القول في قبح تكليف مالا يطاق
واتفق أهل الجبر إلا الغزالي على جوازه عقلاً واتفقوا أيضاً إلا من لا يعبأ به على أن هممنوع سمعاً.
ثم اختلفوا في صحة تكليف من لا يعلم والعاجز، فمنعه محققوهم وأجازه الباقون مع اتفاق الجميع على منع تكليف الجماد.
واعلم أنه لا محصول لشيء م هذا الخلاف؛ لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع الأفعال، وأنه لا يوجد شيء إلا بقدرته، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفاً لما لا يطاق، ولا ينجيهم من ذلك قولهم أن للمؤمن قدرة على الإيمان والكافر قدرة على الكفر؛ لأنه لا معنى لذلك إلا أن الله أوجد الفعل عندها على ما يقولون، وأما فرقهم بين الجماد والحيوان فهو فرق بارد؛ لأنه إما امتنع تكليف الجماد لأنه غير متمكن، وهذا حاصل في كل فاعل سواء القديم.
وأعجب من هذا فرقهم بين تكليف من لا يعلم وتكليف من لا يطيق، فإن احتياج الفعل إلى القدرة أعظم من احتياجه إلى العلم.

لنا: العقل والسمع، أما العقل فهو أن تكليف ما لا يطاق يعلم قبحه في الشاهد ضرورة، وإنما قبح لكونه تكليفاً لما لا يطاق بدليل أن من علمه كذلك علم قبحه وإن جهل كل أمرٍ من سمع وغيره.
وقد قال شيخنا أبو الحسين: يعلم ضرورة شاهداً وغائباً، قال: لأنا نعلم ضرورة قبح كل تكليف ما لا يطاق، فإذا علمنا في الغائب أنه كلف مالا يطاق ألحقناه بالجملة المقررة، فيكون من باب إلحاق التفضيل بالجملة كالعلم بقبح الظلم المعيَّن، وهذا مستقيم على أصل أبي هاشم، حيث جعل العلم الحملي هو التفصيلي، وعلى أصل أبي الحسين أيضاً فإنه وإن جعله علماً ثالثاً فإنه عنده متولد عن أحد العلمين الأولين، فيكون ضرورياً إذا كان المولد له ضرورياً.
وأما على أصل سائر الشيوخ في أن الثالث مبتدأ بفعله باختياره بدعا الأولين، فهو لا يكون ضرورياً، ولا استدلالياً، وهو مشكل على ما تقدم في صدر الكتاب.
وعلى كل حال فالمطلوب هنا هو أن من علم أن كل تكليف بما لا يطاق فهو قبيح، ثم علم في تكليف معيَّن أنه تكليف لما لا يطاق، فإنه لا يتوقف في العلم بقبحه كالعلم بقبح الظلم المعين.
دليل، قد ثبت أن الله تعالى لا يكلف إلا لغرض، وهو نفع المكلف كما تقدم، وإنما يكون للمكلف نفع إذا كان متمكناً من فعل ما كلفه.

وأما السمع فقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} {وإلا ما آتاها} وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} {وما جعل عليكم في الدين من حرج} {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} {يريد الله أن /280/ يخفف عنكم} و {خلق الإنسان ضعيفاً} وأشباه هذا، ولو ادعينا الضرورة من الدين لأمكن.
وقد زعم بعض أعمارهم أن معنى قوله: {إلا وسعها} إلا ما يحل لها، واحتج يقول لهم فلان في سعة من كذا، أي في حلٍ، وهذا جهل باللغة؛ لأنه لا يقال: فلان في سعة من الصلاة والحد، ولا ملائمة بين الوسع الذي هو إلطافه أو دونها، وبين السعة التي هي الحل، وما أشبه هذا بما روي أن رجلاً أتى إلى بعض الولاة، وقال: اشفع لي إلى فلان يقيلني في بيع جرابيهما، فقال الوالي لذلك الرجل: أقله عافاك الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قيلوا فإن الشياطين لا تقيل))، فلم يفرق بين القيلولة والإقالة كما لم يرف هذا بين الوسع والسعة.
على أن هذا الحل لا يثبت بالتكليف؛ لأن التكليف فيه مشقَّة، والتحليل فيه إزالة للمشقة.
وأيضاً فهذا يؤدي إلى التوقف؛ لأن التحليل عندهم إنما يثبت بالأمر الذي هو التكليف، فإذا كان لا يأمر إلا بما هو حلال، ولا يكون حلالاً إلا بعد الأمر، فذلك توقف.
وأيضاً فلا معنى لأن يحل له ما لا يمكنه منه، ولو صح هذا لكان لأحدنا أن يقول: أحل الله لي حمل الجبال والجمع بين الضدين.

فصل [في شببهم]
أما من جهة العقل فما تقدم من هذيانهم من أن الله خالق لجميع الأفعال، ولو ثبت لهم ذلك لثبت أن التكليف تكليف لما لا يطاق، لكنا قد أبطلنا تلك الأحلام، قالوا: لو قدر أحدنا على الفعل لكان إما أن يقدر عليه حال وجوده وهو محال؛ لاستحالة إيجاد المجود أو قبل وجوده، وهو محال؛ لأن القدرة إن كان لها أثر لزم حصول المقدور حال حصول الأثر، وإن لم يكن لها أثر لزم أن لا تكون قدرة.
والجواب: هذا معارض بقدرة الباري تعالى، وجوابهم جوابنا، والتحقيق أن القدرة ثابتة قبل الفعل، ولها به تعلق يثبت حال ثبوتها، وهو صحة إيجاده بها.
وأما التأثير فمنعناه أنه وجد بها، وذلك لا يحصل إلا حال وجود المقدور؛ لأنه هو وجود المقدور بها.
قالوا: قد كلف الله تعالى بما يعلم أنه لا يقع، والقدرة على خلاف المعلوم، محال؛ لأن ذلك يؤدي إلى انقلاب علم الله جهلاً.

والجواب: يقال: من سلمكم استحالة القدرة على خلاف المعلوم، ولو ادعينا الضرورة في القدرة على خلاف المعلوم لأمكن فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه قادر على لقاء خاتمة في البحر وعلى أن يسعى في السوق ويقتل نفسه.
وبعد فلا بد لهم من الإعتراف بأن الله قادر على أن يقيم القيامة ويطلع الشمس من مغربها وينزل المطر من غير سحاب ويقلب الجبال ذهباً ونحو ذلك مما قد علم تعالى أنه لا يقع فإذا لم يلزم من قدرته تعالى على ذلك انقلاب علمه جهلاً، وكذلك لا يلزم من قدرتنا عليه.
وبعد /281/ فلو كان ما علم الله أنه يقع واجب الوقوع، وما علم أنه لا يقع مستحيل الوقوع لبطل الاختيار، وزال معنى القادر في جميع الأفعال؛ لأنها بين واجب الوقوع ولا مستحيل الوقوع.
وبعد فلا خلاف بيننا وبينهم أن العلم تابع للمعلوم ومتعلق به على ما هو به، فإن العلم يكون زيد في الدار يتبع كونه فيها، وليس كونه فيها يتبع العلم، وإذا العلم تابعاً للمعلوم لم يصح أن يكون مؤثراً فيه بنفي ولا إثبات.
يوضحه أنه لا فرق بين أن يعلم وقوع الشيء وبين أن يعلم أنه لا يقع في أنه لا تأثير لعلمنا في ذلك، فكذلك في علم الباري تعالى.
والمروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قوماً يربون ويشربن الخمر ويقتلون النفس ويقولون كان في علم الله ولم نجد بداً منه، فغضب ثم قال: سبحان الله العظيم قد كان ذلك في علمه أنهم يفعلونها ولم يحملهم علم الله على فعلها.

حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أصلتكم والأرض التي أقلتكم، فكما لا يستطيع الخروج من السماء والأرض، فكذلك لا يستطيع الخروج من علم الله، وكما لا تحملكم الأرض والسماء على الذنوب كذلك لا يحملكم علم الله عليه)). ثم قال: ((العبد يعمل المعصية ثم يقر بذنبه على نفسه أحب إلى الله من عبد يصوم النهار ويقوم الليل ويقول: إن الله أولى بالخطيئة منه)).
فإن قيل: لو قدرنا وقوع ما علم الله أنه لا يقع هل كان يدل على جهله.
قلنا: الصحيح في الجواب ما قاله الشيخ أبو الحسين وهو: أن تقدير وقوعه يتبعه تقدير العلم بوقوعه، كما أن تقدير اجتماع الضدين يتبعه تقدير ارتفاع التضاد بينهما.
فنقول: لو قدرنا أنه وقع لكن الله عالماً بوقوعه وإنما يلازم التقديران؛ لأن العلم تابع للمعلوم، فإن قدرناه واقعاً كان العلم متعلقا بوقوعه، وإن قدرناه غير واقع كان متعلقاً بأنه لا يقع، والذي يقدر عالماً لا يطابق علمه معلومه كالذي يقدر قادراً لا يصح منه الفعل.
فإن قيل: أليس إذا لم يصح من القادر الفعل خرج عن كونه قادراًن فكذلك إذا علم ما علم أنه لا يقع فلا بد أن يخرج عن كونه عالماً بوقوعه.
قلنا: هو كذلك، لكن الذي دل على خروجه عن كونه عالماً بعدم الوقوع هو الوقوع لا تقدير الوقوع، وإنما الذي يلزم من تقدير الوقوع هو تقدير العلم بالوقوع.
وأما سائر الشيوخ فيمتنعون من الجواب بالنفي والأبيات هنا كما تقدَّم لهم في هل تقدير وقوع الظلم يدل على الجهل به والحاجة أم لا؟
وعلى كل حال فالمطلوب هنا أن العلم تابع للمعوم /282/ غير مؤثر فيه.

شبهة
قال الرازي: كلفنا الله تعالى بالعلوم النظرية فقال: {واعلم أنه لا إله إلا الله} والعلوم النظرية إنما يمكن مع العلوم التصوريَّة؛ لأنه لا بد أن يعلم مفردات الأدلة، قال: والعلوم غير مقدرة لنا لا التصوريّة ولا التصديقية؛ لأن المطلوب إن كان معلوماً استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل، وإن كان مجهولاً فلا شعور به، فيطلب، ثم إذا طلب أحدا شيئاً مجهولاً فظفر به فمن أين يعلم أنه مطلوبه.
والجواب على ما قال: أن المطلوب ليس معلوماً من كل وجه، ولا مجهولاً من كل وجه، ولا مجهولاً من كل وجه، وإنما يشعر به ويعتبره معه ويكون المطلوب هو التعيين، فإذا طلب العلم بما هيَّة الأسد مثلاً فإنما يطلبها بعد أن علم أنه شجاع أو عريض الأعالي، لكن هذا يجوز أن يشمله وغيره من حيث أن الشجاع هو شيء مَاله شجاعة، والعريض الأعالي إنما يدل على شيء اله عرْض، فأما أن ذلك الشيء الذي له شجاعة أو عرض هو الأسد أو غيره، فلا يعلم فالمطلوب هو التعيين، وهو أن ذلك الشيء الذي هو شجاعة وعرض أعال، هو الأسد أو غيره، فلا يعلم فالمطلوب هو التعيين وهو أن ذلك الشيء الذي له شجاعة وعرض أعال هو الأسد دون غيره، وكذلك الكلام في التصديقات، فإن المطلوب منها هي النسبة التي هي متصَوَّرة مفهومة، ولكنها مترردة بين الإثبات والنفي، فالمطلوب هو تعيين أحدهما، فمتى حصل علم أنه مطلوبه.
وأما شبهتهم من جهة السمع فهي أن الله تعالى كلَّف أبا لهب أن يؤمن بما أنزل على محمد، ومن جملة ما أنزل على محمد أن أبا لهب لا يؤمن، فقد كلف بأن يؤمن بأن لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين.
والجواب: يقال لهم: من سلم لكم أن أبا لهب كلف أن يؤمن بأن لا يؤمن وعندنا أن التكليف إنما يكون إنما يكون بما يمكن لا بما يستحيل، فكيف يكلف بأن يصدق بأن لا يصدق، وهل وقع النزاع إلا في هذا وأشباهه.

يوضحه أن أبا لهب لا يستحق ثواباً على أن يؤمن بأن لا يؤمن، وذلك دليل على أنه لم يكلفه به.
شبهة
قال تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} قالوا: فكلف الملائكة بما لا يعلمون.
والجواب: لا تعلق في ظاهرها؛ لأنه لم يأمرهم مطلقاً، بل قال: إن كنتم صادقين، قيل: معناه إن كنتم عالمين، وقيل: إن كنتم صادقين ي أنكم أصلح للأرض.
وبعد، فجمهور القوم لا يجيوزن تكليف مالا يعلم، والمعنى أن الله تعالى تحداهم وعجزهم تأكيداً لمعجزة آدم عليه السلام، وليس يأمر على الحقيقة، فهو بمنزلة {فأتوا بسورة من مثله} ونحو ذلك.
شبهة
قال تعالى: {ولا تحملنا مالا طاقة لنا به}.
والجواب: المراد لا تحملنا ما يثقل علينا ويشتد كُلفَتُه كما فعلت في سائر الأمم من /283/ التكاليف الشاقة نحو: قتل الأنفس، وهذا ظاهر في اللغة، يقال: والله ما أستطيع النظر إلى عدوي، ولا أطيق صحبة فلان، ولا أقدر على قيام الليل ونحو ذلك.
وبعد فلم يقل ولا يكلفنا فلا دليل في ظاهره.
وبعد فقد قيل: المراد في الآخر من نقل الأوزار وشدة الحساب وألم العذاب.
وبعد، فهو دعاء تعبُّدنا به كسائر الأدعيَة، وإن كان لا يفعل كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} ومعلوم أنه لا يخزيه، وكقوله: {رب احكم بالحق}.

شبهة
قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ومعلوم أنا كلفنا بالعدل بينهم.
والجواب: أن المراد أنه يثقل ويشق لسوء طرائقهنّ ونقص دينهن وكثرة غيرتهن، ويجوز أن يكون المراد بأن لا يستطيع العدل ينتهز في الشهوة؛ لأنها من فضل الله، والذي أمرنا أن نعدل بينهن فيه هو الجماع والإنفاق والحكم ولين الجناب وحسن العشرة ونحو ذلك.
شبهة
قال تعالى: {يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع}. وقال: {الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً}.
والجواب: ظاهره نفي استطاعتهم على السمع، والسمع هو من فعل الله تعالى، لا سيما على مذهبهم في أن الإدراك معنى.
وبعد فظاهرها يقتضي أنهم كانوا صماً وعمياً، والمعلوم ضرورة أنهم لم يكونوا كذلك، ولهذا قال تعالى: {أم على قلوب أقفالها}، وقال: {أفلا ينظرون} {أفلا يسمعون}، وقال: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} ونحو ذلك.
ولو سلمنا أنهم كانوا عمياً وصماً، فالمعلوم ضرورة من الدين أنه ما على الأصم والأعمى حرج، وقد صرح به القرآن.
والمعنى أنهم كانوا يستثقلون سماع المواعظ والقرآن، وسماع الحق والانتفاع، فأورد ذلك على طريق التهديد والذم كما يقول الملك لمن يعاقبه: لم تستطيع طاعتي أو على طريق التشبيه.

الكلام في الألطاف
اللطف في اللغة هو ما قرب من نيل العرض، سواء كان المقرب والمتقرب إليه حسنين أو قبيحين.
وفي الاصطلاح: أحسن ا يقال فيه هو ا يختار المكلف عنده الطاعة لأجله بعد التمكين أو يقرب من اختيارها، كذلك والمفسدة ما يقابله.
قلنا: يختار عبده الطاعة ليدخل في لطف التوفيق، وهو الذي يختار عنده الفعل، ولطف العظمة، وهو الذي يختار المكلف عنده الترك، وكلاهما طاعة أعني الفعل والترك، وقلنا: لأجله احترازاً من أن يختار للإلجاء أو لمنفعة دنيويّة، وقلنا: بعد التمكين احترازاً من أن نختار الطاعة عند مجرد التكليف والآلة، فإن التكليف والآلة /284/ لا تكون لطفاً ولا مفسدة، بل هما تمكين، وقلنا: أو يقرب من اختيارهما ليدخل فيه اللطف المطلق، وقلنا: كذلك أي لأجله بعد التمكين.

43 / 75
ع
En
A+
A-