وأما ما يقوله أصحابنا المتأخرون من أن اللطف لا بد أن يكون من قبيل الدواعي، ويقولون في حده: هو ما يدعو المكلف، فليس تسديد؛ لأن الدواعي ليس بأكثر من اعتقادنا أو ظننا بأن في الفعل جلب نفع أو دفع ضرر، وقد وجدنا هذه الدواعي تثبت سواء الألطاف أو زالت، ألا ترى أنا نعلم أن لا في الطاعة جلب نفع أو دفع ضرر سواء مرضنا أم لا، وسواء سمعنا المواعظ أم لا وسواء فعلا الشرعيات التي هي ألطاف أم لا، وكذالك معرفة الباري تعالى فإنها لطف وليست هي الداعي، وإنما الداعي هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب والعقاب، فثبت أن اللطف هو ما يختار عنده سواء كان داعياً، أو ألماً أو كلاماً أو صلاة وغير ذلك مما لا يدعو.
ووجه آخر وهو أن الدواعي لا بد منها في جميع ما كلفنا، ولهذا اشترط أصحابنا أن يكون المكلف متردد الدواعي بخلاف اللطف، فإنه قد يختص بعض الأفعال.
فصل
ويسمى لطفاً ومصلحة وصلاحاً، وأصلح أي لا شيء يقوم مقامه في الصلاح كقولهم: الله أكبر لا على معنى المفاضلة، ويجوز أن يراد المفاضلة أي أصلح من غيره؛ لأن مصلحته دينيَّة، ويسمَّى إزاحة لعلة المكلف، ويسمَّى توقيفاً وعصمة إذا كان يختار عبده لأجله لا محالة، إلا أنه لا يقال: فلان معصوم أو موفق إلا إذا كان يستحق المدح؛ لأن هذه الأسماء قد صارت مدحاً بالعرف، وكذلك لا يقال: أصلح الله فلاناً إذا إذا كان مؤمناً؛ لإفادته المدح، فأما مع التقييد فيجوز ذلك.

فصل
ليس يجب أن يكون لكل ما كلفناه لطف، بل يجوز أن يكون في ما كلفناه ما لا لطف فيه بأن يعلم الله أن لا شيء يختار عبده المكلف الفعل ولا يقرب من اختياره، وذلك ظاهر في الشاهد، فإن أحدنا قد يعلم من حال ولده أنه يختار التعليم على كل حال سواء مع الشدة والإرخاء، والمنع والإعطاء، أو لا يختاره، وإن فعل ما فعل فإن قال: كيف يصح هذا وعندكم أن معرفة الله تعالى لطف في جميع ما كلفناه، قيل له: كلامنا في الجواز لا في الوقوع.
على أن أصحابنا ذكروا أن معرفة الله إنما هي لطف في التكاليف العقلية العملية.
وبالجملة، فلا أقل من أن تكون المعرفة نفسها قد خرجت عن أن يكون لها لطف، وبهذا يتم الغرض سواء كانت لطفاً في جميع التكاليف وفي بعضها.
فصل
اتفق الشيوخ على أنه إذا كان في المقدور لطف حسن فإنه يحسن التكليف بملطوفه، واتفقوا على أنه /285/ على أنه إذا لم يكن في المقدور لطف رأساً أنه يحسن التكليف بالفعل. واختلفوا في من كان لطفه فعلاً مستحيلاً أو قبيحاً.
فقال أبو عبد الله: لا يكلف بالمطلوب في الحالين.
وقال أبو هاشم: يكلف به في الحالين ويصير كمن لا لطف له أصلاً.
وقال القاضي وهو أحد قولي أبي هاشم: لا يحسن تكليفه بملطوف القبيح إلا إذا وجد؛ لأن لطفه في المقدور، فليس كمن لا لطف له، ويحسن تكليفه بملطوف المستحيل؛ لأن لطف ليس في المقدور فهو كمن لا لطف له.

فصل
وللطف شروط:
منها: أن يكون ثابتاً؛ لأن الزائل لا يثبت عنده حظ التقريب، ولا يقع عنده اختيار.
ومنها: أن يكون بينه وبين الملطوف فيه مناسبة، وإلا لم يكن لطفاً فيه أولى من غيره أو ن أن لا يكون ولا كان أحدهما بأن يكون لطفاً في الآخر أولى من العكس، ثم المناسبة تختلف فقد يعلمها جملة بأن يعلم أن الله تعالى لا يفعل إلا ماهو صلاح، وقد يعلمها تفضلاً كما تقوله في أن وجه المرض لطفاً هو أن يتذكر به آلام الآخرة ويعرف به قدر نعم الله بالعافية والثواب وقلة الصبر على الآلام اليسيرة، فيختار عند ذلك الطاعة، ومثله الغموم والخوف ونحو ذلك، وكذلك الصلاة فإن الله تعالى عرفنا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ونحو ذلك مما يمكن الإشارة إلى كونه لطفاً.
ومنها: أن يكون المكلف معه متردد الدواعي فلا يخرجه عن كونه مختاراً ويصيره في حكم الملجأ فيصير كمن يخوف غيره بالقتل إن لم يحضر طعامه، فإن ذلك لا يكون لطفاً له في حضور طعامه؛ لأنه حينئذٍ يحضر للإلجاء لا لحسن الفعل ووجوبه.
ومنها: أن يكون المكلف عالماً أو ظاناً باللطف وبالملطوف فيه وبالنسبة بينهما، إما على جهة الجملة أو التفصيل أو مستمكناً من العلم أو الظن، ,إنما اشترطنا ذلك ليثبت له حظ الدعاء والتقريب.
ومنها: أن يتقدم اللطف على الملطوف فيه بوقتٍ واحد ليتأتى له حظ الدعاء، ويمكن عنده الاختيار، وأما تقديمه بأكثر من وقت إذا اكن من فعل الله تعالى، فقال أبو علي: لا يجوز؛ لأه في حكم المشيء حال الحاجة، ويلزم مثله في فعل القيد.
وقال أبو هاشم: يجوز شرط أن لا يكون في حكم المشيء، وأن يكون في تقديمه فائدة رافدة كما قال مثله في تقديم الأمر بأزيد من وقت واحد، وهذا الخلاف إنما هو فيما يثبت وينفي، فأما ما يستمر فالكلام في جواز تقديمه أظهر، ولا فرق على الصحيح بين أن يتقدم على التكليف أو يتأخر إذا نفى إلى حال كونه لطلفاً.

ومنها: أن يكون مدركاً أو في حكم المدرك /286/ عند أبي هاشم، وإنما يعتبر ذلك في اللطف من فعل الله تعالى؛ لأنه يعترف بكون المعرفة لطفاً وليست بمدركة، ولا في حكم المدركة.
قيل: والصحيح خلاف ما قاله رحمه الله؛ لأن المعتبر في اللطف هو علم المكلف به، واختياره عنده، سواء كان مدركاً أولا، بدليل أنه لو أدركه ولم يعلمه لم يكن لطفاً.
فصل
ليس يصح أن يكون اللطف جهة في التلكيف؛ لأنه متأخر عن التكليف ولا جهة في الطاعة؛ لأنه يتقدم عليها، ومن حق ما يكون جهة في الفعل المقارنة كالإرادة التي هي جهة في الطاعة، ونحو ذلك من وجوه الأفعال.
فإن قال: أليس النية الواقعة في الليل جهة في صوم النهار مع تقدمها.
قيل: ليست جهة في الصوم، وإنما وجب التبييت عند من يقول به، لاشتراطه أن تكون النية مع أول جزء من النهار، فعلى المكلف أن يأتي بالنية بحيث لو قدرنا استمرار النوم به إلى آخر النهار لكان صومه صحيحاً.
وأيضاً، فليس المرجع بالصوم إلى فعل يفعله الصائم وإنما هو كفّ والنية لا تتعلق إلا بالأفعال، فلا تكون هذه النية جهة في الصوم؛ إذ ليس يفعل فيؤثر فيه، ولو سلمنا أنه فعل فهو بمنزلة الفعل الواحد في أن النية الواحدة تكفي فيه كالصلاة، لكن جاز تقديمها من أول جزء من النهار، من حيث أنه أبيح للمكلف أنه ينام، وهو لا يأمن أن يستمر به النوم فتفوته النيَّة عند أول جزء من النهار، فكانت نيته في حكم المقارنة وصارت جهة في الصوم.
فصل
واللطف قد يكون من فعل الله تعالى، وقد يكون من فعل المكلف نفسه، وقد يكون من فعل غيره من صبي أو بهيمة أو مكلَّف آخر.
أمَّا ما كان م فعل الله تعالى فهو ضربان:ـ
أحدهما: أن يتقدم على التكليف أو يقاربه، وهذا لا يجب؛ لأن التكليف تفضل، فكذلك ما تقدمه أو قارنه.
والثاني: يتأخر عن التكليف، وهذا واجب عند الجمهور.

وقال بشر بن المعتمر: لا يجب بل الأقدار وإزالة الموانع والإلجاء كاف في إزاحة علة المكلف. قيل: وقد رجع عن هذا وأوجبه.
قال جعفر بن حرب: إن استوى الثواب في الحالين وجب اللطف.
قيل: ورجع عن هذا إلى قول الجمهور، وقال قوم: لا بد أن يفعله الله وليس بواجب.
لنا: إن اللطف يجري مجرى التمكين في إزاحة علة المكلف؛ لاستوائهما في أن المكلف لا يختار الفعل عنده، وصار الحال فيه كمن يصنع للغير طعاماً، ويعلم أنه لا يأتي إلا برسول، فإن الإرسال غليه يجري مجرى فتح الباب وتقديم الطعام في إزاحة علة المدعو حتى أنه لم يرسل /287/ فقد عاد على عرضه الذي لأجله صنع الطعام بالنقص.
فإن قالوا :قد يصنع للغير طعاماً ثم يبدو له في إرادة تناوله فلا يجب عليه فتح الباب ولا إرسال.
قيل له: إنا فرضنا الكلام مع استمرار الحال في إرادته لتناول الطعام كما يستمر الحال في إرادة الباري للطاعة، وإن عرضه بالتكليف باق من حيث لا يجوز عليه اليدَوات والخواطر.
فإن قال: كان يلزم إذا علم أنه لا يحضر طعامه إلا إذا شاطره على ماله أو توجه إليه بالناس، وبكتاب الله تعالى أن يجب عليه ذلك.

قيل له: إن كان غرضه بإحضار ذلك المدعوّ نفعه لم يجب عليه أن يشاطره؛ لأنه يلحقه بذلك ضرر وذلك ينقض الغرض، وليس تركه ببعض الغرض، وإن كان عرضه بإحضاره نفع نفسه من سرور أو طلب ثناء أو جزاء نظر في الضرر الذي يلحقه بمشاطرة ماله، فإن كان يساوي ذلك النفع أو يزيد عليه، فالقول ما تقدم من أن ذلك يبطل الغرض والمسألة مفروضة مع بقاء الغرض، وإن كان دون ذلك النفع الذي قصده بدعائه، كأن يكون ذلك المدعوّ ملكاً يحصل بدعائه مال عظيم أو جاه عريض أو ثناء كثير، فإنه يجب، والحال هذه أن يشاطره على ماله وإلا كان عائداً على عرضه بالنقص، لا سيما إذا كان صنع الطعام بعد العلم بأن الملك لا يأتيه إلا بهذه المشاطرة، والباري تعالى عرضه بالتكليف نفع المكلف، وذلك مستمر، وليس يلحقه في فعل اللطف ضرر، فيجب فعله.
دليل، قال أبو علي: لو لم يجب اللطف لدل فقده على أن الله لم يرد الطاعة من المكلف أو أراد منه المعصية.
واعترضه أبو هاشم بأن الإرادة متقدمة على وقت اللطف ومقارن للتكليف، ففقد اللطف لا يدل على زوال شيء قد ثبت وهو الإرادة، ولا يقدح أيضاً في حسنها، ولا يقتضي حصول ضدها بدلاً منها، وصار كما يقوله في أن الله تعالى لو لم يثيب المطيع لما توجه الذم إلى التكليف؛ لأن التكليف حسن لتكامل شرائط حسنة مما تأخر عنه لا يؤثر في حسنه ولا قبحه.
دليل، لو لم يجب اللطف لا قبحت المفسدة؛ غذ لا فرق بين أن يمنع ما يدعو إلى الواجب، وبين أن يفعل ما يدعو إلى القبيح.
فإن قال: إن مع التمكين وزوال الإلجاء والموانع يكون قد أتى في ترك الواجب من قبل نفسه، ولا تأيير للمانع من اللطف.
قيل له: وكذلك يكون قد أتى في فعل القبيح من قبل نفسه ولا تأثير لفعل المفسدة؛ لأنها غير موجبة للفعل، كما أن اللطف غير موجب للطاعة.
فإن قال: إنه بفعل المفسدة تعود على عرضه بالتكليف لنقص. قيل: وكذلك بترك اللطيف.

فإن قال: إن فعله للمفسدة يدل على أنه مريد للمعصية، قيل /288/ له: يدل على أن حاله قد تغيَّرت في إرادة الطاعة بالتكليف، وأنه قد صار مريداً للمعصية كما تقدم.
شبهة
المانعين من وجوب اللطف أن فقد الطاعة وحصول المعصية دليل على أن اللطف لا يجب؛ إذ لا تكليف إلا وفي المقدور ما هو لطف فيه.
والجواب: أنا قدمنا أنه يجوز أن يكون في الأفعال مالا لطف فيه.
على أنه يدل فقد الطاعة على فقد اللطف المطلق.
وأيضاً: فقد يكون اللطف من فعل المكلف كما سيأتي، فلا يدل فقده على أنه لا يجب.
قالوا: اللطيف يسمى أصلح، وهذه العبارة تقتضي التزايد، وإن تم ما هو دونه لم يفعله الله ؛ لأن كل شيء يفعله الله فهو أصلح.
قلنا: لسنا نسلم معنى المفاضلة كما تقدم، ولو سلمناه لا كان لهم فيه فرج؛ لأن الله إذا فعل الأعلى لم يجب الأدنى، فهو موضع وفاق. على أن هذا توصل بالعبارة.
قالوا: وقع التعبد عقلاً وشرعاً بأن نسأل الله العافية، فلو كان فعل اللطف واجباً كالمرض، لكنا قد تعبدنا بأن نسأل الله ترك الواجب الأصلح.
قلنا: الأدعية لا بد أن تكون مشروطة بالصلاح سواء لفظنا بذلك أم لا، ولولا السمع، منع أن نسأل الله المرض إذا تعلق به صلاح لسألناه.
على أنه لا يمتنع أن يكون لنا في هذا الدعاء صلاح مستقبل كغيره من الأدعية.
قالوا: يجوز من أحدنا أن يسأل الله أن يجعله أفضل من غيره، والإجماع على أن الله قادر على أن يجعل بعض عبيده أفضل من بعض، فيجب أن يقدر على مالا يتم إلا به وهو اللطف.
قلنا: إن كان المرجع بالتفصيل إلى اللطف فلسنا نسلمه على الإطلاق، بل لا بد أن يكون الدعاء مشروطاً كما سلف، وإن كان المرجع بالتفصيل إلى كثرة المدح والإعظام والثواب فجائر أن يسأل الله ذلك وأن يكون قادراً عليه، وإن كان لا يحسن إلا مستحقاً.
قالوا: إذا كان يعلم الله أن زيداً عند الفقر يسرق ويعصي وهو قادر على إغنائه ولم يفعل ذلك دل على أنه غير واجب.

قلنا: ومن سلم لكم أن الله لا يعنيه، والحال هذه وما أنكرتم أن هذا الفقير الذي فرضتم الحال فيه يعلم الله أنه عند الفقراء أقرب إلى اختيار الطاعة حتى لو أعناه لازداد طغياناً، وليس معصيته عند الفقر على أنه يطبع عند الغناء.
فصل
ظاهر كلام أصحابنا أن اللطف من فعل الله تعالى يجب أن يفعل على أبلغ الوجوه، وهذا هو الذي تقتضيه أجوبة هذه الشبَة والذي يمكن أن يعترض به على هذا الأصل هو ن يقال الذي دل على وجوب اللطف في الشاهد يدل على أنه /289/ لا يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، فإن أحدنا إذا صنع للغير طعاماً ثم علم أنه لا تأتيه إلا إذا توجَّه إليه بالناس، ودخل عليه بكتاب الله تعالى، فإنه لا يجب عليه ذلك إذا قد أعذر إليه بالإرسال، وكان الوجه في ذلك أن الغرض إزاحة العلة، فمن أين يجب أن تكون تلك الإزاحة على أبلغ ما يكون حتى يجب في الباري مثله.
ويمكن الجواب: بأن الفرق إنما لم يجب في الشاهد أن يستشفع إليه بالناس، وبكتاب الله؛ لأن علته في ذلك مشقة وغضاضة تزيد الغرض رأساً حتى لو قدرنا بإنفاء الغرض بأن يكون الصنف عظيماً تحصل نصافته نفع عظيم لوجب عليه بخلاف الباري، فإنه لا يلحقه مشقة، فالم يلطف بالمكلف على أبلغ الوجوه فقد عاد على غرضه بالنقص.
ولقائل أن يقول: قد وقع الإجماع بين الشيوخ على أن الله تعالى يجوز أن يسلب الألطاف والتوفيق عن بعض المكلفين جزاء على العصيان، ويجري مجرى العقوبة والحد؛ لأن على ما يقال في تفسير كثير من الآيات نحو {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، ونحو {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} ونحو ذلك، وكذلك وقع الإجماع على أنه يريد بعض المكلفين توفيقاً وتسديداً، ولو وجب على أبلغ الوجوه لفعل بغيرهم مثلهم ولما سلم أولئك الألطاف والتوفيق.

ويمكن الجواب بأن يقال: أما الذين سلبهم الألطاف فإنه قد فعله بهم على أبلغ الوجوه، فلما لم ينتفعوا بها سلبهم إياها عقوبة وخذاناً بعد أن أخذ عليهم على أبلغ الوجوه، فلا يشبه هذا مالم يفعله رأساً، وأما زيادة زيادة التوفيق فلا يمتنع كون بعض الألطاف مشروطاً ببعض الطاعات بأن يعلم الله من حاله أنه إذا أطاع صار له في المقدور ألطاف كبيرة.
ولقائل أن يقول: أصل المسألة مبني على إزاحة العلة وإزاحة العلة تحصل ببعض الألطاف، فمن أين يكون ترك البعض الآخر نقصاً للغرض؟ وما المانع أن يختص الله به من يشاء لا سيما وقد أجزتم سلب الألطاف، وإذا جاز أن لا يستمر على أبلغ الوجوه جاز أن يبتدئ بها لا على أبلغ الوجوه.
فصل
إذا ثبت أن اللطف من فعل الله تعالى واجب فسواء كان لطفاً في واجب أو مندوب أو ترك قبيح أو مكروه؛ لأنه تعالى كلفنا بالجميع، فيجب أن يزيح علتنا في الجميع؛ لأن وجه وجوبه عليه تعالى كونه إزاحة للعلة.

وأما إذا كان اللطف من فعل أحدنا فإنما يجب عليه إذا كان لطف في واجب؛ لأن جهة وجوبه كونه دفعاً للضر أو جارياً مجراه، ولا ضرر علينا في ترك المندوب، فلا يجب اللطف في المندوب؛ لأن اللطف كالفرع على الملطوف فيه، فلا يريد حالة على حالة، وكذلك /290/ إذا كان اللطف من فعل غير المكلف وغير الله تعالى بأن يعلم الله أن له لطفاً في فعل صبي وبهيمة أو مكلف آخر، فإنه لا وجه يقتضي وجوب ذلك اللطف، إلا أنه لا يحسن التكليف بالملطوف فيه حتى يعلم أن ذلك اللطف يوجد فإن كان لصاحب اللطف صلاح فيه جاز أن يكلف هبه، ويكون انتفاع الملتطف به على جهة النفع لنفع المكلف به، ولهذا جعل أصحابنا مصلحة الشيء في البعثة مقدمة على مصلحة المكلفين فيها، وكذلك مصلحة الآخر بالمعروف والناهي عن المنكر مقدمة على مصلحة المأمور المنهي، وكذلك الذي يجد الزاني له لطف في الحد كما للمحدود إذا كان تائباً، فأما إذا اكن مصراً فالحد عقوبة له ولطف للحاد فقط، وللناظرين وكذلك أفعال الحفظة عليهم السلام من كتابتهم لأفعالنا وشهادتهم علينا.
فصل
اتفق الشيوخ على أن الإحلال باللطف لا يقدح في حسن التكليف لتقدمه. واتفقوا على أنه يقدح في حسن العقاب؛ لأن المعاقب حينئذٍ غير مزاح العلة. واختلفوا في الذم.
فقال أبو هاشم: يسقط أيضاً ؛ لأن جهة استحقاقه واستحقاق العقاب واحدة.
وقال القاضي: لا يسقط؛ لأن الذي لأجله استحق الذم هو ارتكابه للقبيح مع علمه بقبحه وتمكنه من اجتنابه، ولهذا استحق الذم من العقلاء إذا علموا ذلك، وإن جهلوا ما عداه.
قال: ولأجل هذا يقال: إن الباري إذا أخل بالواجب تعالى عن ذلك استحق الذم، وإن لم يستحق عقاباً، وليس يمتنع وقوف استحقاق العقاب على شرط زائد، وهو أن لا يكون في حكم المستفيد له المسقط لحقه بذلك، وهو العقاب، وليس كذلك حال الذم؛ لأنه شائع أي حق للمكلف ولغيره.

44 / 75
ع
En
A+
A-