الشاهد متكلم بآلة والخرس والسكوت إنما يطلقان على المتكلم بآلة.
وبعد، فإذا اعتمد في ذلك على الشاهد، فمعلوم أن الشاهد إذا لم يكن متكلماً بهذه الحروف، والأصوات كان أخرس أو ساكتاً، فيلزم إذا لم يكن الباري متكلماً بها في مالم يزل أن يكون أخرس أو ساكتاً.
وبعد فلا شك أنه تعالى أمر بأشياء دون أشياء واختر ناسياً دون أشياء.
وبالجملة فهو متكلم في أشياء دون أشياء، فيلزم أن يكون تعالى أخرس أو ساكتاً غماً لم يرد له فيه كلام.
وقد أجاب بعضهم بأن قال: الكلام القديم يستحيل بقديره على وجه آخر.
وهذا زلل وخطل؛ لأنا إنما ألزمناهم ثبوت ضد الكلام في مالم يرد يه كلام ولم يلومهم تقديراً لكلام على وجه آخر.
على أن هذا تصريح بأنه لا يصح وصفه تعالى بأنه يصح أن يأمر بمالم يأمر به في مالم يزل.
وأجاب آخرون بما معناه أنه لم يخل شيء قط عن أن يكون لله فيه كلام فما أمر به أخبر أنه أمر به وما نهى عنه، فقد أخبر بأنه نهى عنه، ومالم يأمر به فقد أخبر بأنه لم يأمر به.
وهذا أشد تهافتاً؛ لأن من أمر بشيء لم يوصف بأنه مخبر بأنه أمر به، وكذلك من لم يأمر لا بوصف بأنه أخبر بأنه لم يأمر ولا شبهة عند أحد من أهل التمييز في أن الخبر يخالف الأشياء، ولو صح ما قاله هذا لصح دخول التصديق والتكذيب في الأمر والنهي وتركها.
وقولهم: أنه تعالى يعلم جميع الأشياء، وكل من علم شيئاً فلا بد أن يكون في نفسه خبر عنه يطابق قضيَّة علمه، فهو هدر لا حاصل له /318/ ودعوى لا دليل عليها.
أما أوَّلاً فأحدنا يجد نفسه غير مخبره عن كثيرة مما يعلمه، ولولا ذلك لصح أن يقول لمن لقينا صدقت أو كذبت؛ لأنه ما من أحد إلا ويعلم أشياء.
وأما ثانياً فيقول: لم كان الخبر مطابقاً للعلم في حقِّه تعالى دون الأمر، وهلا كان أمراً بما بعلمه وإن كان قبيحاً، وليس في ذلك أكثر من الأمر بالقبيح، فقد جوز، وأما هو أعم منه وهو إرادته وفعله.
وبعد فكلامهم هذا مبني على أن الخرس والسكوت يضادّان الكلام، ولسنا نسلمه وإنما المرجع بالخرس إلى إفساد آلة الكلام وبالسكوت إلى إمساكها وسكينها عن التكلم مع القدرة عليه فلا يصح إطلاق الخرس والسكوت إلا على المتكلم بىلة.
بوعد فكيف يضادان الكلام ومحلهما اللسان ومحله القلب وعند الخصوم أن التضاد في حقنا لا يكون إلا على المحل.
وبعد فلو ضاداه لما صح من الله إيجاد الكلام في لسان الأخرس مع بقاء الخرس ومعلوم صحة إيجاده فيه كما يوجد في الحصى والشجر.
وبعد فالجماد ليس بمتكلم ولا أخرس ولا ساكت، وكذلك الصبي والبهيمة.
وبعد فأحدنا يوصف بأنه متكلم بما في الصدى، وإن كان أخرس أو ساكتاً حال حصوله في الصدى.
وبعد فقد ثبت أن المرجع بالحرس إلى فساد آلة الكلام، وذلك بأمور لا يشتبه الحال في أنها لا تضاد الكلام كالرطوبة المفرطة والجفاف المفرط ونحو ذلك.
وبعد لو خلق لأحدنا آلتان لصح أن يكون متكلماً بأحدهما وساكتاً بالأخرى، فلو كان الخرس والسكوت يضادان الكلام لتضادى أيضاً، فكان يحصل على صفين ضدين عد الخصم.
وبعد، فليس المعقول من السكوت إلا بسكين آلة الكلام، والذي يضاده هو الحركة لا الكلام ومتى رجعنا بالسكوت إلى أن لا يعقل الكلام مع القدرة عليه، فإن لا يفعل ففي ولا يصح مضادته لغيره.
وبعد، فلو كانا ضدين للكلام لصح إدراكهما بالآلة التي يدرك بها الكلام؛ لأن هذه سبيل الأضداد.
وبعد فهم نعتمدون في مضادتها للكلام على الشاهد وهما في الشاهد إنما يضادان الكلام الذي هو الحروف والأصوات لا الكلام النفسي.
ومتى قالوا للكلام النفسي ضد غير الخرس والسكوت المعروفين بل خرس وسكوت آخران.
قيل لهم: قد أفرطتم في الهوس؛ لأنكم كنتم أولاً في إثبات كلام غير الكلام المعقول وصرتم الآن في إثبات خرس وسكوت غير المعقول.
وبعد فهب أن الخرس والسكوت تضادان الكلام، فمن أين أنه تعالى إذا لم يكن متكلماً وجب أن يكون أخرس أو ساكتاً وعندنا أنه يصح خلق الحي عن الشيء، وعن ضده، ولولا هذا القيل لهم لو لم يكن فاعلاً فيما لم يزل لكان عاجزاً.
وبعد فيقال لهم: ما تريدون بقولكم يكون أخرس أو ساكتاً؟ أتريدون ماهو المعقول /319/ من الخرس والسكوت، وهو أن يكون مأوف الآلة أو ساكنها فذلك بترتب على ثبوت الآلة أو تريدون بذلك أنه يكون غير متكلم، فذلك لغو منكم وتكرار وإلزام ا نلتزمه، لكن من أين لكم أنه يوصف بأنه أخرس أو ساكت إذا كان غير متكلم مع إيهامه للخرس والسكوت المعقولين.
على أن بعض شيوخنا جوزوا وصفه تعالى بأنه ساكت في كل مالم يفعل فيه كلام، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما سكت الله منه فهو عفو)).
وبعد فيقال لهم: ما تريدون بقولكم: لو لم يكن متكلماً في مالم يزل لكان أخرس أو ساكتاً، أتريدون مع استحالة الكلام؟ أو تريدون مع صحة الكلام؟ فدلوا على أن الباري يصح منه التكلم في مالم يزل حتى إذا لم يتكلم لزم أن يكون أخرس أو ساكتاً.
شبهة أخرى
قالوا: لو لم يكن متكلماً بكلام قديم لكان متكلماً بكلام محدث، وذلك الكلام المحدث إما أن يحل فيه وهو لا يصح أن يكون محلاً للحوادث أو يحل في غيره، فهو لا يصح؛ لأن ذلك الغير يكون الكلام أخص به، فيكون بأن يوجب له أولى من الباري تعالى.
والجواب: كلامنا في كونه متكلماً ككلامكم في كونه رازقاً ومنعماً، فإن جعلوا الرزق والنعمة معنى قديماً قائماً بذات الله، فهو ظاهر البطلان وخلاف قولهم وإن جعلوه محدثاً فجوابهم جوابنا.
والتحقيق أن المتكلم عندنا هو فاعل الكلام ، فمتى فعل الله الكلام في محل محدث من جماد أو حيوان أو شجر وصف بأنه متكلم كالضارب إذا فعل الضرب والرازق والمنعم.
ثم يقال لأهل هذه الشبهة قسمتكم قاصرة فما الكريم أن يكون متكلماً لذاته.
فإن قالوا: هذا لا شك في بطلانه؛ لأنه يلزم أن يكون متكلماً بسائر ضروب الكلام كما أنه لما كان عالماً لذا أنه كان عالماً بجميع المعلومات.
قيل لهم: هذا لازم لكم في كونه تعالى متكلماً بكلام قديم؛ لأنه لا اختصاص للمعنى القديم كالعلم، ثم أكبر ما يلزم من كونه متكلماً بسائر ضروب الكلام أن يكون متكلماً بالكذب والهذيان وسب نفسه، فكذلك مما يجوز عندكم.
ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون متكلماً بكلام محدث حال فيه كما أن القدرة والعلم والحياة حالة فيه، فإن قالوا: ليست هذه المعاني حالة فيه، وإنما هي قائمة بذاته.
قيل لهم: فهلا كان الكلام المحدث قائماً بذاته كالمعاني القديمة، فإنكم مالم تفسروا القيام بالحلول لا يمكنكم المنع من قيام المعاني المحدثة به تعالى.
شبهة أخرى
قالوا: لو كلم بكلام محدث لكان قد قبل الحوادث، ولو قبل الحوادث لم يخل منها لصحة حلولها فيه فيكون محدثاً.
والجواب: أن هذا كلام فارغ فإنه لو صح لكان لنا أن نعارضهم بمثله في النعمة والرزق وسائر الأفعال، فنقول: لو كان منعماً بنعمة محدثة لكان قد قبل الحوادث إلى آخره.
وبعد، فلو أدى ذلك إلى صحة حلول الكلام المحدث ليؤدين إلى صحة حلول الكلام القديم فيه.
والحاصل /320/ أن الكلام كغيره من الأفعال.
القول في أن القرآن الكريم هو هذا الذين نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف
وقد خالف في ذلك المثبتون للكلام النفسي.
واعلم أنه لا ينكر هذا إلا مباهت مكابر وهو معلوم من ضرورة الدين وإجماع الأمة والقرآن ناطق بذلك، قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} وقال: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن}، وقال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا} وقال: {وقرآناً فرقناه لتقرأه} وقال: {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وقال: {وإذا قرأت القرآن} وقال: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} وقال: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} وقال: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه}، وقال: {ق والقرآن المجيد} وقال: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، وقال: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي}، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صلاة إلا بالقرآن))، وكذلك ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في الحث على تلاوة القرآن وعلى تعلمه.
وبالجملة فالسمع مشحون بهذا وهو المعلوم ضرورة من الدين.
وبعد، فالإجماع على أن في القرآن الناسخ والمنسوخ، والنسخ لا يتصور في المعنى النفسي، وكذلك الإجماع أنه معجز، وأنه في أعلا طبقات الفصاحة، وأنه عربي، وأن الجنب لا يقرأه، وكل ذلك لا يتأتى في الكلام النفسي.
فإن قيل: كيف يكون هذا الذي بيننا هو القرآن مع أن الكلام مما لا يبقى والذي فعله الله من القرآن قد عدم في الوقت الثاني، وغنما الذي يقرأه مثله.
قلنا: هو كلام الله بالحقيقة العرفية، كما يقوله الآن في قصيدة امرئ القيس أنها قوله على الحقيقة، وكذلك شعر سائر الشعراء وخطب الخطباء، فإنها مضافة إليهم على الحقيقة، وغن كانت أصواتهم التي فعلوها قد عدمت في الثاني، والمعنى أنهم أول من أنشأه وقاله.
ولا يقال: فكان يلزم أن يكون قد فعل مثل كلام الله؛ ولأنه إنما يلزم ذلك إذا فعلناه مبتدأ، فأما على جهة الاحتذاء والتلقين فلا يلزم.
القول في أن القرآن محدث
أهم ما ينبغي تقديمه هنا بيان محل النزاع، ولا شك أنا إذا قلنا القرآن محدث فإنما نريد به هذه الحروف والأصوات المتلوَّة في ألسنة الناس.
فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته فصلاً عن أن يحكم فيه بقدم أو حدوث، وأهل التمييز من المجبرة لا يكالمونا في هذا الموضوع؛ لأنهم يعترفون بحدوث هذا الذي يتلوه، ولكنهم يدعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير الذي يسمعه، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي.
وأما أهل البلَه منهم كالكراميّة والحنابلة وبعض أهل الحديث فيعترفون بأن الكلام هو هذه الحروف والأصوات المسموعة ويدعون أنه قديم.
والكلام عليهم من جهة العقل أن يقول: إن هذا القرآن /320/ مرتب في الوجود، فبعضه يتقدم على بعض، فالألف من الحمد متقدمة على اللام، واللام على الحا، وكذلك سائرها، وكل ما تقدمه غيره، فهو محدث، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقاتٍ محصورة، فهو محدث.
دليل، لا شك أن القرآن مقيد بالمواضعة من حيث نزل على لغة العرب ولغتهم إنما تفيد المعاني بالمواضعة، ولهذا تختلف دلالة الألفاظ بحسب اختياراتهم ومواضعهم.
دليل، لو كان قديماً لكانت حروفه موجودة دفعة واحدة في مالم يزل، ولو كان كذلك لبطلت فائدته، لوما كان معقولاً.
دليل، قد ثبت أنه معجز، والمعجز لا بد أن يكون محدثاً من حيث أن المعجز هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة.
دليل، لا شك أن الحروف والأصوات من قبيل الأعراض، وجميع الأعراض محدثة ومحتاجة إلى محال محدثة.
دليل، قد ثبت أن القرآن من أعظم نعم الله على خلقه وأجلها، وبه يتميز الحلال من الحرام، وغليه يرجع في كثير من الأحكام، ولهذا قال تعالى في معرض المنّ، {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} وقال تعالى لموسى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} ولا يعقل كونه نعم ومنّة إلا إذا كان محدثاً.