ثم يقال: أتريدون لو شاء لآمن مع وجود قدرة الكفر وإرادته، ففي ذلك اجتماع المتضادات أو مع تقدير ارتفاعهما، فكذلك العاجز.
وبعد فإنما تطلق هذه العبارة على من يقدر على الشيء، ولهذا لا يقول أحدنا: لو شئت لطرت أو لجمعت بين الضدين.
قالوا: الكافر تارك للإيمان مشغول بضده.
قلنا: التارك هو من لم يفعل الفعل مع القدرة عليه، وغلا كان أحدنا تاركاً للجمع بين الضدين وعندكم أنه غير قادر على الإيمان، وكذلك لا يقال: فلان مشغول بالكتابة عن الصناعة إلا إذا كان قادراً عليهما، والأصح وصفه بأنه مشغول عن خلق الأجسام والجمع بين الضدين.
فصل
ولهم في تجويز البدل عن الموود شبهتان:ـ
الأولى: إن قالوا: قد جاز دخول البدل في الفعلين حال عدمهما فليجز حال وجود أحدهما، والجامع تعلقهما بالقادر.
والجواب: يقال من سلم لكم تعلق الموجود بالقادر حتى تجمعوا بذلك، ولو جاز تعلقه بالقادر لجاز تعلق الماضي به.
فإن قالوا :دليل تعلقه به أنه يتعلق به المدح والذم ويشتق له الاسم حال الوجود.
قلنا: إنما يستحق المدح والذم واشتقاق الاسم حال كونه فاعلاً لا حال كونه قادراً، فما الجامع بين الأمرين.
الثانية: أنه إذا جاز أن يكلفه الله بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، فكذلك يجوز أن يكلفه به مع فقد القدرة لاستحالة الإيمان في الموضعين، وإذا جاز البدل في المعلم جاز في الموجود.
والجواب: إذا كلفه بالإيمان مع القدرة عليه وعلم أنه لا يؤمن فإنما أتي في فقد الإيمان من قبل نفسه، ولسنا نحيل القدرة على خلاف المعلوم، ولا نجعل للعلم تأثيراً فيه، وسيعود الكلام في مثل هذا.
وأما دخول البدل في المعلوم فإنما يجوزه فيما يستقبل وينتظر لا في ما وقع، فالذي منعناه في الموضعين واحد.

الكلام في التَّكليف
هو في اللغة: البعث على ما يشق من فعل أو ترك. وفي الاصطلاح: هو إعلام الله العبد بأن له في الفعل أو الترك جلب نفع أو دفع ضرر مع مشقة تلحقه فيهما أو في سببهما أو في ما يتصل بهما مع زوال الإلجاء.
قلنا: هو إعلام الله العبد؛ لأن التكليف هو من جهة الله في الحقيقة، ولهذا إذا وعظ أحدنا غيره وعرفه بماله فيه ينفع أو دفع ضرر لم يقل أنه قد كلفه، وقد دخل فيه الأعلام بخلق العلوم ونصب الأدلة والأمارات، واعتبرنا المشقة /267/ لأنها خاصية التكليف؛ ولأن الثواب لا يستحق إلا على مافيه مشقة في الفعل أو الترك نفسهما كالصلاة وشرب الخمر أو ما في سبب الفعل وما يتصل به كالعلم، فإن المشقة إنما تلحق في سببه وهو النظر وكقراءة القرآن بالصوت الحسن، فإن المشقة إنما تحلق في ما يتصل بها من حراستها عن الربا والعجب ونحو ذلك مما فيه مشقة عظيمة، وكذلك ما ورد في الحدث: ((إن الإنسان ليثاب على تقبيل امرأته ووطئها وملاعبتها)) فإنه يتصل به مشقة وهو توطين النفس على الاقتصار على حلاله، وأن لا يتعداه، وأن يقصد بذلك تطييب نفسها وحسن المعاملة معها.
واعتبرنا زوال الإلجاء؛ لأن من حق المكلف أن يفعل ويترك لأجل التكليف والملجأ ليس كذلك، ولا حاجة إلى اعتبار الإرادة في التكليف؛ لأن الأعلام المذكور يكون تكليفاً، وإن لم يكن إرادة لكن ذلك لا يحسن.
فصل في معنى أن الله حكيم.
اعلم أن الحكمة هي كل فعل حسن لفاعله فيه عرض صحيح، هذا إذا رجع بهذا الوصف إلى الفعل وهو العرض هنا، فإن رجع به إلى الذات فالحكمة بمعنى العلم، وعليه حمل قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}.
وقد اتفق أهل الإسلام على أن الله يوصف بأنه حكيم، ثم اختلفوا في المعنى، فقال أهل العدل: ليس يفعل الله الفعل إلا لغرض.
وقال أهل الجبر: لا يجوز أن يفعل لغرض.

لنا: أن كل فعل لا يفعل لغرض فهو عبث؛ إذ لا معنى للعبث إلا ذلك وقبح العبث معلوم ضرورة والخصوم قد التزموا معنى العبث في حقّه تعالى، وامتنعوا من إطلاق العبارة وزعموا أ، ذلك لا يقبح منه تعالى على مثل كلامهم في الظلم وغيره.
وأصل هذا هو الكلام في أنا نعلم بالعقل قبح بعض الأفعال وحسن بعضها وتقدم في ذلك ما يشفي.
فصل في بيان وجه الحكمة في ابتداء الخلق.
اعلم أن للجهل بوجه الحسن ودواعي الحكمة ضل كثير من الناس، فجهلت اللملحدة أسباب التعريض للمنافع العاجلة والآجلة وحسن ذلك، واعتقدوا أن في إحداث الخلق وتعريضهم للمنافع إيلاماً وإصراراً فهو بمنزلة من تخرج غيره، ثم ناسوه، وذلك يقدح في ثبوت الصانع الحكيم، فنفوا الصانع.
وجهلت الثنوية وجه الحسن في إيراد الآلام والمصائب وحلو كثير من الحيوانات وغيرها واعتقدوا أنها ضرر وأن الحكيم لا يفل ذلك، فأداهم ذلك إلى إثبات ثان يضيفونها إليه.
وجهلت المجبرة وجه الحسن في كثير من أفعاله نحو تكليف من المعلوم أنه يكفر، ونحو الإماتة بالغرق، ونحو ذلك، فاعتقدوا قبحها، فأجازوا على الله كل قبيح، وقالوا: لا يقبح من الله قبح، وعللوا ذلك بأن الأمر أمره وأن الحسن والقبيح يتبع الأمر والنهي.
وحاصل المسألة عند أهل الحق أنه قد ثبت أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض، وذلك الغرض لا بد أن يعود إلى عباده وخلقه؛ لاستحالة المنافع والمضار عليه تعالى، وهو إما أن يعود إلى عباده وخلقه /268/ بالضرر المحض، وذلك محال؛ لأنه يكون ظلماً، وإما أن يعود إليهم بالنفع المحض كالثواب وكثير من النعم والملاذ، وإما أن يعود إليهم بما يجري مجرى النفع لتأديته إليه كالتكليف والمصائب والآلام، فإنها منافع دينية ومصالح في التكيف ومذكرة لعقاب الآخرة وداعية إلى التوبة وغيرها من الطاعات، وأما أن يعود إليهم بالضرر المستحق كعقاب الآخرة والدنيا يلحق بكل واحد من هذه الأقسام ما لا يتم إلا به كالإرادة.

وعلى الجملة لا تعدو أفعاله تعالى ستة أقسام: المنعم عليه، والنعمة، ومالا يتم كونها نعمة إلا به من القصد، والمنتقم منه، والنقمة، ومالا يتم كونها نقمة إلا به من القصد، والثلاثة الأول متلازمة، والثلاثة الأخيرة متلازمة، ولا يصح في ابتداء الخلق إلا الثلاثة الأول؛ لأنه لا مستحق للضر حينئذٍ.
والوجه في في حسن الطرفين جميعاً وكونها حكمة، وهو أنا نعلم بالعقل حسن الابتداء بالنفع وما يؤدي إليه وحسن استيفاء الحق ممن وجب عليه والمنازع في ذلك مكابر.
فصل
وقد حصل مما تقدم امتناع تقديم خلق الجماد على الحيوان؛ لأن اتخاذ النفع ولا متنفع يكون عبثاً في حال عدم المتنفع.
فإن قال: أليس أحدنا يفعل أفعالاً ويقصد بها وجه الإحسان إلى الغير قبل حصول ذلك الغير، كأن يضع له طعاماً أو يبني له بيتاً، ثم إذا مكنه منها لم يخرج عن كونه منعماً بتقديمها.
قلنا: إنما حسن من أحدنا تقديمها لأنه يخشى الفوت إذا أخر فعلها إلى حال حضور المتنفع، فأما الباري تعالى فهو قادر على اختراع الفعل حال حضور المتنفع، فلا يكون في تقديمه عرض، ولهذا منع أصحابا من تقديم الفناء على الجواهر ونعوا ظاهر ما يروى من أن أول ما خلق الله اللوح والقلم؛ لأنه لا بد أن يكون هناك متنفع باللوح والقلم بأن يعتبر النظر إلى مافي اللوح ومطابقته لما سيكون من الملائكة أو غيرهم، وأما قوله عليه السلام: (كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر) فلا حجة لهم فيه؛ لأنه لم يقل ثم خلق الذكر فقط فلا بد أن يكون مع خلق الذكر من ينتفع به.
فصل
ويصح أن يبتدئ الله خلقاً في الجنة وينعم عليهم بنعم خالصة لا شائب فيها، ولا يكونوا مكلفين؛ لأن التكليف يتضمن المشقة.
فإن قال: فكيف يصح أن يخلص لهم النفع مع أنهم يجوزون انقطاع ذلك وزواله وهو يتضمن التنغيص والحسرة.

قيل له: إن كان هذا الخلق لا عقل له فالسؤال ساقط، وإن كانوا عقلاء على بعد ذلك جاز أن لا يخطر لهم الانقطاع على بال كما في كثير من المترفين في الدنيا، فإن قد لا يخطر لهم الموت على بال مع علمهم به قطعاً، فإذا جاز ذلك أوقاتاً قليلة جاز أوقاتاً كثيرة، ويجوز أيضاً أن يمنعهم من فعل هذا التجويز ويشغلهم عنه بضروب من الشواغل.
/269/ فإن قال: فهلا ابتدأ الله جميع الخلق في الجنة ولم يخلقهم في دار المحنة والتكليف فتكون النعمة عليهم أعظم من نعمة التلكيف.
قيل: بل النعمة على المكلفين أعظم؛ لأنهم يصلون بالتكليف إلى منافع عظيمة لا يحسن الابتداء بها، ومن هلك منهم فمن جهة نفسه أُتي.
على أن هذا اقتراح على الباري تعالى في فعله، وما المانع من أن يختار الإنعام عليهم بادون النعمتين، لو سلمنا أن نعمة التكليف أدون.
فصل
في المكلف الذي هو الإنسان ما هو عندنا أنه هذا الشخص المشاهد المبني بنية مخصوصة المسار إليه بقولهم: أنت فعلت.
وقال أبو سهل النيحتي وبعض الأوائل: هو أمر خارج عن هذا الشخص.
وقال النظام: هو جسم لطيف سالك هذا الجسم.
وحكي عن الأسواري: أنه روح في القلب.
وقال ابن الرواندي: شيء في القلب يسخر الجملة.
وقال الفوطي: هو جزء في القلب لا يتجزأ.
وقال ابن الأحشيذ وبعض الأوائل: هو جسم رقيق منبت في الجسد متشكل بشكله في كل عضو منه عضو منه، فإذا قطع الشخص تقلص فإذا انقطع تقلصه هلك.
وقال بشر بن المعتمر: هو الحي والروح جميعاً.
لنا العقل والسمع، أما العقل فهو أن ما عدى ما ذكرناه غير معلوم، والإنسان معلوم ضرورة، ولا يجوز العدول عن ما يعلم إلى مالا يعلم.
وبعد فنحن نجد من أنفسنا ضرورة كوننا معتقدين ومريدين ونحو ذلك، ولا يجوز أن يعلم الذات استدلالاً وصفتها ضرورة.
وبعد فلو كان الإنسان غير هذه الجملة داخلاً فيها أو خارجاً عنها لصح انفصاله عنها، فيكون أحدنا حياً قادراً عالماً، ولا يكون إنساناً، والعكس وخلافه معلوم.

وبعد، فالإنسان لا بد أن يكون هو القادر العالم، ونحن إذا نظرنا في أحوال القادر العالم التي هي صحة الفعل وصحة الأحكام وجدناها راجع إلى هذه الجملة المشاهدة.
وبعد فقد علمنا ضرورة حسن توجيه المدح والذم ونحو ذلك إلى هذه الجملة، فلو لم يكن هي الإنسان الفاعل لما صح ذلك.
وبعد، فإذا شهدنا على أن زيداً زنا أو قتلفإنما نشهد على هذه الجملة، فلو كان الإنسان غيرها لكاتب شهادة زور.
وبعد فلو كان الإنسان الحي غيرها لما صح الإدراك بهذه الأعضاء على هذا الحد، بل كنا نحده متناقضاً؛ لأن المدرك في الحقيقة مسبور بهذه الأعضاء، ولكنا إذا فعلنا أحسسنا باعتمادٍ في هذه الأعضاء؛ لأن الفاعل غيرها.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {ولقد خلنا الإنسان من سلالة من طينٍ} وقوله تعالى/ 270/: {يخرج من بين الصلب والترائب} ونحن نعلم أن الذي خلق من السلالة وخرج من بين الصلب هو هذه الجملة.
شبهة النظام أن آحاد هذا الشخص لا تجوز أن تكون حية بانفرادها، فكذلك إذا انضمت؛ لأن ما ليس بحي إذا انضم إلى ما ليس بحي لا يصير حياً.
والجواب: أن من حلق الحي أن يكون مبنياً بنيَة مخصوصة، وذلك لا يتم إلا بالاجتماع كما يقوله في ما ليس بطويل إذا ضم إلى ما ليس بطويل فإنه يصير طويلاً.
قال: الإنسان قادر عالم حي لذاته وصفة النفس من حقها أن يرجع إلى الآحاد.
قيل له: لو استحقت للنفس لاستحال خروج أحدنا عنها ولشاركته جميع الجواهر في ذلك لتماثلها، لكن مذهبه اختلافها وهو ظاهر البطلان.
قال: إن الغرض يوجب لمحله، فلو كان الإنسان هو الجملة لكان قد أوجب لغير محله.

قيل له: المعتمد في كيفيَّة الإيجاب على الأدلة، وقد دلت على أن في الأعراض ما وجد في المحل ويوجب للجملة كالقدرة والعلم ونحوهما، ولو لا هذا لكان أحدنا بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ، فلا يحصل له فعل بداع واحد وليست الجملة غيراً للمحل، فلا يصح قوله: قد أوجب لغير محله؛ لأن المغايرة هي أن لا يكون أحدهما هو الآخر ولا جملة يدخل تحتها الآخر، ولهذا لا يكون الواحد من العشرة غيراً للعشرة.
قالت الفلاسفة: الحركات طبيعي وقَسْري، فالطبيعي يستمر على حال واحدة كحركات الفلك وليست حركات الإنسان كذلك، فيجب أن تكون قسريَّة، ولا بد من قاسر غير هذه الجملة.
قيل لهم: إنكم أخللتم تقسيم ثالث وهو مذهب خصومكم، وهو أن حركة الإنسان اختيارية وليست طبيعيَّة ولا قسريَّة.
قالوا: هذه الجملة يصح عليها الزيادة والنقصان بالسمن والعجف والصغر والكبر، فلو كانت هي الإنسان لكان لا يصح ذم من كان صغيراً، ثم كبر ولا من كان مهزولاً ثم سمن ولا عقابه؛ لأنه يدخل تحت الذم والعقاب من لم يكن موجوداً حال إيقاع الفعل.
قيل لهم: الدم متوجه إلى الجملة المبنيَّة بنية مخصوصة، ولا بد في كل حي من بنية لا يصح أن يكون حياً من دونها، فالذم ونحوه متوجه إليها وما عداها زيادات وفضلات تجري مجرى الشَعَر والظفر، لكنها تدخل في جملة الحي لحصول الحياة فيها، وليس يلزم إذا سمن الإنسان بعد عجف أن يصير غير ما كان كما أن الشجرة إذا كبرت بعد صغر لم يصر غيرها ما كانت، وعلى هذا يصح أن يعظم خلق أهل النار وإجرامهم.

فصل [في حسن التكليف وبيان وجه الحكمة فيه]
أما حسنه فلأنه فعل الله تعالى، وتقدم أن الله لا يفعل القبيح.
وأما وجه الحكمة فيه فكونه تعريضاً للمكلف إلى درجات لا تنال إلا به، وهو الثواب الدائم الذي قد تقرر أنه لا يحسن الابتداء به، ومعنى كون الله تعالى عرضنا لذلك هو أنه أعلمنا ما يستحق به الثواب فعلاً وتركاً ومكنَّا من ذلك وأزاح عللنا فيه وجعله شاقاً ليستحق الثواب، واعلم /271/ أنا إذا أتينا بما كلفناه ولم نفسده أثابنا عليه، فعند تكامل هذه نكون قد عرضنا لهذه الدرجات وأحسن إلينا بهذا التعريض.
قالت الملحدة: إنما يسحن هذا التعريض إذا عري عن وجوه القبح وهاهنا وجه قبح، وهو أن في التكليف إضراراً بنا، فهو بمنزلة من يجرح ثم يأسوا.
قلنا: إن الإضرار إما يصير جهة في القبح إذا خلص عن النفع العظيم أو دفع الضرر العظيم، وضرر التكليف يحصل به نفع عظيم، وهو الثواب الدائم، ويندفع به ضرر عظيم، وهو العقاب الدائم فمشقته كلا مشقة.
يوضحه: أن العقلاء يستحسنون تحمل المشاق في الأسفار لمنافع مظنونة يسيرة منقطعة، فكيل لا يتحمل مشقة التكليف لمنافع عظيمة معلومة دائمة، وكذلك يتحملون ضرر الفصد والحجامة لظن دفع الضرر اليسير، فكيف بالضرر العظيم الذي نعلم اندفاعه بالطاعة، ووقلهم هو بمنزلة من يجرح غيره ثم يأسوه ليس يوازن للمسألة؛ لأن الغرض هنا مجرد إنزال الضرر ومجرد إزالته، فلذلك قبح لكونه عبثاً وظلماً بخلاف التكليف، فإنه لا ينال الثواب إلا به، فوزانه ما يستحسنه العقلاء من تعريض الوالد لولده بالتعليم للمراتب السنيَّة التي لا ينال إلا بالعلوم.
قالوا: كيف يحسن الإظرار بالمكلف بإلزام المشاق من دون مرضاة وذلك قبيح في الشاهد.

قلنا: إنما عتبرنا الرضا في الشاهد فالأمور التي يشتبه الحال فيها وفي اختيار احتمال المشقة لأجلها، فإذا بلغ مبلغاً عظيماً لا يشتبه الحال في اختيار المشقة لأجله جاز إيصاله من دون مراضاة، وصار الحال فيه كالحال في تعليم الوالد لولده، فإنه يحسن من دون اعتبار مراضاة، لما كان المعلم أن الصبي عند كمال عقله يُؤثر اختيار المشقة لأجل العلم، فصار حال العباد مع الباري تعالى في تدبير مصالحهم إن لم يرد على حال الوالد مع الولد لا ينقص حتى لو قدرَّنا أن بعض المكلفين لا يجتاز احتمال المشقة لنفع الثواب؛ لكان في حكم المولى عليه في أنه لا حكم لرضاه.
قالوا: فهلا استوت المخلوقات في التكليف الذي هو نعمة عظيمة عندكم.
قلنا: الابتداء بالتكليف نعمة من الله وتفضل، وليس يجب إذا تفضَّل على مخلوق أن يتفضل على آخر، وقولهم: هذه محاباة لا يصح؛ لأن المحاباة مفاعلة، وهو أن يحسن إلى الغير ليحسن إليك، وهذا مستحيل في حقه تعالى.
فصل [في التكليف يحسن سواء قبل المكلف أو رده]
اعلم أن تكليف من المعلوم من حاله أن يكفر صار شبهة في نفي الصانع عند قوم، وفي إثبات ثان عند آخرين، وفي جواز كل قبيح عند المجبرة.

ودليل حسنه على الجملة ا قد ثبت بالأدلة القاطعة أن الله تعالى عدل حكيم، وأن أفعاله كلها حسنة، ثم لا يلزمنا العلم بوجه حسنه على التفصيل كما في كثير من الشرعيات، ولكنا نستدل على التفصيل تبرعاً، فنقول: الوجه الذي حسن تكليف من المعلوم أنه يؤمن حاصل في تكليف من المعلوم أنه يكفر وهو كونه تعريضاً للثواب ولا فرق بين التكفير إلا أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه، والكافر أساء الاختيار لنفسه، وإساءته إلى نفسه لا تخرج التكليف عن كونه تعريضاً وإحساناً، كما أن من قدم طعاماً إلى جائعين ليدفعانه ضرر الجوع، وعلم أو غلب على ظنه أن أحدهما يأكل دون الآخر، فإن ذلك لا يخرج تقديمه للطعام عن كونه نعمة عليهما، فهذا الوجه يدل على استواء التكليفين في وجه الحسن، ويكون جواباً عن كل ما يذكره الخصوم على الجملة.
ووجه آخر وهو أنه لو قبح تكليف الكافر لأجل رده لحسن تكليف المؤمن لأجل قبوله، فلا يتم اختيار الله تعالى ونعمته إلا بفعل أحدنا، وهو القبول، وهذا مع كونه محالاً في الشاهد، وكونه يقتضي ألا يستقل نعمة الله بالتكليف فإنه يقتضي وقوف كل واحد من الأمرين على الآخر، وأنه لو لا حسن تكليفه تعالى ما تأتى من المكلَّف القبول، ولولا قبول المكلف لما حسن تكليفه.
ووجه آخر جملي، يقال: ليس يخلو قبح هذا التكليف، إما أن يرجع إلى المكلف وهو علمه بأن المكلف لا يقبل، وسنبين أنه لا تأثير للعلم بعدم القبول في حسن التمكين من النفع.
وإما أن يرجع إلى المكلف وليس إلا كونه يختار الكفر، وهذا يتأخر عن التكليف، فلا يصح أن يكون علة في قبحه؛ لأن وجه الحسن والقبح يجب أن يقارن.

41 / 75
ع
En
A+
A-