فصل [في طريق الوصول إلى الرزق]
واعلم أن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى؛ لأنه الذي خلق ما يصح الانتفاع به، ومتى صار ذلك ملكاً لنا فلأمور جعلها الله أسباباً للملوك.
يوضحه أن أحدنا قد يجتهد /297/ في طلب الرزق فلا يحصل وقد يحصل ما يسر ما يكون، وقد يدخل الشيء في ملك أحدنا من غير اختياره كالمواريث ونحوها.
إذا ثبت هذا فطريق الرزق قد يكون عقلياً وقد يكون شرعياً.
فالعقلي: هو ما يجوزه المرء ويحصله من المباحات كغرف الماء وإحياء الأرض، أو يكون من طريق المكاسب كالإجارات وعقود المعاوضات من بيوع وغيرها، أو يكون مبتدأ كالهبات والإباحات ونحوها، وليس احتياج ذلك إلى شروط شرعيَّة تخرجها عن كونها عقليَّة هنا ؛لأن المراد بذلك أن لو خلينا وقضيّة العقل لاستحسنا التصرف فيها عند أحد هذه الأسباب المذكورة.
وأما الشرعي فكالمواريث والوصايا، فإنا لو خلينا وقضية العقل لأجريناه مجرى مالا مالك له من المباحات، فيكون من سبق إليه أحق به، لكن الشرع خص به البعض دون البعض، وكذلك الغنائم فإن العقل يقضي بأن أهلها أحق بها، وكذلك الصدقات وبيوت الأموال.
فصل
زعم المتأكلة وأهل الكسل أن طلب الرزق محظور، قالوا: لأن في طلبه تركاً للتوكل وما صدقوا فإن التوكل هو طلب الرزق من وجوهه وحسن الظن بالله في جميع الأحوال، وقد جاء الشرع يحسن طلب الرزق وقال تعالى: {وابتغوا من فضل الله} وقال: {وآخرون يبتغون من فضل الله} وفي الحديث: ((من طلب مالاً حلالاً ليصل به رحمه..)) الخبر، وقال عليه السلام: (لو توكلتم على الله حق توكله لكنتم كالطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) فأخبر أنها تغدوا وتروح ولم يقل أنها تقعد في أعشاشها، ولسنا نمنع أن يرزق الله أحدنا وهو نائم على سريره، ولكن جرت العادة بخلافه، ولو جرت به عادة فهو لا يخطر طلب الرزق.
ويقال لهم: هلا توكلتم على الله إذا حظر الطعام بين أيديكم فلا تمدون إليه الأيدي ولا تفتحون إليه الأفواه حتى يأتي الله بمن يفعل بكم ذلك، وإنما تشكل هذه الطريقة من يؤثر الدعة ويسبق لي عليه العجز من الصوفية وغيرهم.
وأما من يقول أن المعاملات قد فسدت والسلطنة قد جارت وقد كثر الربا وقل التحري فيحرم التكسب؛ لأن أحدنا لا يأمن أن يقع في حرام؛ ولأن فيه إعانة للظلمة بالزراعة وطلب المال، فقد أبعد أيضاً؛ لأنه وإن كان كذلك فإنما يحسن من أحدنا طلب الرزق من الوجه الذي ظاهره السلامة، ولهذا كان السلف يبيعون من الكفار ويشترون، ومن الفساق وبداينوهم، والله هو المطلع على السرائر، فإذا كان في يد أحد شيء فالظاهر أنه له، ومتى قدَّرنا أن الظاهر الحرام وفساد المعاملات ولم يجد طريقاً إلى طلب الحلال فالضرورة حينئذٍ تبيح طلب الرزق.
وأما قولهم: أنها إعانة للظلمة، فأشد بُعداً؛ لأنه إنما يكون معيناً لهم إذا أراد فعلهم، فأما إذا أخذوه منه كرهاً /298/ فلا يقال أعانهم، وإلا لزم في كل مظلوم أن يكون قد أعان الظالم، وخلافه معلوم.
فصل
اعلم أن الرزق يد يكون لطفاً وقد لا يكون، فما علم الله أن المرء قد يمتثل الطاعة لأجله منه فهو لطف ومالم يكن كذلك فطريقه التفضيل، ولا فرق فيما يكون لطفاً منه بين أن يكون لطفاً للمرزوق أو لغيره، لكنه إن كان لطفاً لغيره فهو يفضل في حقه.
القول في الأسعار
السعر هو تقدير الثمن الذي يقع عليه التراضي بين المتبايعين في هذا التقدير إن كان أكثر مما جرت به محادة ذلك الزمان فهو غلاء وإن كان أقل فهو رخص.
فصل
ومعنى إضافة الرخص والغلاء إلى الله تعالى هو أن يكثر الحب ويقوِّي دواعي الناس إلى بيعة، ويُقلل الطالبين له وينهي عن ادخاره ونحو ذلك، وأسباب الغلاء عكسها كأن يقلل الأمطار أو يسلط على الثمار آفة أو يكثر الطالبين له ويقوِّي دواعيهم إلى ذلك، فعلى مثل هذا يصح إضافته إلى الله تعالى، أما على معنى أنه الذي قدَّر الأسعار فلا يصح؛ لأن ذلك فعل العباد وحاصل بحسب تراضيهم، وكذلك قد يكون سبب الغلاء من جهة الظلمة بأن يقطعوا الطرق أو يسدوا الثمار أو يعضبوا الأشياء التي ينتفع بها أو يمنعوا من البيع ويجعلوه إلى واحد مخصوص ليحمل لهم في مقابله ذلك مالاً أو يكرهوا الناس على أن لا يبيعا إلا بالغلاء لكي تتفق سلعهم، وكذلك قد يكون سبب الرخص من جهتهم بأن يمنعوا الناس أن لا يبتغوا إلا بقدر مخصوص ليشتروا منهم أو يكرهوهم على الانتقال من بلدهم فيبيعوا أثقالهم بخفة أثمانها ونحو ذلك.
فصل
ومتى كان سبب الرخص والغلاء من جهة الله جاز أن يكون لطفاً للعباد، كأن يعلم الله أن عند ذلك يختارون ما كلفوه أو يكونون أقرب إلى اختياره، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين..} الآية، وقد تكون على جهة العقوبة وسلب النعم، وكذلك قد يكون في كثرة الأمطار مفسدة ورخص الأسعار، ولهذا قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض}.
القول في الآلام والغموم
الألم: هو المعنى المذدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة، فإن كان مع الشهوة سمي لذَّة، وإلا فهو من جنسها.
والغمّ: هو اعتقاد الحي أو ظنه بأنه عليه أو على من يجب في فعل الغير فوت نفع أو جلب ضرر في المستقبل، ويفارق الخوف مفارقة العام للخاص في بعض صوره.
فصول في الوجوه التي شبهه في إثبات ثان لله وفي جواز كل قبيح على الله وفي التعطيل عند ابن الروندي حيث رأى أهل العلم والفضل مبتلين بمقاساة الفقر والأمراض والمصائب وأهل الجهالة والوضاعة بالعكس حتى أنشد البيتين المعروفين/ 299/:
كم عالمٍ عالم أعيت مذاهبه .... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الأوهام حائرة .... وصيَّر العالم النحرير زنديقاً
وكذلك أبو عيسى الوراق فإن ذبح البهائم صار شبهة له حتى صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، وكان السبب في جميع ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام وميله إلى الذات.
فصل
ويحسن الألم من فعلنا إذا كان يجلب نفع أو دفع ضرر أعظم منه أو استحقاق أو الظن لأحد الوجهين المتقدمين، وهذا لا شبهة فيه، فإن كل عاقل يعلم حسن تحمل المشاق في الأسفار ومعالي الأمور ومشاق التعليم طلباً للمنافع، سواء كانت معلومة أو مظنونة، وكذلك يستحسنون الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة ونحو ذلك لدفع مضار هي أعظم منها، سواءً كان اندفاعها معلوماً أو مظنوناً، وكذلك يستحسن كل عاقل إيلام من آلامه أو غيره.
وأما الظن لاستحقاق الألم فلا يكفي في حسن إنزاله؛ لأن المنزل له يكون مقدماً على مالا يأمن كونه ظلماً.
وقال أبو هاشم: يحسن، واحتج بإنزال الحدود عند الشهادة التي لا تفيد إلا الظن.
وأجيب بأن ذلك ورد به الشرع لمصلحة شرعية حتى لو تركنا، والعقل لما استحسناه، وقد دخل في هذه الجملة بطلان جميع الأقوال المتقدم ذكرها.
فصل
وإن كان الألم من فعل الله لم يحسن إلا لأحد وجهين: إما مستحقاً ولا شبهة في هذا كعقاب أهل النار ونحوه، وإما لمجموع العوض والاعتبار كالآلام النازلة بالمكلفين وغيرهم ليخرج بالعوض عن كونه ظلماً، وبالاعتبار عن كونه عبثاً، وكان أبو علي يذهب إلى أن العوض كاف في حسنه.
فإذا قيل له: قد كان يحسن الابتداء بمنافع العوض فيكون الألم عبثاً.
أجاب بأن فائدته أن يصير العوض مستحقاً، وليس المستحق كالمتفضل به، وهو أيضاً مستحق على جهة الدوام بخلاف التفضيل.
وأيضاً فلا يمتنع أن يعل الله أنه لا يوصل إليه هذه المنافع إلا إذا آلمه.
واعترضت عليه هذه الوجوه كلها بأنها لا تخرج الألم عن كونه عبثاً لصحة الابتداء بمنافع العوض وإدامتها وكونها مستحقة ككونها غير مستحقة في ما يرجع إلى النفع، فثبت أن الصحيح ما رجع غليه من أنه لا بد من الأمرين.
وقد ذهب عباد إلى أن الاعتبار كاف في حسن الألم ويلزمه في من لا يعتبر كالساهي والنائم والبهيمة والمجنون والأطفال أن يكون إنزال الألم عليهم ظلماً لفقد ما جعله وجهاً في الحسن، وكذلك الألم النازل بالمكلَّف فإنه لا يكفي في حسنه /300/ الاعتبار أن النفع الحاصل بالاعتبار هو في مقابلة الطاعة، فيبقى جانب الألم خالياً عن النفع.
شبهة
إن أحدنا إنما يستحق الثواب أو العوض على فعل نفسه والألم من فعل الله. وأيضاً فلو حسن للعوض لحسن مثاله.
والجواب: عن الأول أن الذي يستحقه على فعل نفسه هو الثواب فقط، فأما العوض، ألا ترى أنه لو قتل نفسه لم يستحق عليها عوضاً، فالأعواض وما يجري مجراها من أروش الجنايات وقيم المتلفات لا تستحق أبداً إلا على الغير.
وعن الثاني أنه معارض بالاعتبار، فيقال: لو حسن منه للإعتبار لحسن منَّا.
والتحقيق أن الباري حكيم يجعل لنا من الأعواض ما يوفي على الآلام أضعافاً مضاعفة، بحيث لو خيَّرنا بينها وبين الآلام لاخترناها بخلاف أحدنا؛ فإنه لا يضمن لغيره في مقابلة ما ينزله من العوض المقدار الذي يجعله الله ولا يعلمه ولا يسمح به نفسه لو علمه، ألا ترى أنه لا تطاوعه نفسه أن يُقَوِّم رجلاً من أمناء الناس من مكان ويعطيه في مقابله ذلك ألوف دنانير، وأيضاً فن الله لا يفعل الألم إلا إذا حصل مع العوض اعتبار، ولسنا نعلم ذلك من حال الألم الذي من فعلنا.
فإن قيل: قد ثبت أن التبقية والعافية والحياة ونحو ذلك من نعم الله، وليس المرجع بالأمراض والموت إلا إلى زوال هذه النعم، فهلاَّ كان لله أن يزيلها بهذه الأشياء، وغن لم يكن هناك عوض واعتبار.
قلنا: قد كان الله قادر على أن يزيلها من دون الإيلام بأن يميته معافصة وأن لا يحدد الشهوة المتعلقة بالفائت ولا النفرة المتعلقة بالحادث، فإذا كان الإيلام زائداً على إزالتها وجب أن يحصل فيه ما ذكرنا.
فإن قيل: فهلا حسن منه الإيلام لرفع الضرر كالشاهد، قيل له: الضرر المزال إن كان مصلحة فلا يحسن إزالته وإن لم لكن مصلحة فإن كان من فعل الله فقد كان يمكنه أن لا ينزله ولا ينزل ما يزيله، فيكون في إنزاله وإنزال ما يزيله ظلماً وإن اكن من فعل غيره فعليه تعالى أن يمنح ذلك الغير بالنهي إن كان مكلفاً، وإن كان بالقهر إن لم يكن مكلفاً وإلا أنصف المضرور من الأعواض الضار.
تنبيه لما ذهبت البكرية وأهل التناسخ إلى أن الألم لا يحسن إلا مستحقاً.
قيل لهم: فكان لا يحسن إنزاله بمن يعلم أنه لا يستحقه كالأطفال والبهائم، فعند ذلك افترقوا فقالت البكرية: إنهم لا يألمون، وهذا رد لما يعلم ضرورة، ولو لا هذا لما كان فرق بين أن يوضع الصبي في النار أو على الشوك وبين أن يوضع على الحرير.
وقال أهل التناسخ: إنهم كانوا عصوا الله في هياكل غير هذه فنقلهم الله إلى هذه وآلمهم عقوبة.
ويبطل قولهم مع ما تقدم أن يقال: هذا بناء منكم على أن الإنسان العاصي /301/ الطابع هو الروح المنتقل في الهياكل، وهو عندنا باطل.
وبعد فهو إثبات ما لا طريق إليه، ويلزم عليه أن يذكر أحدنا الحالة التي كان عصى وهو فيها لا سيما إذا كانت حالة عظيمة، كأن يكون رئيساً أو عظيماً، وليس تحلل زوال العقل يمنع التذكر للأحوال العظيمة عند عوده.
وأيضاً فإنه لا بد أن يكون المتألم كامل العقل ليعلم أن ما نزل به عقاب على ما أذنب وأن الله تعالى عدل حكيم، وليعلم عين ذلك الذنب الذي لأجله استحق هذا العقاب، وأن يكون له طريق إلى تلاقيه بالتوبة.
وبعد، فما ذكروه يؤدي إلى التباس بعض ببعض وفيه زوال الثقة وبطلان أحكام المدح والذم والشهادات والبيوع والأنكحة لجواز أن يكون الفاعل قد نقل إلى قالب غير هذا.
وبعد، فلو كانت الآلام النازلة بالأطفال والبهائم مستحقة على جهة العقوبة لحسن ذمهم ولعنهم والتبري منهم كما تقوله المجبرة في تعذيب أطفال المشركين ومعلوم أن في المؤلمين من لا يحسن ذمه، بل من يحب مدحه كالأنبياء والصالحين.
فصل [في الوجه الذي يقبح عليه الألم]
ذهب الجمهور أنه يقبح لكونه ظلماً وعبثاً، ولا ثالث لهذين الوجهين.
وقال الثنوية: لكونه ألماً.
وقال أهل التناسخ: لكونه غير مستحق، وقد تقدم إبطال قول الجميع.
وكان أبو هاشم يذهب إلى أنه يقبح ضرراً فقط ويجعل الوجوه التي تقتضي حسنه مخرجة له عن كونه ضرراً بأن يحصل فيه نفع أو دفع ضرر، ولما الزم في العقاب أن يقبح أجاب بأن التذاذ العاصي بالمعصية قد أخرجه عن كونه ضرراً.
وهذا باطل؛ لأنا نعلم أنه قد يستحق العقاب على كثيرٍ مما يلحق به ضرر ومشقة كرهبانيَّة النصارى وحفظ اليهود للسبت وعبادة الأصنام ونحو ذلك.
وشبهته أنه قد ثبت في من أخرج من ملكه ثوباً ليأخذ به ديناراً أنه لا بعد فعله ضرراً لما حصل بإزائه منفعة معجلة، فيجب في ما فيه جلب نفع أو دفع ضرر أن لا يعد ضرراً.
والجواب: أنما يستقيم ما ذكره رحمه الله تعالى لو تنزلت حاله كل ضرر حسن منزلة من يخرج ثوباً بدينار ونحو ذلك مما يتعجل به النفع أو دفع ضرر ، فأما إذا تراخى النفع أو الدفع فلا محالة أن الألم النازل به يعد ضرراً، ومهما يكن فلا يمكن أن يقال: إن لذة شبعة واحدة تخرج العقاب الدائم عن كونه ضرراً، فثبت أن الصحيح ما رجع إليه أجراً.
وقد ذهب أبو علي إلى أن الألم إنما يقبح لكونه ظلماً وما يعده الشيوخ عبثاً، فإنه يجعله بصفة الظلم نحو من يستأجر غيره على عمل لا يقع له فيه، فإنه إن لم يوفه أجرته كان ظالماً له، وإن وافاه أجرته كان ظالماً لنفسه؛ لأنه أضر بها بدفع الأجرة، وكذلك في من خلص غريقاً على أن يكسر يده مع إمكان تخليصه من غير كسره فإنه يكون ظالماً لنفسه حيث فوت عليها الشكر وإن لم يكن ظالماً للغريق؛ لأن النفع في تخليصه أعظم من الضرر /302/ في قطع يده.
والحق ما قاله الجمهور: أنه قد يقبح لكونه عبثاً، وقبح العبث معلوم ضرورة، سواء كان بصفة الظلم أو لا بدليل أن الألم يقبح من الباري تعالى لمجرد العوض ولا وجه إلا كون عبثاً لإمكان اتصال العوض من دونه.