فصل
في إسقاط العوض، أما ما يعلم مقدراه كأروش الجنايات وقيم المتلفات وأنواع القصاص فلا شبهة في صحة إسقاطه من العاقل المختار، وأما ما يجهل مقداره، فإما أن يندب إلى إسقاطه كالأطعمة في الوجه وكالضرر الحاصل لأجل الغيبة والشتم ونحو ذلك، فقيل: لا يسقط؛ لأنه لا يعلم مقداره، فهو كالمحجور عليه، ولا يمتنع أن يكون لو علم مقداره لما سمحت نفسه بإسقاطه، وقيل: يسقط وهو الحق؛ لأن الشرع ندب إلى إسقاطه، وهو لا يندب إلى إسقاط ما لا يصح إسقاطه؛ ولأن له في الإسقاط ثواباً وهو أبلغ من العوض؛ ولأنه لو لم يسقط لما افترق الحال بين ما يبري ذمة غيره من مثل هذه المضار المذكورة، وبين من لا يبري، ولا كان إبراء الذمة يُعد إحساناً، فأما ما يستحق على الله من الأعواض فلا يصح إسقاطه؛ لأنه يبلغ في الكثرة مبلغاً لو علمه أحدنا لكان في حكم الملجأ إلى أن لا يسقطه؛ ولأنه لم يحصل فيه ندب يقتضي صحة إسقاطه؛ ولئن الإسقاط لا يصح إلا في حق من ينتفع بالإسقاط ويتضرر بالإيفاء ونحو ذلك.
فصل [في دوام العوض]
لا خلاف بين الشيوخ في أن الأعواض التي تستحق على العباد منفعة؛ لأن المعتبر فيها المساواة من حيث تجري مجرى أروش الجنايات وقيم المتلفات، فإيجاب الزيادة حيف.
واختلفوا في العوض يحسن من الله الإيلام لأجله، فقال الجمهور: يستحق لا على جهة الدوام.
وقال أبو الهذيل: وبعض البغدادية: يستحق دائماً، وبه قال أبو علي: أولاً ثم رجع إلى قول الجمهور.
لنا: إنما أوجبنا أن يبلغ مبلغاً عظيماً من حيث ألمنا من دون مراضاة ولا بد أن يبلغ العوض مبلغاً لا يختلف أحوال العقلاء في اختياره، وذلك حاصل مع الانقطاع، ألا ترى أنه لو قيل لأحدنا يمرض يوماً ويعطى ملك عشر سنين لاختار /309/ المرض لأجل الملك، وإن كان منقطعاً.

يوضحه أن العقلاء يستحسنون تحمل المشاق في الأسفار وإيلام الصبيان بالتعليم والتأديب لمنافع تنقطع، فلو اعتبر الدوام لما جسر ذلك؛ لأن شرط حسن الفعل لا يختلف باختلاف الفاعلين.
شبهتهم أنه لو كان منقطعاً لصح إيصاله في الدنيا، فلو علمنا تأخره إلى الآخرة، علمنا أنه دائم كالثواب؛ لأن ما كان في الآخرة فهو دائم.
والجواب عندنا: أنه يصح إيصاله في عرصة القيامة ويصح إيصاله في الدنيا، لكن بشرط أن لا يكون في ذلك مفسدة، وأن لا يكون على مستحقه عوض لغيره عند من لا يجيز أن يتفضل الله بإنفاء الحق على الظالم.
على أن في الأعواض مالم يمكن إيصاله في الدنيا كأعواض الأمانة وما يقارنها.
قالوا: لو وصلت إليه في الدنيا لعلمها.
قلنا: ليس العلم معتبراً في الأعواض، ولهذا يستحقها من لا يعلم كالبهائم، ومن لا عقل له بخلاف الثواب والعقاب، فإن من حقها الإجلال وعكسه، فلا بد من العلم.
شبهة
قالوا: لو كان منقطعاً لصح إيصاله دفعة واحدة لا في صحة انقطاعه.
شبهة
قالوا: لو انقطع التألم بانقطاعه فيستحق عوضاً آخر وأيضاً فلا تكليف في الآخرة يحسن لأجله هذا الإيلام في الآخرة.
والجواب: أنه ينقطع على وجه لا يتألم بانقطاعه كما سيتضح.
قالوا: لا بد في الألم من عوض واعتبار ومعلوم أن منافع الاعتبار دائمة، فكذلك منافع العوض.
والجواب: منع الجامع والفرق أن عند الاعتبار بمثل الطاعة، فيستحق المنافع الدائمة لأجل الطاعة، لا لأجل الاعتبار بخلاف منافع العوض فإنها تجري مجرى الإبدال.
تنبيه
القائلون بانقطاع العوض يجوزون أن يتفضل الله بأمثاله دائماً، فإن انقطع ولم يتفضل بأمثاله فلوجه حكمةٍ، وهو أن يرى صاحب الجنة ذلك وقد وثق بدوام نعيمه، فيزداد سروره ويراه صاحب النار وقد وثق بدوام عقابه فيزداد غمّه، ويتمنَّى الموت وإن تصبر جماداً كما حكى الله بقوله: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.
فصل

في كيفية اتصال العوض إلى مستحقه إن كان مستحقه من غير جنس المكلفين وصلت إليه أعواضه على الحد الذي أحسن معه إنزال الألم، ثم ينقطع، فإذا انقطعت جاز أن يتفضل الله بأمثالها، وجاز أن يميته معافصة، وجاز أن ينقله إلى صورة يلتذ بها أهل الجنة لو ينفر منها أهل النار، وكل هذا لا شبهة فيه.
والذي يستنبه الحال في هل يجب أن يكون العوض من جنس ما يألفه حتى يحصل للسباع افتراس في الجنة، وللخيل وللجمال حشائش وأبناء ونحو ذلك مما يُشنع به أهل الإلحاد وعندنا أنه يجوز أن يكون /310/ أعواضهم من غير جنس ما تألفونه، وإنما اعتبر ذلك في الثواب أن يكون من جنس ما يألفه المثابون لأمرٍ يرجع إلى أن الترغيب والترهيب لا تعقل إلا فيما ألغوه بخلاف العوض، وجائز أن يكون من جنس ما يألفونه، ولا يؤدي إلى افتراس ونحوه، بل يخلق الله للسباع لحوماً يعينهن على الافتراس.
وأما الحشائش فصحيح أن ينتفع البهائم بشيء من بنات الجنة.
وإن كان المعوض من جنس المكلفين فإن كان من أهل النار وصل إليه عوضه أما في عرصة القيامة أو في النار على وجه لا يقع له به اعتداد بأن يحقّق من عقابه بمقدار ما يستحقه، فإن دفع الضرر يجري مجرى النفع عنه، ولا يلزم أن يكون قد لحقه روح ولا راحَة؛ لأنه ينزل منزلة من يضرب بالسياط دائماً، فإنه إذا رفعت عنه ضربة واحدة لم يقع له بها اعتداد.
وإن كان من أهل الجنة وصل إليه عوضه على وجه يقع له به الاعتداد، واللذة مفرّقاً على الأوقات بحث لا يغتم بانقطاعه ويتنزل منزلة من بين يديه أطعمة لذيذة مختلفة الأنواع، ثم يؤتى بلقمة شهيَّة في خلال ذلك، فإنه يلتذ بها الالتذاذ اللائق ولا يغتم بفقدها، بل يمكنه الله من أن يخطر بباله انقطاعها.

الكلام في القرآن الكريم
القرآن هو كلام الله المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه أو بعدة آياتها، ولنا: أو بعدة آياتها؛ لأن الإعجاز ليس من حقه أن يكون بسورة، بل أقل ما ثبت فيه الإعجاز ثلاث آيات.
فصل [في حقيقة الكلام والمتكلم]
أما الكلام فهو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة وزاد بعضهم المتواضع عليها احترازاً من المهمل، وليس بصحيح.
وزاد ابن متوبة: الصادرة من قادر واحد احترازاً من أن يلفظ لا قط بالزاي من زيد وآخر بالدال ، وهذا غير محتاج إليه؛ لأنه لا يمكن القادر أن ينطق بالحرف الواحد.
قلنا: ما انتظم شبيهاً بالنظام الحقيقية لتواليه على السمع.
قلنا: من الحروف لأن الحرف الواحد لا يكون كلاماً.
وأما قولهم: عِ الكلام و شِ الثوب ونحوه، فأصله عي وشي من الوعي والوَشَى وإنما حذفت الياء تحقيقاً بدليل ارجوعها في التثنية وفعل المتكلم.
قلنا: المتميزة احترازاً من ضرير الباب وأصوات البهائم.
وقلنا: المسموعة احترازاً من الكتابة.
والشيخ أبو عبد الله والنحاة: يعتبرون الإفادة، فكأنهم أرادوا بذلك الكلام الاصطلاحي لا اللغوي، وذلك متفق عليه.

واعلم أن القائلين بإثبات الكلام النفسي فريقان: فريق ينكرون كون هذا المسموع كلاماً ويدعون أن تسميته كلاماً مجاز، وهذا مباهتة، وفريق يعتبرفون بأن هذا المسموع كلام ويدعون إثبات كلام آخر قائم بالنفس ويجعلون هذا الاسم مشتركاً بينهما، وهذا أيضاً بعيد عن التحصيل؛ لأن من ينفي الكلام النفسي كيف يسلم أن الاسم موضوع عليه بالاشتراك.
وأيضاً فالعرب لا يعقلون الكلام النفسي /311/ فضلاً عن أن يضعوا له عبارة أو يشركوا بينه وبين غيره فيها.
يوضحه أنه إذا أطلق الكلام فإنما يسبق أفهامهم إلى هذا المسموع.
وأما المتكلم فهو عندنا فاعل الكلام بدليل أن من علمه فاعلاً للكلام علمه متكلماً، ومن لم يعلمه فاعلاً للكلام لم يعلمه متكلماً.
ولهذا أضافت العرب كلام الممرور إلى الجن لما اعتقدوا أن الجن يفعله، فهو كسائر أسماء الفاعلين.
وقالت المجبرة: هو من قام به الكلام، وهذه إحالة لأنهم يحدون الكلام بأنه أيضاً ما قام بالمتكلم.
على أنا سنذكر الكلام النفسي ونبين أنه لو ثبت لما صح على الباري تعالى.
وأيضاً، فليس للمتكلم بكونه متكلماً حال تعلل بمعنى وإلا وجب صحة العلم بتلك الحال قبل العلم بما يؤثر فيها كسائر ما يوجب حالاً؛ ولأنه لا طريق إلى إثبات هذه الحال البتة، والذي يجده أحدنا من نفسه هو قدرته على الكلام، أو علمه بترتيب حرفه أو كيفيَّة إيرادها أو العزم عليها أو التفكر فيها أو القصد إلى إبرازها، ولأنه لو كان للمتكلم حال وقدرنا تضاد الحروف وانه خلق لأحدنا آلتان لاستحال أن ينطق بحرفين ضدين؛ لأنه كان يحصل عل حالين ضدين.

وعلى الجملة، فإذا أبطلنا الكلام النفسي صح أن حقيقة الكلام والمتكلم ما قلناه.
فإن قيل: هلا كان المتكلم من جلة الكلام أو حل بعضه أو أثر في آلته أو احتاج إليه أو قام به، أو لأنه كلام قلنا أكثر هذه باطل بالاتفاق.
ويبطل الأول والثاني أنه كان يجب أن يكون اللسان هو المتكلم والمبعوث بالرسالة والقاذف ولا مستحق للذم والمدح، وكذلك في الصدى؛ لأن الكلام قد يحله كما يحله اللسان، وكان يلزم أن تكون الشجرة هي التي كلمت موسى عليه السلام.
على أن أقل الكلام حرفان، ولا يكاد يوجد حرف إلا ومخرجه خلاف مخرج الآخر.
ويبطل الثالث أنه لا معنى لكونه أثر في آلته إلا أنه تضاد الخرس والسكوت عليها وسنبين أنه لا ضد للكلام.
ويبطل الرابع أن السائل إن أراد إباحته إليه أنه حلّة فقد أبطلناه، أو أنه الذي فعله فهو الذي يقول أوانه مضمن له لم يصح؛ لأن معنى التضمين هو أن لا تحصل الذات إلا على صفة ولا تحصل على تلك الصفة ولا تحصل على تلك الصفة إلا إذا حصلت على صفة أرى، لا تحصل على تلك الصفة إلا لمعنى، فتكون تلك الذات مضمنة بذلك المعنى كالجوهر والكون، وهذا غير ثابت في الكلام والمتكلم والألم يصح أن يحذوا أحدنا عن الكلام.

فصل
والذي يعرف إضافة الكلام إلى المتكلم في الشاهد، إما أن يشاهده بصدر منه أو يعلم وقوفه على قصده وداعيه أو يخبر بالصادق بذلك، والذي يعرف إضافة الكلام إلى الباري هو أن يقع على وجه لا يتأتى من القادرين بالقدرة إيقاعه عليه، كأن يوجد في الْحصَى والشجر أو يخبرنا فتى صادق بأنه كلام الله، وبهذا يعلم أن القرآن كلام الله؛ لأنه لولا السمع لجوزنا أن يكون من فعل غير الله تعالى، فإنه ليس من ضوررة المعجز أن يكون /312/ من فعل الله تعالى.
فصل
لا خلاف بين الناس في أن القرآن كلام الله، وإنما اختلفوا في القرآن ما هو.
فقال جمهور أهل العدل: هذا المتلو في المحاريب، المكتوب في المصاحف، المسموع من ألسنة القارئين، وبهذا قال بعض القائلين: تقدم القرآن كالكراميَّة والحنابلة وأصحاب الحديث. وقال شيخنا أبو علي وأبو الهذيل بمقالة الجمهور، لكن جعلوا الكلام من قبيل الحروف لا من قبيل الأصوات، فجعلوه جنساً غير الصوت مسموعاً مع الصوت وباقياً دون الصوت، وإنما قالوا بهذا لئلا يلزم أن يكون التالي قد فعل مثل كلام الله تعالى، وهذا غير لازم؛ لأن التالي يفعل مثل ذلك محتذياً، وليس من احتذى على فعل غيره يقال قد فعل مثله، فإن من أنشد قصيدة امرء القيس لا يقال قدحاً بمثلها، فبطل ما توهموه.
وقال جمهور المجبرة: كلام الله تعالى معنى قديم قائم بالنفس.
واختلفوا في هذا المتلو، فقالت الكلابية: هو حكاية كلام الله فألزمهم أصحابنا أن تكون الحكاية قديمة أو يكون المحكي محدثاً؛ لأن الحكاية والمحكي واحد، ولما رأت الأشاعرة وقوع هذا الإلزام قالوا: هو عبارة كلام الله لينفصلوا عن هذا الإلزام وما علموا أنه لازم لهم أيضاً؛ لأن العبارة لا بد أن يكون من جنس المعبر عنه وإنما فصل أهل اللغة في التسمية بين العبارة والحكاية من حيث أن الحكاية ترد بلفظ المحاكي والعبارة ترد بلفظ غير لفظ المعتبر عنه.

وسبيلنا أن نبين أولاً أن الكلام من جنس الحروف والأصوات، ثم نبطل الكلام النفسي، ثم يدل على أن هذا الكلام الذي بينا هو كلام الله تعالى، ثم يدل على أنه محدث وبذلك يتم الغرض في هذا الباب.
القول في إبطال الكلام النفسي شاهداً أو غائباً
أما في الشاهد فالمعقول من الكلام هو هذه الحروف والأصوات بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام، وإن علم المعنى النفسي.
وبعد فلا بد من القول بصحة إدراك المعنى النفسي.
فيقال: أرأيتم لو خلق الله فينا إدراكه هل كنا ندركه بصفة الحروف والأصوات حتى يكون مترتباً مفيداً متواضعاً عليه، فهذا إقرار بأنه من جنسها أو كنا ندركه على صفة غير هذه فما هي وكيف يكون كلاماً دون غيره من معاني النفس وبماذا يتميز عن غيره.
وبعد فالمعنى إذا لم يكن مدركاً ولا موجوداً من النفس فالدليل عليه إما صفة توجبها أو حكم يصدر عنه وقد قررنا أنه لا صفة للمتكلم بكونه متكلماً ولا حكم، ومعلوم أن هذا المعنى النفسي غير مدرك ولا موجود من النفس، فثبت أنه لا طريق إليه.
قالوا: أوليس أحدنا يجد من نفسه أنها طالبة إذا أراد أن يأمر غيره بشيء لذلك الشيء سواء وحدت الحروف والأصوات أم لا، فلذلك /313/ الطلب هو الأمر والأمر هو أحد أنواع الكلام.
قيل لهم: الطلب الذي يحده أحدنا من نفسه هو إرادة ذلك الشيء بدليل أنه لا يصح أن يقول طلبت وما أردت ولا العكس ولا شك أن الإرادة تثبت وإن لم يوجد الحروف والأصوات، بل لا يكون الحروف والأصوات أمراً إلا بالإرادة ليفترق الحال بين الأمر والتهديد والإباحة والتحدي.

وقولهم: إن ذلك الطلب هو الأمر باطل؛ لأن أحدنا يجد نفسه طالبة لفعل من الأفعال ولا يوصف بأنه آمرٌ به مالم يقل أفضل؛ لأنه قد اتفق العقلاء من أهل اللغة على أن الأمر من قبيل الأقوال وقد ادعى أهل العناد منهم أن هذا الطلب النفسي يوصف بأنه قول، ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد سهلت مكالمته، وقيل له: فهلا جعلت العلم والشهوة من قبيل الأقوال؟
وبعد فعند الخصوم أن السيد إذا أراد أن يظهر عصيان عبده له فإنه يأمره ولا يجد نفسه طالبة للفعل؛ لأن وقوع الفعل ظهور كذبه، فقد حصل الأمرين ممن دون طلب.
قالوا: الدليل على الكلام النفسي أن أحدنا إذا أراد الكلام وجد في نفسيه معنى، فذلك هو الكلام.
قيل لهم: الذي يجده في نفسه هو تصور الكلام والعزم عليه والعلم بترتب حروفه والتفكر في كيفيَّة إيراده، وكل هذه كما يجدها أحدنا من نفسه قبل الكلام بحدها أيضاً قبل الكتابة، وقبل البناء والسفر، فهلا كانت الكتابة والبناء والسفر معاني في النفس.
قالوا: العرب تقول: في نفسي كلام يقولون في نفسي الحج وبناء دار والسفر ونحو ذلك، فهلا جعلت معاني في النفس.
وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} ونحوها، فلن يعدوا ما ذكرناه من عزمهم على إيراد هذا القول وتفكرهم في كيفيَّة إيراده واعتقاد مقتضاه، ونحو ذلك، وقد قيل أنهم يطهرون هذه للأقوال في ما بينهم على حد لا يسمعها غيرهم ويوصف ذلك بأنه سر وبأنه قول في النفس.
ألا ترى أن أحدنا إذا كلم نفسه بحيث لا يسمعه أحد وصف بأنه سر، وقيل: فلان يحدث نفسه ويقول في نفسي وأشباه ذلك.
يوضحه أنه لو كان كما زعم الخصم من أن الذي في النفسي سيما كلاماً وقولاً للزم إذا أخطر أحدنا /314/ يناله أن يطلق امرأته أو يعتق عبده أن يطلق أو يعتق؛ لأنه قد قال: أنت طالق، ولكنه قال سراً ولا فرق بين السر والجهر في ذلك كما لو لفظ به في الخلاء.

وأما بنت الأخطل فلا يوثق به؛ لأنه كان نصرانياً فلا نأمن أن يكون دس لأهل الزيغ ما يوافق مذهبهم وكيف يوثق بكلام نصراني في أن القرآن معنى قائم بذات الباري، وقال ما يتوصل بذلك إلى نفي كونه معجزاً للشيء عليه السلام ومختصاً به، وإلى الذي جاء به محمد ليس بكلام الله.
وبعد، فلو كان الذي يحده أحدنا في نفسه كلاماً لما صح منا وصفه بأنه ساكت حتى يعلم أنه ليس في نفسه كلام، ولكان إذا حلف بطلاق امرأته ما قلت شيئاً، مع أنه قد وجد في نفسه ذلك أن تطلق وإن لم يلفظ به.
قالوا: أليس السيد يسير إلى عبده فيفهم مراده ويجب امتثاله، وكذلك الأخرس يجب وقوع طلاقه وعتاقه وكفره وغيمانه، ويصح منه القذف، فدل ذلك على أن الكلام في النفس.
قيل لهم: هذا نبأ منكم على أن الفهم والطلاق والعتاق والكفر ونحو ذلك لا يقع إلا بالكلام، ونحن نختر وقوعها بغير الكلام.
قالوا: لو كان الكلام من قبيل الحروف والأصوات لكان كل صوت كلاماً.
قيل لهم: لا يلزم ذلك كما لا يلزم إذا كان المشيء من قبيل الحركات أن يكون كل حركة مشيئاً، وإذا كانت الكتابة من قبيل التأليف أن يكون كل تأليف كتابة.
قالوا: أقل ما يكون الكلام عندكم من حرفين، ولا بد أن يعدم الأول عند وجود الثاني والكلام من حقه أن يكون موجوداً دفعه واحدة.
قيل لهم: أما من سلم منكم كون الحروف والأصوات كلاماً فلا يمكنه إيراد هذا السؤال، وأما من لا يسلم فيقال له: ولم زعمت أن من حق الكلام أن يوجد دفعة واحدة، ثم يرد عليه السؤال في العبارة والحكاية.
فيقال: من حقها أن تكون موجودة دفعة واحدة، وجوابه جوابنا، قالوا: يدل على الكلام النفسي هذه العبارة.
قيل لهم: إذا كان لا علقة بينهما وبينه لم يكن بأن يدل عليه أولى من غيره من المعاني القائمة بالنفس؛ إذ لا مخصِّص لشيء دون شيء.
فصل
وأما إبطال الكلام في حق الباري تعالى، فهو أنه لا طريق إليه كما تقدَّم.

48 / 75
ع
En
A+
A-