وحاصل المسألة أن العقاب لا يحسن إلا من المكلف، فإذا أخل بشرط كان في حكم المسقط لحقه والذم بحسن من المكلف وغيره، قال: وليس كونه في حكم المغزَى على القبيح بترك اللطف يقتضي قبح الذم كالشاهد، فإن أحدنا لو أغرى غيره بقبيح وكان المغرَى عالماً لكان للمغري له أن يذمه، ويقول: أنت عالم بقبحه ومتمكن من الاحتراز منه، فلم فعلته ولا ينتقض هذا إنما يقوله أصحابنا من أن الذم تابع للعقاب؛ لأن مرادهم بذلك أنهما إذا استحقا لمن يجز ثبوت أحدهما مع زوال الآخر؛ لأن جهة استحقاقهم واحدة، وليس غرضهم أنه لا يصح استحقاق أحدهما دون الآخر كما فرضاه في الباري تعالى، لو فعل القبيح.
فإن قال: فهل إخلاله تعالى باللطف يسقط الثواب كما أسقط العقاب أم لا؟
قيل له: الثواب حق للعبد ولم يحصل منه ما يقتضي إسقاطه.
/291/
فصل [في ما يصح أن يكون لطفاً من أفعال المكلفين وما لا يصح]
اعلم أه لا بد أن يكون في ما كلفنا فعله وتركه ما يكون أصلاً في نفسه أو يكون وجه وجوبه وقبحه لأم يرجع إليه ويكون مستقلاً في ذلك كرد الوديعة وشكر المنعم ودفع الضرر، وكالظلم والكذب وجلب الضرر، فامتثال هذه يكون أصلاً، ولا يكون لطفاً في غيرها، وإلا سلسلت الألطاف وما عدا هذه يجوز أن يكون متربياً عليها كما لا تتم هي إلا به، أو يكون لطفاً فيها كمعرفة الله تعالى، وما يتصل بها وكاكثر الشرعيات من صلاة وصوم وحج ونحو ذلك، فإ ن وجه وجوبها كونها ألطافاً في تلك الأصول فعلاً وتركاً، ولا يصح أن يكون في ما كلفناه ما يكون عقاباً في غيره؛ لأن التكليف تعريض للنفع، ولا يصح أن يعاقب بما يؤدي إلى النفع، وكذلك فإنا مأمورون بأن يؤديها على جهة القربة، وذلك ينافي كونها عقوبة.

والذي يسببه الحال فيه قوله تعالى في جزاء الصيد: {ليذوق وبال أمره}، وقوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا} والأصل في ذلك عندنا أنه ليس يمتنع أن يعلم الله أن عند مواقعتنا للمعصية نصير في بعض الأفعال لنا مصلحة كما في كفارة الظهار والقتل والاغتسال من الزا ونحو ذلك، وتكون هذه العبارات المشتبهة فارقة بين مما يكون سبببه معصية وبين ما يكون سببه طاعة كالنذور.
وأما النوافل الشرعية فقد قدمنا ما تقوي أن وجه ندها كونها ألطافاً في مندوبات عقليَّة؛ ولأنه لا يرد على ذلك من الإشكال ما يرد على ما يقوله الجمهور، فظاهر كلام الجمهور أن الوجه في التكليف بها كونها مسهلة للفرائض.
قالوا: فإن من المعلوم أن من اعتاد شيئاً سهل عليه، واعترضه بعضهم بأنها إذا كانت مسهلة لها كانت لطفاً فيها، وهذا يقتضي كونها واجبة؛ لأنها لطف في واجب، ويقتضي أن تكون بعض الشرعيات لطفاً في بعض.
ويمكن الجواب: بأن معنى التسهيل يخالف معنى اللطف؛ لأن اللطف إن كان من قبيل الدواعي، فالدواعي اعتقادات وظنون، وليس هذا حال النوافل، وإن كان من قبيل ما يختاره عنه، سواء كان داعياً أو غيره فجائز أن لا يختار المكلف الفعل عند ذلك التسهيل ولا يقرب من اخياره، وإن اختاره عنده جاز أن لا يكون لأجله.
تنبيه
اعلم أن الكلام في هذا الفصل إنما هو على مذهب شيخنا أبو هاشم، فأما أبو هاشم على فإنه لم يعتبر في حسن إيجاب الشرعيات كونها ألطافاً متمّمة للأطاف أو تروكاً للمفاسد، بل قال: يكفي في حسن إيجابها التعريض للثواب.
ويبطله أنه لو كان كذلك لحسن إيجاب النوافل لما فيها /292/ من الثواب، فثبت أن إيجابها هو لأنها واجبة في نفسها، ولهذا حكمنا بأن بعثة الرسل والتكليف في الشرعيات متى حسن وجب لما لم ينفصل حسنه من وجوبه.
وأما القبائح الشرعيَّة فوجه فتحها عند الجمهور كونها مفاسد في تلك الأصول.

وذهب أبو لعي إلى أن وجه قبحها كونها تروكاً للواجب فقط، ولم يجوِّز كونها مفساد بناء على أصله في أن كل مفسدة في الدين لا يصح وقوعها، وليس سديد؛ لأنها إنما تمنع وقوع المفسدة من فعل الله تعالى، فأما المفسدة من فعل المكلف جائز وقوعها ولا يقدح ذلك في جنس التكليف بما هي مفسدة فيه؛ لأن المكلف قد نهى عن فعلها وعلم كونها مفسدة، فمتى اختارها فقد أتي من جهة نفسه.
ومثل هذا خلاف أبي علي في المعرفة فإنه جعل وجه وجوبها أن تستبقي المرء بها ما أنعم الله به عليه بالشكر الذي لا يتم إلا بها، ودفع الضرر عاجل أو لوجوب شكر المنعم، أو لئلا تكون قد أبيح له الجهل الذي هو ترك لها.
وعند أبو هاشم أن وجه وجوبها كونها لطفاً كما سلف.
فصل [في الكلام على أهل الأصلح]
عند جمهور أهل الحق: أن مجرد كون الشيء نفعاً لا يكفي في وجوبه بل لا بد من أحد ثلاثة وجوه:ـ
إما أن يختص بوجه لأجله يجب نحو رب الودية وشكر المنعم ودفع الضرر والإنصاف والإثابة ونحو ذلك.
وإما أن يكون لطفاً كمعرفة الله وبعثة الأنبياء وكالشرعيات.
وإما أن لا يتم الواجب أو القبيح إلا به، كالقيام وفتح الباب والنظر في العقليات وكالطهور في الشرعيات، وكالإعادة من فعل الباري تعالى، وما خرج عن هذه الأقسام الثلاثة لا يجب، وخالفه بعض البغداديين، فقال بوجوب ما كان أصلح أي أنفع حتى حكموا بوجوب ابتداء الخلق، ووجوب التكليف مما يَعُدّه أصحابا تفضلاً، وفيهم من طرد هذه القضية في الشاهد أيضاً فحكم بوجوب الأصلح من فعل العباد.
لنا: أنه لو وجب على الله تعالى الأصلح لوجب أن يوجد من الشهوات والمشتهيات أكثر مما أوجد وأكثر؛ لأن ذلك أنفع من حيث أ، لذة من يشتهي الشيء لشهوتين أكثر من لذة من يشتهيه بشهوة واحدة، وبهذا يتفاضل أهل الجنة، وقد ألزمهم أصحابنا أن يوجد من ذلك الا يتناهى، وإلا كان محلاً بواجب واستحالته لا تخرجه عن كونه واجباً لحصول علة الوجب فيه وهي كونه أصلح وأنفع.

فإن قالوا: إن فقد هذه الزيادة تدل على أن فيها مفسدة؛ إذ لو خلصت عن المفسدة لوجدت.
قيل لهم: إنما يدل فقدها على كونها مفسدة بعد أن تثبت وجوب الأصلح، واستمر في تصحيحه بعد، فلا يصح أن يعترضوا بنفس مذهبكم على دليل قد نصب لإفساده.
وأيضاً: فنحن نفرض وجوب هذه الزيادة في /293/ احتيالاً تكليف عليهم، بل في أهل الجنَّة، بحيث لا يعلم بها المكلفون، فلا يصح كونها مفسدة في حقهم.
دليل، لو كان ما فعل الله تعالى من ابتداء الخلق والتكليف ونحو ذلك واجباً لكون أنفع لوجب أن يفعله قبل الوقت الذي فعله فيه، وقيل: وليس لهم أن يقولوا في ذلك مفسدة؛ لأن المفسدة إنما تثبت بعد التكليف، ونحن فرضنا الكلام في ابتداء الخلق والتكليف.
دليل، لو وجب على الله تعالى الأصلح لكان يقبح منه تكليف من المعلوم أنه يكفر؛ لأن عدم التكليف أنفع له ولا يتفلت علينا أن نجعل التكليف تفضلاً.
دليل، لو وجب على الله الأصلح لقبح عقاب أهل النار؛ لأن العفو أنفع، ولقبح التكليف؛ لأن الابتداء بالثواب أصلح، وقولهم أن العقاب واجب؛ لأن فيه صلاحاً من حيث لا يتم الوعيد الذي هو صلاح إلا به غير محتج؛ لأن أصحابنا يقولون: إذا كان التكليف والوعيد يقدحان في كون العفو واجباً فيحالين بهما قد فات الأنفع وهو العفو، فكان لا يجبان.
على أن هذا الأصلح الذي ذكروه لم يثبت بنفس العقاب، بل بالوعيد، فهلا وقع الوعيد والعفو؛ لأنهما أصلح، وإن كشف ذلك عن الكذب؛ لأنه إذا حصل وجه الوجوب وجب الفعل.

دليل، لو وجب الأصلح لكان ما يفعله بناء من النعم واجباً، فلا يستحق عليه شكراً؛ لأن الشكر إنما هو في مقابلة التفضل لا الواجب، ولوجب أن يبقي الله الكفار كلهم أو يميتهم كلهم، وقد صور ذلك في رجلين كافرين، أحدهما مات وهو شاب والآخر مات وهو شيخ، فإن للشيخ أن يقول: هلا أمتني يا رب قبل أن أكفر فإن ذلك كان أصلح، فإذا قال الله إني عرضتك بالتبقية لمنافع الثواب، وذلك هو الأصلح كان للشاب أن يقول: فهلا بقيتني يا رب وعرضتني للثواب؛ لأن ذلك هو الأصلح.
دليل، لو وجب الأصلح لما اختلف الفاعلين، فكان يجب علينا الأصلح أيضاً، وأكثرهم قد التزمه.
ويبطله أنه كان يلزم أن يفعل بأنفسنا سائر مفسدة وأن يجل علينا طلب المنافع من كل وجه، وخلافه معلوم، وليس لهم أن يقولوا أن ذلك مفسدة؛ لأنه لو كان كذلك لقبح منا فعله رأساً.
وبعد، فكان يجب علينا النوافل والصدقات وفعل جميع الكفارات الثلاث ،وعند هذا الإلزام افترقوا فقال بعضهم: يجب ولكن لا يعلى حد وجوب غيره، وقال بعضهم: إن في كونه مندوباً صلاح آخر، وقال بعضهم: الصلاخ في فعله كالصلاح في تركه، ومثل هذا كلامهم في سائر النعم التي يفعلها بعضنا إلى بعض في الشاهد، فإن بعضهم التزمها كما تقدم، وقال سائرهم: إنما لم يجب الصدقة العطاء الكثير؛ لأن في ذلك ضرراً على أحدنا، وهذا يبطل كون علة الوجوب هي الأصلح، ويقتضي اعتبار قيد زائد على أنه وإن كان عليه ضرر فيقع الثواب أعظم منه، فلا يقدح في وجوبه كسائر الواجبات لاستواء الجميع في كونها أصلح، فلو وجب الأصلح لوجب على أحدنا أن يعطي /294/ الغير جميع ماله؛ لأنه أصلح لذلك الغير فيصير حقاً له كسائر الحقوق.
ومتى قيل الأصلح له أن يصرفه في نفسه ومصالحه؛ لأنها أنفع له.
قلنا: بل الأصلح له أن يصرفه؛ لأن له ثواباً وحسن ثناء، على أنه ليس صرفه إلى نفسه؛ لأن أنفع له أولى من صرفه إلى الغير؛ لأنه أنفع.

فصل [في شبههم]
منها أنهم قاسوا الأصلح في الدنيا على الأصلح في الدين.
والجواب: وإنما وجب الأصلح في الدين؛ لأنه إزاحة للعلة تجري مجرى التمكين، لا بوجه غلا بعد تقدم التكليف.
شبهة
قالوا: قد ثبت أن الموسر إذا شاهد فقيراً يكابد العطش والجوع وهو قادر على رفع ذلك عنه، ثم لم يدفعه ذمه العقلاء ونسبوه إلى البخل.
قلنا: هذا الموسر إما أن للحقه غم بمشاهده هذا الفقير وبهلاكه، فيكون وجوب إغاثته كونه دفعاً للضر عن نفسه، وأما أن لا يلحقه غم فهو محل النزاع، ولسنا نسلم حسن ذمه على ذلك، بل نحمك بأن ما يفعله تفضل وإحسان هذا من جهة.
وأما الشرع فقد جاء بوجوب الزكاة، فإن كان عليه زكاة وجب عليه شرعاً وإلا لم يجب.
وأما وصفه له بالبخل فإنما يصفه بذلك من يعتقد وجوبه كالعرب، فإنه يعتقدون وجوب إضافة الضيف أو من يستدل بذلك على قلة رحمته، وعلى زهده في الخير والثناء الجميل.
وأما على جهة أنه أخل بواجب فلا ولهذا له أن يعتذر فنقول لا يجب علي.
قالوا: قد ثبت أنه يقبح من أحدنا أن يمنع صاحبه من النظر في مرآة قد نصها في حائطه، ومن الاستظلال به ومن الاستضاءة بناره، ولا وجه لقبح ذلك إلا أن صاحبه ينتفع به، ولا ضرر به عليه، وكذلك حال الباري.
قلنا: ليس هذا أوزان المسألة أن يوجبوا على أحدنا أن ينصب مرآة ليرى الناس فيها وجوههم، وأن يبني حائطاً ليستظلوا به وكله غير واجب في الشاهد، فأما إذا فعل ذلك لم يحسن منه المنع؛ لأنه يعود على عرضه بالنقض، وكذلك الباري تعالى إذا فعل الأشياء التي ينتفع بها الخلق لم يحسن أن يمنعهم منها.

القول في الآجال
الأجل هو كل حادث أو ما يجري مجراه بوقت به حدوث حادث أو ما يجري مجراه.
مثال توقيت الحادث بالحادث أن يقول: إذا طلعت الشمس /295/ سار الأمير فإن طلوعها وسير الأمير حوادث حقيقية.
ومثال ما يجري مجراه الحادث الصفات والأمور الراجعة إلى النفي، كأن يقول: إذا مات الأمير فعبدي حر، وإذا انقطع المطر زال البر ونحو ذلك، وقد كان المتقدمون يعتبرون في الأجل أكثر من الوقت.
قيل: والصحيح أنه لا بد من تقدم كلام أو إشارة أو كتابة يعلقا بها حدوث الشيء عند غيره وإلا لم يكن أجلاً.
فصل
ومعنى أن الله جعل الشيء آجلاً أنه كتبه وبينه ودلَّ الملائكة أو غيرهم عليه ليقع الاعتبار بموافقة ذلك المواقع، فلا يقال ما الفائدة في كتابته.
فصل
ولا يصح في من قيل غيره أن يقال: إنه قطع أجله؛ لأن المرجع بالأجل إلى الوقت الذي علم الله أنه يموت فيه، ولهذا قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
والحاصل أنه لا يدخل في الأجل شرط وغنما الشرط يدخل في الأعمار، فلا يمتنع أن يعلم الله أن هذا إن ركب البحر فعمره كذا وإن لم يركبه فعمره كذا، وعلى ذلك يحمل ما ورد في الحديث ((أن الرجل ليصل رحمه، وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيزده الله إلى ثلاث وثلاثين سنة)) الخبر، ولو لا هذا لما كان للاحتراز من القتل وغيره معنى، ولا كنا نحتاج إلى لبس الدروع ولا بتجنب ما يؤدي إلى التهلكة.

فصل
ذهب الجمهور من شيوخنا إلى أن المقتول لو لم يقتل لجاز أن يموت وجاز أن يعيش، ولا يمكن القطع بواحد منها لجواز أن يعلم الله من حاله أن الزيادة في عمره مشروطة بأن لا يقتل، وقال أبو الهذيل: بل لو لم يقتل لمات لا محالة، وإلا كان القاتل قد قطع أجله، وقد تقدم ما يبطل، هذا من أن المرجع بالأجل إلى الوقت الذي يموت فيه، فإذا قتل في ذلك الوقت قد مات بأجله.
وقد ألزمه الشيوخ في من ذبح مواشي غيره أن يكون محسناً إليه؛ لأنه أحلها بالتذكية، بحيث لو لم يفعل لماتت.
وقال بعض البغداديين لو لم يقتل لعاش محالة، وإلا لم يوصف القائل بأنه ظالم.
وأيضاً فلا يكاد يتفق موت الحيوانات الكثيرة دفعة واحدة كما يتفق في القتل.
ويبطله أنه لا دليل على انه كان يعيش لا محالة، وجائز أن يوافق حالة القتل آجال كثيرة من الناس، فكما يجوز مثله في إماتة الله لها بالعرق والهدم والطاعون ونحو ذلك، ولا يدل على أنهم كانوا يعيشون لا محالة.
وأما وصف القاتل بأنه ظالم فلا نقف على ما قالوه، بل يقف على حصول حقيقة الظلم، وقد حصلت لا سيما مع تجويزه أن يعيش وأن يموت.
على أنه قد فوت عليه بالقتل أعواضاً كثيرة كانت تحصل له لو كان الله هو المبتدئ بموته.

فصل
ومعنى كون الأجل لطفاً.
لنا: يختلف باختلاف المراد بالأجل فإن أريد بالأجل العمر وأوقات الحياة لم يصح كونها لطفاً، لذلك المغمَّر لأنه من قبيل التمكين /296/ ويصح أن يكون لطفاً لغيره؛ إذ لا يمتنع أن يعلم الله أن عبد بقاء زيد يختار عمرو الطاعة، وإن أريد بالأجل وقت الموت فمحال أن يكون لطفاً للميت؛ غذ لا تكليف بعد الموت، ولكن لا بد أن يكون لطفاً لغيره من المكلفين إذا حصل بالإماتة ألم، ويجوز أن يكون علم زيد بأنه يموت لطفاً له فيكون أجله لطفاً له بهذا المعنى.
القول في الأرزاق
الرزق وهو ما يصح الانتفاع به من دون حظر، وقد يكون مطلقاً، أي ليس بمضاف إلى معين كالأشياء التي خلقها الله لمصالح العباد مما أصله الإباحة، فيقال: رزق للعباد.
ومتى اختص البعض دون البعض بشيء منها فلأسباب حادثة، وقد يكون مضافاً إلى معين فيقال: رزق لفلان إذا كان أحق بالانتفاع به، ولم يكن لأحد منعه، وقد يكون فيه طريقة الملك كما المال ونحوه، وقد لا يدخله كالصحة والعقل والولد ونحو ذلك، وكذلك ما ينتفع به البهائم يقال: إنه رزقها ولا يقال: إنها بملكه.
فصل
والرزق لا بد أن يتعرى عن وجوه القبح والحظر خلافاً للمجبرة، فإنهم يجعلون المغصوب والحرام رزقاً.

لنا: أن الحرام ممنوع منه ومتوعد عليه، والرزق ليس كذلك، بل مباح، قال تعالى :{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}، وقال: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً..} الآية وأشباهها.
وبعد، فكيف يحسن من الحكيم أن يرزق العبد رزقاً ويمنعه من الانتفاع ويتوعد عليه بالنار ويتعبد الإمام بقطع يده والمسلم بالبراءة منه وذمَّة لأجل أنه انتفع برزقه.
وبعد، فلو كان المغصوب رزقاً للغاصب لكان لا يجب عليه ضمان عند إتلافه كالبهيمة، ولما كان للحاكم بأن يحكم به للمغصوب عليه أولى من أن يحكم به للغاصب.
وبعد، فقد أباح الله الإنفاق مما هو رزق، بل أمر به فقال: {وأنفقوا مما رزقناكم} ومدح على ذلك فقال: {ومما رزقناهم ينفقون} ونحو ذلك.
شبهتهم أن هذا يؤدي إلى أن الغاصب قد أكل رزق غيره، وأن الظالم طول عمره ما أكل رزقه
والجواب: أن هذا عين ما جوزناه، فما المانع أليس يقال: أكل مال غيره وملك غيره وأزال نعمة غيره واستخدام عبد غيره، فلم لا يقال: أكل رزق غيره لا سيما وقد فسرنا الرزق بأنه الذي هو أحق به وليس لأحد منعه.
قالوا: هذا يؤدي إلى أن الله لم يجعل للظالم رزقاً.
قلنا: إن أردتم أن الذي انتفع به لم يكن رزقاً له فصحيح، وإن أردتم أنه لم يجعل له طريقاً إلى تحصيل الحلال فغير صحيح.

45 / 75
ع
En
A+
A-