ووجه آخر جملي، لو قبح تكليف الكافر لقبح ما لولاه توجه التكليف عليه كالعقل والقدرة والآلة ونحو ذلك، ولوجب فيمن كلف أن يقطع بكونه من أهل الجنة، وفي العلم بذلك مفسدة ظاهرة، فثبت بهذه الوجوه حسن هذا التكليف، ووقع ما يوردونه على الجملة. ثم أنا نبطل شبههم على التفصيل شبهة شبهة بعون الله تعالى:ـ
قالوا: علم المكلف بعدم القبول جهة في قبح التكليف.
قلنا: إذاً يقبح كل أمر ونهي في الشاهد؛ لأن أحدنا لا يمكنه القطع على ما يكون في المستقبل، ومعلم حسن ذلك مع الشك، بل مع الظن لعدم القبول.
قالوا: إذا أمر الوالد ولده بالتجارة وطلب المنافع وهو يعلم أنه يهلك دونها ولا يصل إليها قبح منه.
قلنا: إنما قبح منه لأنه إنما أمر ولده بذلك لنفع نفسه وليحصل له زيادة مسرة بما يصل إلى ولده من المنافع، فمتى أمره مع العلم بأنه يهلك دونها كان ناقصاَ لغرضه، وكالجالب على نفسه ضرراً وغماً، والباري تعالى لا يصح فيه شيء من ذلك، فلم يقبح منه، وصار كمن يستدعي الغير إلى الدين والصلاح ليحصل له نفع عظيم، وهو يعلم أنه لا يقبل.
قالوا: تكليف من لا يقبل إضرار به لا يقع له لتأديته إلى هلاكه.
قلنا: الضرر الذي لحقه لم يكن لأجل التكليف، بل لأجل الكفر، وإن كان لا يصح إلا مع التكليف فليس يقتضي ذلك كون التكليف سبباً للمضرة، وإلا فأجب أن تكون القدرة والآلة والعلم سبباً للمضرة؛ لأن الكفر لا يصح غلا معها، بل كان يجب أن يكون حياة المقتول سبباً في قتله؛ لأنه لولاها لما صح القتل وخلافه معلوم.
والحاصل أن التكليف تمكين المكلف من نفع نفسه والإضرار بها كالقدرة والآلة والعلم، ونحو ذلك.
قالوا: لو كان غرضه تعالى بالتكليف نفع المكلف لمنعه من الكفر.
قلنا: إن أردتم تمنعه بالقهر والجبر، فذلك يبطل التكليف الذي هو تعريض للنفع، فكأنكم قلتم: لو أراد النفع لفعل ما يبطل النفع، وإن أردتم به المنع الذي معه ينفي التكليف فليس إلا النهي والوعيد، وقد فعله الله تعالى.
قالوا: وكيف عدل الباري بالمكلف عن النفع المتيقن الذي هو التفضل إلى التكليف الذي هو سبب فوات النفع، بل في حصول الضرر.
قلنا: التكليف أيضاً يفضل وليس على الله اقتراح في اختيار تفضل على تفضل.
على أن النعمة بالتكليف أفضل لتأديته ذلك إلى المنافع العظيمة، وصار كالوالد فإنه يعدل بولده عن الراحة إلى المشاق لتأديته ذلك إلى المنافع.
وقولهم: إن التفضل متيقن غير صحيح؛ لأنه غير واجب، فمن أين أنه متيقن
وقولهم: إن التكليف سبب في فوات النفع وحصول الضرر باطل بما قدمنا من أن السبب في ذلك هو المعصية.
يوضحه أنه قد كان يحسن من جهة العقل أن يعفو عن الكافر.
قالوا: إذا علم الله أنه لا يؤمن استحال أن يريد منه الإيمان.
قلنا: ومن سلم لكم أن الإرادة تطابق العلم، بل كلما يصح حدوثه يصح أن يراد، ولهذا يريد أحدنا ما يشك في وقوعه، بل ما يعلم أنه لا يقع كإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان أبي لهب، وكإرادتنا من الكفار أن يؤمنوا دفعة واحدة مع أنا نعلم بالعادة أن ذلك لا يقع.
قالوا: لو كان غرضه تعالى نفع المكلف لكلفه على وجه آخر يعلم معه حصول النفع وزوال الضرر.
قلنا: هذا مبني على أن في التكليف جهة أخرى تقوم مقام هذه في الغرض، ولسنا نسلمه، كما لا يمكن الوالد إبلاغ ولده درجات الكمال من غير طريقة التعليم.
قالوا: بل هنا جهة أخرى وهي النوافل التي يثاب لى فعلها ولا يعاقب على تركها، فهذا اقتصر في التكليف عليها.
قلنا: لا يحسن التكليف بالنوافل إلا على جهة التبع للواجبات عند من جعل جهة التكليف بها كونها مسهلة للفرائض، فأما من يجعل الجهة في ذلك كونها لطفاً في مندوبات عقليَّة فتقتصر على أن النفع في الواجبات أعظم، فتكون /274/ النعمة في التكليف بها أعظم، والراد لذلك أتي من جهة نفسه.
وله أن يقول أيضاً: ليس يصح أن يكلفه بالنوافل إلا بشروط حصولها معها ومع الواجبات وترك المقبحات على سواء.
منها: أن تعذره عليها والقدرة تتعلق بالكل على سواء، ومنها: أن يكمل هل عقله ومن حمله كمال العقل العلم بوجوب الواجبات وقبح المقبحات، ومنها أن يجعلها شاقة يخلق النفرة عنها، ومتى تكاملت شرائط التكليف بالجميع وجب التكليف بالجميع.
على أن كثيراً من الناس أوجب تمام النوافل عند الدخول فيها، ومن تركها بعد الدخول استحق العقاب، فقد بطل غرض السائل من أن النوافل لا تستحق بتركها عقاب.
قالوا: كيف يحسن هذا التكليف منه تعالى وعندكم أنه أحسن نظر للمكلفين منهم لأنفسهم؟
قلنا: هو كذلك فيما يتعلق بالتعريض بالتكليف والتمكين والألطاف ونحو ذلك لا على الإطلاق، ولهذا إذا قدمنا الطعام للجائع مع علمنا أنه لا يأكل ثم ذمه العقلاء على كونه لم يأكل فلا يقال: قد أسأنا الاختيار له حين اخترنا تقديم الطعام الذي حسن ذمه لأجل رده.
قالوا: عندكم أن الله إذا علم أن عند تكليف زيد بكفرٍ عمر وقبح هذا التكليف، فكذلك يقبح التكليف في الموضعين إذا علم الله أنه يكفر لأجل التكليف، ومن المعلوم من حاله أنه يكفر لمن يكفر لأجل التكليف، بل لسوء اخيتاره، والتكليف تمكين من الكفر كالقدرة والآلة.
قالوا: يقبح من أخذنا إدلاء الحبل إلى الغريق إذا علم أنه يخنق به بنفسه، وإن كان عرضة تعريضه.
قلنا: هذا مبني على أن المكلَّف هلك نفسه بالتكليف كما خنق الغريق نفسه بالحبل، وليس كذلك وإنما أهلك نفسه بالكفر الذي لا يصح إلا مع التكليف.
على أن ما ذكروه لا يصح على الإطلاق، بل يجب أن يفصل القول فيه، فيقال: إن كان الغريق لا يقدر على تخليص نفسه إلا بإدلاء الحبل وقصد المدلي تخليصه حسن منه، ولو علم أنه يخنق به نفسه، وإن كان الغريق يمكنه أن يخلص نفسه بغير الحبل كان إدلاء الحبل، والحال هذه تجري مجرى المفسدة، فيقبح، وليس هذا حال التكليف، فإن المكلف لا يتمكن من تخليص نفسه ولا من هلاكها إلا بالتكليف وحسن هذا التمكين في الموضعين واحد؛ لأن الغرض واحد.
قالوا: إذا لم يحصل المقصود بالتكليف وهو الإيمان كان عبثاً.
قلنا: الغرض بالتكليف هو التعريض /275/ للنفع والتمكين منه لا يقيس الإيمان.
يوضحه أن التمكين من النفع يجري عند العقلاء مجرى النفع في حسنه وكونه نعمة، ولولا هذا لم يثبت في الشاهد نعمة لأحد على أحد؛ لأن أكثر ما يفعله المنعمون في الشاهد التمكين من النفع.
تنبيه
ذهب أهل الأصلح من أصحابنا البغداديين إلى أن الوجه في حسن التكليف من المعلوم أنه يكفر هو؛ كونه لطفاً للغير بأن يعلم الله أنه إذا كلف قوماً آمن آخرون أكثر منهم أو دونهم بحسب اختلاف بين أهل هذه المقالة.
وهذا عند الجمهور باطل؛ لأنه يلحق الكافر بهذا التكليف ضرر ولا يكفي في حسن هذا الإضرار أن ينتفع به الغير، بل لا بد أن يكون النفع راجعاً إلى المضرور، ويكون انتفاع غيره تبعاً لنفع، كما يقوله في إنزال الألم بغير المكلفين ليعتبر المكلّفون، فإن للمؤلَمين نفعاً واعتبار المعتبرين تبعٌ له، ولولا هذا لما قبح ظلم قط في الشاهد؛ لأنه وإن استنصر المظلوم فالظالم ينتفع.
فصل [في ما يتناوله التكليف من الأفعال والتروك]
اعلم أن التكليف إما أن يكون بأن يفعل أو بأن لا يفعل، إن كان بأن لا يفعل فإما أن يستحق الذم بفعله فهو القبيح أو لا فهو المكروه، وما عدى ذلك مما لا مدخل له في مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فلا يتناوله التكليف.
فصل [في شرائط حسن التكليف]
هي على أربعة أضرب:
منها: ما يرجع إلى التكليف. ومنها ما يرجع إلى الفعل المكلف به. ومنها ما يرجع إلى المكلف. ومنها ما يرجع إلى المكلِّف.
أما ما يرجع إلى التكليف فشرطان:
الأول أن يتقدم على وقت الفعل بزمان يمكن المكلف فيه أن ينظر فيعلم صفة ما كلفه ليتمكن من تأديته على الوجه الذي كلفه.
الثاني: أن لا يكون فيه مفسدة للمكلف ولا لغيره نحو أن يعلم أنه إذا كلّف زيداً كفر أو كفر مر ولا حل التكليف، ولا خلاف بين الشيوخ في قبح التكليف إذا كان فيه مفسدة، وإنما اختلفوا في أعيان مسائل هل هي بصفة التمكين فلا يقبح أو بصفة المفسدة فيقبح.
منها: تلقية إبليس لعنه الله وتمكينه من الوسوسة والإضلال.
قال أبو علي: لا بد أن يعلم الله أن المكلف كان يعصي سواء أغواه الشيطان وأضله أم لا، وإلا كان ينفيه الشيطان، وتمكينه من الوسوسة بصفة المفسدة.
وقال أبو هاشم: بل يحسن تنقية إبليس وإن علم الله أن المكلف لا يضل إلا بوسوسته؛ لأن في تنفيته زيادة مشقة على المكلف وفي مدافعته كثرة ثواب، فيصير كالتكليف المبتدأ، فمتى أطاعه المكلف فقد أتى من جهة نفسه.
يوضحه حكايته تعالى عن إبليس {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ونحو ذلك مما يدل من الآيات على أن المكلف /276/ يطيع إبليس، وقد نسب الله تعالى الإغواء إلى إبليس وغيره في عي عدة مواضع.
حجَّة أبي علي أن الله تعالى أمر بقتل الغلام لما اكن في بقائه ضال والديه، كما قال تعالى: {فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً}.
ويمكن الجواب بأن أبا هاشم يريد أن يحترم الله إبليس كما احترم الغلام ويتقي الغلام كما تقى إبليس، وإنما النزاع هل تقبح التبقية أم لا؟
على أنه لا يمتنع أن يكون ثوابهما بالتكليف مع بقائه كثوابهما مع موته، فلا يكون في مشقة مدافعتها له مزيد ثواب.
ومنها أن الله تعالى لو علم أن عند زيادة الشهوة يعصي المكلف، وعند بعضها لا يعصي، هل تحسن هذه الزيادة أم لا؟
قال أبو هاشم: تحسن؛ لأن فيه مريد ثواب، والمكلف أتي من جهة نفسه.
ومنها: تبقية الكافر إذا كان المعلوم أنه يؤمن.
قال أبو علي: تنفيته لأنها لطف، وبه قال أهل الأصلح، وقال أبو هاشم: لا تجب؛ لأن التبقية في الأصل تفضل منه تعالى، وكذلك التكليف حال التنفية، ولا يصح أن تكون التنفية لطفاً؛ لأنها إن كانت لطفاً في الماضي فباطل؛ لأن حق اللطف التقدم، وإن كانت لطفاً في ما تفعله حال النفعية لم تجب؛ لأن التكليف في تلك الحال غير واجب، فكذلك ما هو لطف فيه، ولأن من حق اللطف أن يفعل المكل لأجله وهو لا يفعل لأجل التبقية.
ومنها الكلام في المؤمن والفاسق إذا علم أنه إذا أبقاه كفر.
قال الشيخان: يحسن هذه التبقية لأنها تفضل، وتعريض للثواب وهي كتكليف مبتدأ.
وقال أهل الأصلح: إن كان مؤمناً أو بمقالة الشيخين إن كان فاسقاً.
قال: لأن تبقية الفاسق والحال هذه تجري مجرى الخذلان والعقوبة كالكافر إذا علم أن مع التبقية يزداد كفر أو جمل على هذا قوله {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم} وهذا التفصيل لا وجه له؛ لأن التبقية تفضل في الموضعين، لا سيما وقد ورد الشرع بأن ناساً كانوا مؤمنين ثم كفروا ولم يحترموا حال الإيمان كإبليس لعنه الله، فإن المرويَّ أنه عبد الله تعالى سنيناً كثيرة، وقال تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا..} الآية. وقال: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} ونحو ذلك.
وقريب من هذا الكلام في من علمه الله من حاله أنه إن كلفه تكليفاً ثانياً كفر، وإن اقتصر به على الأول آمن، فإن هذه الزيادة تحسن لأنها تكليف مبتدأ، وليس ما يؤخر بعد مفسدة في ما مضى.
ومنها أن يعلم الله أنه إذا كلف زيداً اليوم أطاع وإن كلفه غداً عصى.
حكي عن أبي هاشم أنه يجوز أن يكلفه في أيهما شاء حرياً على قياس الباب وحكى عنه التوقف.
وقالوا /276/ أبو عبدالله: لا يجوز أن يكلفه في اليوم الثاني؛ لأنه يتنزل منزلة طبيب يعالج المريض في اليوم الذي يعلم أنه لا يقبل البقاء ويتركه في اليوم الذي يعلم أنه يقبله.
ولأبي هاشم أن يقول: إذا كان الانتفاع وعدمه متوقفاً على اختيار العليل كان له أن يعالجه في أيهما شاء.
قال القاضي: إن كان الله يعرضه بالتكليف في اليومين لعذر متساوٍ من البوات لم يحسن تكليفه في الغد، بل إن كلفه اليوم وإلا فلا؛ لأن غرضه تعالى التعريض، فتكليفه في الغد يعود على غرضه بالنقض، وإن كان في تكليف الغد مريد ثواب حسن تأخير التكليف إلى الغد.
ومثل هذا يقع الكلام في العقلين إذا علم الله أنه إن كلفه بأحدهما أطاع، وإن كلفه بالآخر عصى، وفي الفعلين إذا علم أنه يقترن بأحدهما يومه دون الآخر، ونحو ذلك.
وأما الشروط الراجعة إلى الفعل المكلف به فشرطان:
أحدها: أن لا يكون مستحيلاً في نفسه كالجمع بين الضدين ونحوه.
والثاني: أن يكون له مدخل في استحقاق المدح والثواب فعلاً أو تركاً، فيخرج م ذلك المباح والفعل اليسير.
وأما الراجعة إلى المكلف الفاعل فهي أربعة:
الأول: أن يكون قادراً على ما كلفه وإلا كان تكليفاً لما لا يطاق، وقالت المجبرة: الشرط ألا يون قادراً لعيه؛ لأن حال كونه قادراً يكون واقعاًن والتكليف بإيقاع الواقع محال م حيث أن التكليف هو طلب إيقاع الفعل وسيجيء الكلام عليهم.
الثاني: أن يكون متمكناً من امتثال ما كلفه على الوجه الذي كلفه بحصول العقل والآلة وزوال الموانع ونحو ذلك.
الثالث: أن يكون مزاج العلة بالألطاف إذا كان في المعلوم أن له لطفاً، وسيأتي الكلام في اللطف إنشاء الله.
الرابع: أن يكون متردد الدواعي، فيكون له داع إلى الفعل، وهو علمه بوجوبه أو ندبه وصارف، وهو المشقة الذي يلحقه بفعله، وكذلك يكون له إلى القبيح داع، وهو اللذة التي تحصل به، وصارف عنه وهو علمه بقبحه، فحيئنذٍ يفعل ويترك لأجل التكليف، وإنما يتم هذا بأن يخلق فيه شهوة القبيح ونفرةً الحسن، فإن هما تتم مشقة التكليف التي لأجلها يحل الثواب حتى لو كان الأمر بالعكس لم يحصل له إلى القبيح داع، ولا عن الحسن صارف، فلا يستحق ثواباً لزوال المشقة، وقد دخل في هذا ما يعلم من حال كفار الهند، فإنه إذا مات الرجل أحرقوا امرأته حيَّة، فهم مكلفون بترك إحراق أنفسهم، وإن كان في الإحراق مشقة عظيمة، وذلك لأنه طرت عليهم شبهة اعتقدوا لأجلها أن في الإحراق نفعاً عظيماً، فقد صارت دواعيهم مترددة، وصار ترك الإحراق شاقاً عليهم من هذا الوجه، وكذلك /278/ الكلام في عيادة النصارى للصليب وحفظ اليهود للسبت وسائر ما نهوا نه، مما فيه مشقة ويفارق هذا حال المسلمين فإنهم لبسوا مكلفين بترك إحراق أنفسهم وعبادة الصليب ونحو ذلك، بل هم ملجئون إلى تركه لتوفر الصوارف عنه، وفقد الدواعي.
ومن هاهنا قال أصحابنا: أن من استغنى بالحسن عن القبيح وعلم ذلك ولم يحصل عليه مشقة في فعل الحسن ولا ترك القبيح، فإنه لا يكون مكلفاً به؛ لأنه غير متردد الدواعي، بل هو في حكم الملجأ إلى فعل الحسن، وجعل ذلك أحد الوجوه في زوال التكليف عن أهل الجنة.
وأما الشروط الراجعة إلى المكلف الحكيم فهي أربعة.
الأول: أن يكون منعماً على المكلف بما معه يستحق الطاعة والعبادة، وهي أصول النعم التي هي خلق الحي وحياته وقدرته وشهوته وتمكينه من المشتهى والعقل الذي يه يميز بين الحسن والقبيح، فحينئذٍ يستحق العبادة، ويجري ذلك مجرى الشكر المطلق على النعمة في الشاهد.
فإن قال: إذا كان السبب في استحقاق العبادة كونه منعماً بأصول النعم لم نستحق نحن ثواباً على الطاعة؛ لأنها كالمستحقة.
قيل له: إذا كانت نعمته تعالى لسابقة من قبيل التعضّل بم كلفا المشاق ولم يحترزه بنفع صارت هذه العبادة في مقابلة تلك النعم، فخرجت عن كونها نعماً منفضلاً بها، وصارت كتقديم آخرة الأخير على عمله، وكان يلزم أن لا يختلف الناس في التكليف لإنفاقهم في ذه النعم التي هي في مقابلة التكليف أيضاً فمشقة التكليف المعصية إلى ضرر العقاب عند العصيان ربما يريد على هذه النعم.
وعلى الجملة فإذا جعل التكليف شاقاً لم يكن بد من أن يختره بنفع وإلا فقد كان يمكن تأدية شكره من دون مشقة بأن لا تلحق شهوة القبيح ونفرة الحسن كما في أهل الجنة.
الثاني: أن يكون عالماً باجتماع الشرائط الراجعة إلى المكلف والمكلف به.
الثالث: أن يكون عرضة بالتكليف التعريض إلى درجات لا تنال إلا به.
الرابع: أن يكون عالماً أنه سيثيبه إذا أطاع، وأنه يفعل مالا يثمر ذلك إلا به من انقطاع التكليف والإعادة ونحو ذلك.
فصل [في أن الله تعالى إذا أكمل للعبد شرائط التكليف فلا بد أن يكلفه]
والأصل في ذلك أنه لو لم يكلفه لكان إكماله لها عبثاً يتنزل منزلة من يصنع لغير طعاماً، ثم يتلفه قبل أن يمكنه منه، فإن ذلك يعود على عرضه بالنقض في الموضعين.
ووجه آخر وهو أن من جملة الشروط أن يخلق فيه شهوة القبيح ونفرة الحسن، فلو لم يكلفه فعل الحسن وترك القبيح لكان مغرياً له بترك الحسن، وفعل القبيح.
وقول أصحابنا لا بد أن يكلفه الله /279/ لا ينقض قولهم أن التكليف تفضُّل؛ لأنه قد كان يصح أن لا يكلفه الله بأن لا يكمل له شرائط التكليف، أما بعد الإكمال فيجب، وإلا عاد على غرضه بالنقض كمن يصنع للغير طعاماً.