القول في الأعواض
العوض هو المنافع المستحقة لا على وجه الإحلال.
اعلم أن المضار التي يستحق عليها الأعواض هي مالم يكن مستحقاً كعقاب أهل النار، والحدود ولا في حكم المستحق كدفع الباغي والجمل الصائل بالقتل ونحوه، ولا حاصلاً عن تراضٍ كمشقة الأخير، وقتل المرء نفسه ولا مما يستحق عليه ثواب كمشاق الطاعة.
فصل
والعوض قد يستحق على الله تعالى، وقد يستحق على المخلوقات، فهذان قسمان، وكل واحد منهما ضربان، فالألم الذي يستحق على الله تعالى قد يستحق عليه؛ لأنه الذي فعل المضرة أو سببها، وقد يستحق عليه؛ لأنه في حكم الفاعل لها بأن يأمر أو يبيح أو يلجي، والذي يستحق على المخلوقات كذلك أيضاً قد يستحق؛ لأن المخلوق فعله، وقد يستحق؛ لأنه في حكم الفاعل له.
أمَّا الضرب الأول من القسم الأول وهو في الأعواض التي تستحق على الله في المضار التي فعلها أو فعل أسبابها، فذلك على وجوه:
منها: الأمراض والمصائب التي يفعلها مصالح وهذا ظاهر.

ومنها: الغموم التي تصيب المرء لأجل تلك الآلام والمصائب سواء كان الغم من فعل الله بأن يفعل فيه العلم الضروري أو جارياً مجرى فعلن بأن ينصب له أمارة يفعل الغم عندها، لن المرء لا يستحق العوض إلا على الغم الذي جرت العادة بمثله في مثل ذلك المغتم، فإن الحال يختلف فربما يبني الله بعض الأحياء بنية يسرع معها الخوف والفزع كالجبان، فيكون غمه أكثر فيستحق بحسنه مما جرت العادة به في حق مثله والزائد لا عوض فيه، وكذلك إن فعله لا عند أمارة كالممرور، وهذا الكلام فيما إذا علم أحدنا بكل المضار التي لأجلها يغتم، فإن لم يعلمها فهل يستحق عوضاً لأجل تقدير الغم أم لا؟ والأصل فيه أن ينظر فيه، فإن كانت تلك المصائب فما يختص غيره كمموت قرينة أو أخذ ماله ونحو ذلك، فلا يستحق عوضاً وينزل منزلة الإساءة بالكلام، فإن الاعتذار عندها لا يجب إلا إذا بلغت المشاء إليه وتضرر بها، فأما إذا لم يبلغه لم يجب الاعتذار، ولا العوض، بل يكفي التوبة بحسب الإمكان، عن كانت تلك المصائب مما تختصه كأن يتلف شيء من ماله ولا يشعر فاختلف الشيوخ.
فقال أبو هاشم: لا يجب العوض على الله كالأول؛ لأنه لا غم في الموضعين.
وقال القاضي: يجب وجعل الرق أن الشيء إذا كان في نفسه ضرراً لم يصير فيه علم المضرور، وهذه حالة إتلاف ماله بعين علمه بخلاف المسألة الأولى لولا هذا لما وصف أحدنا بأنه ظالم إذا أخذ مال الغير من دون علمه؛ لأن من حقيقة الظلم أن يكون ضرراً.
ولقائل أن يقول: إن الإتلاف إذا كان في نفسه /303/ ضرراً، فلا بد فيه من عوض مستقل في الموضعين، وإنما الكلام في العوض الحاصل على الغم عليه، فلا وجه لاستحقاقه عند عدم العلم في واحد من الموضعين.

ومنها: أن يحوج الله العبد بخلق الشهوة إلى طلب المشتَهى فيلحق المرء مشقة في طلبه أو غمّ في فقده فيستق العوض مالم يكن قد تمكن، فما يزيل تلك الشهوة فلم يختر إزالتها أو حال بينه وبين ذلك ظالم فيصير العوض على ذلك الظالم.
ومنها أن يلحق المرء مشقة ف يدفع ضرر يناله من جهة الله، ولم يكن دفع ضرر الأمراض بشرب الأدوية الكريهة، فإنه يستحق العوض على تلك المشقة أن يلحقه برد شديد فيسعى في طلب كن يلحقه بالسعي مشقة أو لا يجد الكِنَّ.
ومنها: أن يلزمه الله طلب قوت لغيره من عيلة ونحوها فيلحقه غمّ بفقدها، فيكون عوض الغمّ على الله إذا اغتم على فقد ما جرت العادة بتحصيله، فأما إذا اغتم على فقد الزائد فلا عوض في ذلك الغم، وحال الناس يختلف في ذلك، فمنهم من عادته تحصيل قوت السنة، ومنهم من عادته تحصيل قوت اليوم واليومين فعوض الغم بما جرت به عادة مثله.
فإن قيل: إن الله إذا ألزمه السعي كان له فيه ثواب، فكيف يستحق عليه عوضاً؟
قلنا: الثواب على نفس السعي والعوض هو على الغم الحاصل بفقد ما سعى له.
ومنها: أن يخلقه الله تعالى على ضرب من النقص بالنسبة إلى أبناء جسنه، إما بفقد آلة أو بقبح صورة أو سواد لون أو بقصر ونحو ذلك، فإنه يحصل له عوض إذا اغتم على فقد ما قد حصل لأبناء جنسه.
ومثله إذا اغتم بفقد ما حصل لأبناء جنسه من المال والنعمة والزينة ولم يتمكن من تحصيل ذلك الذي فقده.
ومنها: أن يمنعه الله بالشريعة من التصرف في ماله فيغتم بذلك كالمريض الذي حجز لعيه ثلثا ماله وجعل للورث فإن المريض قد يغتم لذلك من حيث منع من التصرف به وتقديمه لنفسه، وربما كان يجب أن يصير إلى غير الوارث أو يخص به نقض الورثة، وكذلك من حجز عليه ماله لأجل الجنون أو الدين أو نحو ذلك.

الضرب الثاني من القاسم الأول في المضار التي يفعلها العباد بإيجابه تعالى كذبح الفدية وجد التائب أو ندبِه كذبح الأضحية وتأديب الأولاد أو إباحته كذبح ما يؤكل لحمه وتأديب الخادم أو بإلجائه كأن يلجئه بصاعقة أو سيل إلى الغد وإلى زرع الغير أو وطئ شيء من الحيوان وفي كل هذه تجب العوض على الله تعالى؛ لأنه في حكم الفاعل لهذه المضار من حيث صار كمن يقول لفاعليها افعلوها ولا ضرر عليكم /304/ ولا تبعة، وهذا لا خلاف فيه بين الشيوخ. وإنما اختلفوا في المضار التي تصدر ممن لا عقل من دون إلجاء.
فقال أبو الحسين وأصحابه: وروي عن أبي علي وأبي الهذيل أن حكمها حكم ما تقدم في أن عوضها على الله تعال؛ لأنه مكنها من ذلك ولم يجعل لها عقلاً تزجرها عن فعل هذه المضار وتميّز به بين الحسن والقبيح وخلق لها من الشهوات ما صارت لأجله في حكم الملجأة والمغراه.
وقال القاضي والجمهور: الأعواض عليها لا على الله؛ لأنه لم يلجها ولا بعثها، ولكنه مكنها وليس بمجر دالتمكين ينتقل العوض على الله، وإلا لزم إذا مكن أحدنا غيره من سيف فقتل به أن يكون العوض على دافع السيف، بل على الحداد أو الصقيل؛ لأنهما اللذان جعلا السيف بالصفة التي معها يقطع.
واعترض بأن الخصم لم يجعل العلة في انتقال العوض إلى الله مجرد التمكين، بل لأنه مكنها وخلق الشهوة فيها وألهمها لمالها في ذلك من النفع ولم يمنعها بالنهي ولا بالقهر، فصار بذلك في حكم المغري لها والملجئ بخلاف المعطي السيف والصيقل، فإنه لم يكن منهما إلا مجرد التمكين والقائل ممنوع بالنهي فالعوض عليه لا عليهما.
يوضح هذا أن عند الجمهور أنا إذا أرسلنا الجارح أو الكلب على الصيد فإن العوض على الله تعالى؛ لأن الإرسال مباح لنا، وإذا كان كذلك فهلا وجب العوض على الله تعالى إذا كان هو المرسل، وإن لم يعقل في حقه إباحة.

قال الجمهور: قد حسن منا أن نمنع من لا فلق له من إنزال هذه المضار، ولو كانت أعواضها على الله لحسنت منهم هذه المضار ولم يحسن منا منعهم منها وذلك يقتضي أن لا يحسن منا منفع السباع من مواشينا.
قيل لهم: هذا وارد عليكم فيما إذا الجئوا إليها، وكان الوجه في الجميع أن الحسن لا يدخل في أفعال البهائم ومن لا عقل له، وإن دخل القبح كما تقدم.
وعلى الجملة فلا يصح أن يقال: أنها تحسن منهم ولا تقبح منهم بالاتفاق على أن جهة حسن الفعل وقبحه غير جهة استحقاق العوض عليه، فلا يلزم إذا كان العوض على الله أن يكون الفعل حسناً كحال الإلجاء.
وأما المنع فلا يحسن منا أن يمنعهم إلا حيث يلحقنا ضرر كمنعنا للسباع من مواشينا وحيث يؤمر بمنعها كمنعنا للصبيان والمجانين عن الأضرار بالغير وما عدا ذلك لا يحسن المنع منه حتى لا يحسن منا أن نمنع الأسد من افتراس الصبي ونحو ذلك بل ربما يقبح منا.
قال الجمهور: قد ثبت أن الصبي إذا جنى جناية وجب عوضها في ماله فثبت أن العقل غير معتبر في استحقاق العوض؛ لأنه يجري مجرى أروش الجنايات وقيم المتلفات.
قيل لهم: ورد الشرع بذلك لمصلحة يعلمها الله، ومتى تألم الصبي لأجل أخذ الأروش من ماله /305/ كان له عوض على الله تعالى وصار الحال في ذلك كمنعنا إياه من شرب الخمر وأخذنا له بالصلاة، فإنا أمرنا بذلك لمصلحة شرعيّة وهي أن يسهل عليه فعل الصلاة وترك الخمر حالة الكبر، وله إذا تألم بذلك عوض على الله تعالى.
قال الجمهور: قال الله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} ولا وجه لحشرها إلا توفير أعواضها.
قيل لهم: وكذلك فمن أين يكون عليها أعواضاً لغيرها؟
قالوا: ورد الحديث ((أن الله لينتصف للجما من القرناء)).
قيل لهم: هذا الخبر أحادي وغن ثبت فمعناه الجمال لأجل ما فعلت القرناء، وأورد ذلك بهذه الصيغة مبالغة في الانتصاف للضعيف من القوي.

وأما الضرب الأول من القسم الثاني وهو الأعواض التي تستحق على العباد في المضار التي فعلوها أو أشياء بها وسواء كان ذلك ضرر أو تفويت نفع وذلك يجوز أن يقتل غيره ظلماً فإنه يستحق عليه عوضاً في مقابله، ألم القتل وعوضاً في تفويت تفويت منافع الحياة إن فرضنا أنه كان يعيش لا محالة، وعوضاً في مقابلة تفويت الأعواض الزائدة التي كان يستحقها لو كان ألم الموت من جهة الله تعالى وأحوال الناس تختلف في جمي عذلك، وربما اغتم آخرون بقتل هذا المقتول، وكان في جناية لهم نفع فيستحقون العوض على القاتل.
فإن قيل: أرأيتم أنه لو كان المعلوم أنه لو لم يقتل لعاش وكفر وازدادت ذنوبه، هل يقع فرق في استحقاقه للعوض على القاتل؟
قلنا: لا فرق؛ لأنه كما يتمكن بالحياة من الكفر وغيره من المعاصي فهو أيضاً يتمكن بها من الإيمان وسائر الطاعات، فنفس الحياة نعمة قد فوتها القاتل، وعلى هذا نقول: إذا منعه من الانتفاع بأملاكه وتألم بذلك استحق العوض، وغن كان في معلوم الله أنه لو لم يمنع لما انتفع بها أو تضرر، لكنه يجوز ان لا يستحق القدر الذي يستحقه، لو كان المعلوم أنه ينتفع لو لا المنع.
ومثل هذا يجري الكلام في من منع غيره من التصرف لمعاشه بحبس أو نحوه، وغن كان المعلوم أنه لو لم يحسبه لأهلك نفسه ومثله الكلام في الظالم إذا منع غيره من المباح كان يمنع الراعي من رعي مواشيه في أرض مخصوصة للراعي أن يرعى فيها.
وقد اختلف في هذه الصورة من المستحق للعوض على المظالم.
قيل: والأول أن المستحق للعوض هو من كان أخص بتلك الأرض وأقرب غليها ويجري مجرى الملك.
وقيل: يستحقه كل من المعلوم أنه كان ينتفع بتلك الأرض لو لا المنع.
وقيل: يستحقه كل من يصح انتفاعه بها؛ لأنه قد صار المعلوم أنه لو رام الرعي فيها لمنع.

ومثله الكلام إذا منع الظالم بيوت الأموال من مستحقها والزكوات والأوقاف ونحو ذلك مما لا يمكن تعيين مستحقه، ومثله إذا غصب مالاً قد اختلف في مستحق كالمال الموروث، فإنه قد قيل يستحق العوض كل من له نصيب /306/ قال به مجتهد.
وقيل: يستحقه من المعلوم أن الحاكم كان يحكم له به، فعلى مثل هذا يجري الكلام في مثل هذا الضرب.
وبالجملة: كل ألم أو غم يفعله بغيره أو يفعل سببه ولم يحصل ما يقتضي نقله عنه، فإن عوضه لعيه وعلى هذا لو اجبر رجل بموت آخر متعمداً للكذب أو على وجه قد نهى عن الأخبار عليه، فاغتم أهل ذلك الرجل فإن عوضهم عليه.
الضرب الثاني من القسم الثاني في المضار التي يتكون العباد في حكم الفاعلين لها والفاعل لها غيرهم، وذلك نحو أن يلجئ أحدنا غيره إلى الغد وعلى زرع الغير أو وطئ شيء من الحيوان، فإن العوض عليه ونحو أن يعرض أحدنا غيره لضرر قد علم أن الله تعالى يفعله بمجرى العادة، فيكون العوض على المعرِّص كأن يضع صبيا ًفي النار أو البرد أو يلقيه إلى الأسد بحسب الخلاف المتقدم، ونحو أن يشهد شهود الزور بأن زيداً قتل عمراً، فيصل زيداً وشهدوا بأنه زنى، فحدَّ ونحو ذلك، فإن الأعواض على الشهود وكذلك إذا شهدوا أن المال لزيد كان العوض عليهم؛ لأنهم السبب في جميع تلك المضار.
فصل [في المضار التي يشتبه الحال في هل أعواضها على الله أو غيره أو هل فيها من أعوام أم لا]
فمنها: إذا قتل أحدنا غيره ظلماً ثم انقاد لورثته على من يكون عوض المقتول الأول؟
عندنا أنه يكون على الله تعالى؛ لأنه يقل ما يستحقه على القائل إلى ورثته، فجعله حقاً لهم لمصلحة شرعيَّة، فبنقله له صار الحق عليه تعالى، وقيل: يكون عوضه على المنقاد وعوض المنقاد على الله تعالى.

وهذا باطل ؛ لأن المنقاد لا يستحق عوضاً من حيث أن ألمه مستحق، سواء كان تائباً أم لا؛ لأن التوبة إنما تسقط حق الله، فأما حق المقتول فهو عليه، فلما جعل استنفاء حقه إلى الورثة واستوفوه سقط الحق عن المنقاد؛ لأنه ليس عليه إلا عوض واحد وصار حق المقتول على الله لنقله إلى ورثته، فإن قدرنا أن القاتل مات ولم يَنْقذ فإن مات قبل موت الوارث الأوَّل فالحق عليه للوارث الأول يوم القيامة، ولا معنى لما ذكره بعض المتأخرين من أن الحق يكون للمقتول يوم القيامة ويبطل حق الوارث؛ لأن الله تعالى قد جعله حقاً للوارث، ولم يحصل ما ينقله عنه، فهو كالمال الذي يستحق للوارث، وغن مات في زمن الوارث الثاني وبعد موت الأول.
فقيل: يصير عليه حق للوارث الأول، وللوارث الثاني.
وقيل: إنما ألحق للوارث الثاني، وهو الصحيح؛ لأنه ليس عليه إلا حق واحد، وقد نقله الله من الوارث الأول إلى الثاني فهو حق له فقط، وحق الوارث الأول على الله لأجل أنه نقل الكلام في رجل حفر بئراً يقصد أن يتردى فيها الغير /307/ فسار ذلك الغير حتى تردى فيها أو جعل سماً في طعام ثم يناوله الأكل فقتله: قيل: لا عوض للمتردي ولا للآكل؛ لأنه الذي ردَّى نفسه، وتناول السم، وقيل: إن لم يجد طريقاً غير طريق البئر ولا طعاماً غير ذلك المسموم استحق العوض على الحافر والمسمم وإلا لم يستحق شيئاً.
وقيل: يستحقه على كل حال على الحافر والمسمَّم؛ لأنه المسبب في لحوق هذه المضرة، ولهذا يوجب الفقهاء الدية أو القود.
وإن كان حفره للبئر وحطه للسم لغرض غير هذا بل فعله في ماله لمنافعه، فجاء الغير فتردى أو تناول الطعام، فلا شبهة في أنه لا يستحق عوضاً.
وإن كان ملجأ إلى ذلك فالعوض على ذلك الملجئ أو من في حكمه، وغن أبيح له ذلك.

فإن كان المبيح هو الله تعالى فالعوض عليه، وإن كان المبيح هو صاحب الطعام وصاحب الأرض بأن يقول: قد أبحت لفلان المسير في أرضي والأكل من طعامي، احتمل أن يكون العوض عليه؛ لأنه فاعل السبب، وقد كان متمكناً من تحذيره، واحتمل أن يكون لا عوض له؛ لأنه المضر بنفسه، واحتمل أن يكون العوض على الله تعالى؛ لأنهما مغتران جميعاً، وقد أباح الله لهما ذلك وتصير إصراره بذلك كإضرار البهيمة به وبنفسها.
ومنها: الكلام في رجل خرج غيره خطأ فأخذ الأرش من ماله فاغتم، فعلى أصول الجمهور لا عوض له؛ لأنه الجاني على نفسه.
وعلى أصل أبي الحسين: يستحق العوض على الله تعالى؛ لأنه في حكم الساهي، ومن لا عقل له، وإنما لزمه الأرش لمصلحة شرعيَّة كما لزم على فعل الصبي والبهيمة.
ومنها: الكلام في رجل جرح غيره فسرت الجراحة حتى قتلته، فإنما يستحق عليه عوض الجرح دون الزائد، وغنما تجب عليه القود لمصلحة شرعيَّة، ومتى انقاد فمقدار ذلك الجرح مستحق، والزائد عوضه على الله تعالى.
فصل
ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يتفضل الله بالأعواض التي تستحق على العباد حتى يوفيها عنهم.
وقال ابن الملاحمي وغيره: تجوز حجَّة الجمهور أنه يجب الانتصاف للمظلوم من الظالم، وإلا كانت التلخية بينهما قبيحة.
واعترض بأنه إنما يجب الانتصاف إذا لم يتفضل الله بانتفاء الحق عنه، وبكل واحد من الأمرين يخرج التخلية عن القبيح.
قال الجمهور: التفضل بما يجب على الظالم يسقط حق المظلوم ويخرجه من أن يكون له حق؛ لأن التفضل لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله.
قيل لهم: ليس في ذلك إسقاط حق المظلوم، بل يجب أن يوصل إليه منافع العوض، فإن تفضل الله بها سقط عن الظالم، وإن لم يتفضل بها فهي على الظالم وتصير كمن يقضي الدين عن غيره تفضلاً، فكما أن هذا التفضل لا يسق حق صاحب الدين، بل أن يفضل به سقط وجوبه، وإن لم فوجوبه، فكذلك هذا.

تنبيه لما ذهب الجمهور إلى المنع من التفضل بالعوض منعوا أن يمكن الله الظالم من إيلام المظلوم إلا إذا كان في المعلوم /308/ أنه يموت، وله من الأعواض ما يوفي عنه المظلوم، والأمتعة بضرب من الموانع والشواغل.
فإذا قيل لهم: نحن نعلم أن في الناس من يشتد ظلمه ويعم جوره كالحجاج ونحوه، ويعلم أنه يعيش في رفاهيَّة ودعة، فمن البعيد أن يكون له من الأعواض ما يوفي به المظلومين.
قال: لا نسلم ذلك، بل لا بد من أن يصل إليه من الآلام والغموم في الدنيا ما يكون عوضه مؤقتاً لأهل الحقوق، فإنه لا يمتنع أن يحصل عليه من الغموم بالموت أو غيره شيء عظيم لفوات دنياه ولذته وشبابه وربما يعظم الله عليه آلام الموت بحيث يستحق عليها ما يوفي أهل الحقوق.
فأما من ذهب إلى جواز التفضيل بما يستحق على الظالم من الأعواض فإنه يجوز أن يمكنه من الظلم، وإن لم يكن له أعواض لكنه لا يمكنه من ذلك إلا وقد علم أنه يتفضل عليه ويصير من حالة التمكين كالملتزم بما يجب عليه من الأعواض كمن يلتزم ما على المفلس من الدين، فإنه إذا التزمه لزمه ولزومه لا يخرجه عن كونه تفضلاً في الأصل.

47 / 75
ع
En
A+
A-