وقال زَبَالَوَيه المجبر لعبدان وكان ظريفاً: ما دليلك على أن الاستطاعة قبل الفعل، قال: الهرَّة والفأرة، قال: أتهزأ بي؟ قال: ما قلت إلا الحق، لو لا أن الفأرة تعلم أن السنور يقدر على أخذها لما هربت.
وقال عدلي: سايرت مجبراً إلى باب داره فقلت: أتقدر بابك وهو على هذه الهيئة أن يأخذ ثيابي؟ قال: لا، قال: أفتقدر أنت وأنت على هذه الهيئة أن تأخذ ثيابي؟ قال: لا، فقلت: ما الفرق بينك وبين هذا الباب، فانقطع.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول لو قدرت على قتل الأنبياء والأئمة وخراب الكعبة: أكنت تفعله، قال: نعم، قال: فمن أسوأ ممن هذه حاله.
وقال عدلي لسلام الفارسي: ما تقول في رجل قائم في الماء حلف بطلاق امرأته أنه لا يقدر أن يتوضأ للصلاة، قال: يا ابن أخي طلقت امرأته قال: تركت مذهبك.
وسال عدلي مجبراً عن قوله: {وما منع الناس أن يؤمنوا} قال هذا لا معنى له؛ لأنه المانع لهم، قال: فما معنى قوله: {فماذا عليهم لو آمنوا بالله} وما منعهم؟ قال: استهزأ بهم، قال: فما معنى قوله: {ما يفعل الله بكم إن شكرتم وآمنتم} قال: قد فعل ذلك هم وعدهم من غير ذنب ولا معنى لهذه الآيات، قال: هذا رد للكتاب، قال: إيش اصنع إذا كان هذا هو المذهب.
فصل [في شبههم في هذا الباب]
قالوا: قد ثبت أن افعال العباد من الله تعالى، وفي ذلك كون القدرة موجبة.
قلنا: قد أبطلنا هذه الدعوى، فلو كانت من الله لا كان إلى القدرة طريق.
على أنه كان يمكنهم إضافتها إلى الله من دون قدرة كالجهميَّة.
قالوا: قد ثبت أن عدم القدرة يختل المقدور، فليكن وجودها موجباً له؛ لأنهما طرفا نقيض.
قلنا: إنما يلزم أن يكون وجودها مصححاً للمقدور إذا كان عدمها محيلاً له، وكذلك يقول: لأن نقيض الإحالة التصحيح بم تعارضهم بالحياة، فإن عند عدمها يستحيل وجود القدرة، ولا يكون وجودها موجباً للقدرة.

قالوا: لو كانت صالحة للضدين لما كان أحدها بالوقوع أو لأمر الآخر إلا لمعنى، كما أن الجوهر لا يختص أحد الجهتين دون الأخرى /260/ إلا لمعنى.
قلنا: يكفي في تخصيص أحد الضدين القادر واختياره؛ لأنه يؤثر على جهته التصحيح، ولو لم يقع أحد مقدور به إلا لمعنى لزالت طريقة الاختيار ولصار مؤثراً على طريق الإيجاب.
يوضحه أن ذلك المعنى المقدر لا بد أن يكون فعلاً فيحتاج في وقوعه دون غيره إلى معنى آخر ويتسلسل بخلاف الكائنيَّة، فإن الجوهر يحب حصوله في جهة ما، فاحتاج إلى مؤثر على سبيل الإيجاب.
ثم نقلت عليهم السؤال في قدرة الباري، فإنها متعلقة بالضدين، وليس لهم أن يقولوا: هناك معنى مخصص وهو إرادته تعالى؛ لأنا نقول: ولما كانت إرادته القديمة بأن تتعلق بهذا المراد دون غيره إلا لمخصص آخر، ويتسلسل.
وقد أجاب الغزَّالي بأن الإرادة القديمة لذاتها تختَّص بمراد دون مراد، وفي وقت دون وقت، وهذا كما هو مجرد الدعوى، فإنه يمكن أن يقال فيه: هلا كانت القدرة كذلك لمشاركتها للإرادة في القدم؛ لأنه إذا جاز في الإرادة أن تتعلق بمراد دون مراد، جاز في القدرة القديمة أن تتعلق بمقدور دون مقدور.
فإن قال: ذلك يقتضي انحصار مقدورات الباري تعالى حتى لا يصح أن يزيد عليها.
له قيل: وهو يقتضي أن ينحصر مراد به حتى لا يصح أن يريد أزيد منها، وليس بعد أحد الأمرين إلا كبعد الآخر.
وأيضاً فكأن يكون تعلق الإرادة بالمرادات واجب لا يجوز خلافه، وكذلك القدرة، وفي ذلك كون فعله تعالى واقعاً على جهة الإيجاب.
وأيضاً فكان يلزم ما قدمنا من أنه كان لا يصح وصف الله تعالى بأنه إن شاء فعل مما لم تتعلق به الإرادة الازليَّة.
قالوا: القدرة إنما تتعلق بما يصح دخوله في الوجود، وليس ذلك حال الضدين.

قلنا: إنما لم يجتمعا في الوجود لمانع، وهو التضاد لا لأجل تعلق القدرة بهما، وصار الحال في التضاد كالحال في سائر الموانع، فكما يصح تعلق القدرة بما لا يدخل في الوجود لأجل المانع، كذلك تعلق بما لا يدخل فيه للتضاد على أنه يصح وجودهما على البدل، فقد تعلقت بما يصح دخوله في الوجود.
ثم تقلت عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى.
قالوا: تضاد الضدين يقتضي تصادماً يتعلق بهما فكيف تتعلق قدرة واحدة بضدين؟
قلنا: هذه جهالة؛ لأن مع تغاير المتعلق يزول التضاد فضلاً عن أن يقتضي التضاد، والشرط عند أهل الحق في التضاد الحقيقي اتخاذ المتعلق في ما يتعلق كالعلم والجهل، فإنهما يتضادَّان على الشيء الواحد.
ثم نقلت عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى وفي العجز؛ لأنه عندهم يتعلق بالضدين.
قالوا: لو تعلقت بالضدين لانقطعت الرَّغبة عن الله تعالى، وفي أنن نفوسنا على الطاعة؛ لأن قدرة المعصيَة قدرة على الطاعة.
قلنا: الرغبة مصروفة إلى تنقية القدرة /261/ وإزالة الموانع وتيسير الطاعة وتكثير الألطاف ونحو ذلك.
ثم يقال لهم: قولكم الذي يقتضي الإياس من رحمة الله؛ لأن الكافر خلق فيه الكفر وإرادته وقدرته وقضي عليه وعلم منه ومنع من الإيمان وصار وقوعه منه مستحيلاً عبدك فأي رغبة، والحال هذه.
قالوا: لو قدر المؤمن على الكفر لكان الله قد أعانه على الكفر.
قلنا: ليس بمجرد التمكين والإقدار يكون قد أعانه، بل لا بد من الإرادة.
ولهذا لا يقال في من أعطى غيره سكيناً ليذبح بها شاه فذبح بها نفسه انه قد أعانه لما لم يرد منه ذلك.
ولهذا ألا يقال: أعان الله الصبي على اللعب.
ثم يقال لهم: إذا كان الله قد أعان الكافر على الكفر بأن أقدره عليه وأراده منه ومنعه من الإيمان، فلم منعتم من أن يعين المؤمن عليه، فإن القبح في الموضعين واحد.

قالوا: لو تقدمت القدرة حتى يصح وجودها، ولا فعل وقتاً واحداً لجاز أوقاتاً كثيرة حتى يكون الإنسان الزمان الطويل خالياً عن الفعل والترك، وفي ذلك خلوة عن الطاعة والمعصية.
لأن أن لا يفعل عندنا جهة كافية في استحقاق المدح والثواب والذم والعقاب.
وأما أبو علي فهو وإن منع خلوها من الأخذ والترك فهو يخبره عند حصول مانع، فقد خالف حاله حال المجبرة، وعند سلامة الحال لا بد من كونه فاعلاً عند أبي علي.
وبعد فإن أراد واستمر خلوه من الأفعال عند فقد الدواعي، فذلك جائز، لكن قد حصلت الدواعي والصوارف على أبلغ الوجوه، فلا يخلو من الطاعة والمعصية وإن أرادوا مع الدواعي فلا يلزم؛ لأنا قد قدمنا أن عند توف الدواعي يقع الفعل لا محالة إذا لم يكن منع.
على أن عند توفر الدواعي لا يختص قدرتنا بعين دون غير، وإنما يراعي فعل له صفة، وعندهم أن كل قدرة متعلقة بمقدور معين لا يتعداه.
ثم أنا نقلب عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى.
قالوا: لو استحال الفعل بها في الأول لكان المحيل إما أن يرجع إلى ذاتها أو إلى ذات المقدور، وأي ذلك كان لزم استمراره.
قلنا: استحالة الفعل بها في الأول لا يعلل كما تقولونه أنتم في قدرة الباري وفي استحالة تعلقها بعين المقدور المعين.
ولنا أن نعلله بأن تأثيرها هو على جهة الصحة، والصحة إنما تكون في المنتظر لا في الحاصل.
يوضحه أن حقيقة تأثيرها هو بأن يوجدها على جهة الصحة في ثاني وجودها، وليس إذا استحال في الأول استحال في الثاني كالنظر، فإنه يستحيل حصول العلم به في الأول، ولا يستحيل في الثاني، وكذلك الحركة في أول أحوال الحدوث.
قالوا: القول يتقدمها يقتضي صحة وجود المقدور وإن كانت قد عدمت، ولو جاز ذلك لجاز البطش بيد معدومة.

قلنا: يجوز /262/ حصول الفعل عندنا بالقدرة المعدومة كالإصابة في حال عجز الرامي، بل في حال موته، وذلك أنه إنما يحتاج إلى القدرة لنفع الفعل بها، فإذا وقع أو صار في حكم الواقع استغنى عنها سواء بقيت أو عدمت.
وقولهم: كان يصح البطش بيد معدومة كلام فارغ؛ لأن اليد آلة والآلات تنقسم، فمنها ما يكفي تقدمه كالقوس للإصابة، وما يجب مقاربته كاليد والرجل.
قالوا: صحة الفعل من القادر يحتاج إلى أمر، فيجب أن يحتاج في وقوعه إلى أمر غيره.
قلنا: الذي يحتاج إليه عند الصحة هي القدرة، والصحة متقدمة، فكذلك القدرة، وبالاتفاق أنه لا يحتاج إلى قدرة أخرى.
ثم نقلت عليهم في قدرة الباري تعالى، قالوا: المنع عن الفعل يجب أن يقارنه، فكذلك القدرة عليه.
قلنا: أما أبو علي فأوجب تقدم المنع كالقدرة، وأما سائر الشيوخ فيقولون: أن المنع إنما يكون بالضد أو ما يجري مجراه، ولا يثبت التضاد إلا حال الوقوع.
قالوا: لو لم يجب مقارنتها لكان يصح وجود العجز مع الفعل كما يصح وجوده مع الآلة.
قلنا: عن أردتم العجز عن ذلك الفعل فصحيح؛ لأن حكم العجز لو ثبت معنى حكم القدرة في وجوب تقدمه، وإن أردتم العجز عن غيره فصحيح.
قالوا: وإذا لم يصح العجز عنه حال وقوعه وجبت القدرة عليه.
قلنا: إنا نجوز خلو أحدنا عن القدرة على الشيء والعجز عنه ويوجبه في هذا المكان.
قالوا: العجز عجز عما لم يفعله، فلتكن القدرة قدرة على ما يفعله.
قلنا: ومن سلم لك هذا وليس الباري تعالى قد لا يفعل الشيء ولا يوصف بأنه عاجز عنه، ولو سلمناه فهي قدرة على ما يفعله في الثاني.
قالوا: الدليل يجب مقارنته للمدلول، فكذلك القدرة.
قلنا: وما الجامع ولسنا أيضاً نسلمه، فإن المعجز يدل على صدق النبي مع تأخره عن صدقه، وكذلك دلالة الفعل على الفاعل، وكذلك اختار الله عن قيام الساعة، دليل على قيامها مع تأخر المدلول.

قالوا: التفرقة بين الحركة الضرورية والاختياريَّة لا بد أن تكون بأمر حاصل في الحال، وهو مقارنة القدرة لأحدهما.
قلنا: بل يكون بأمر متقدم وهو أن إحداهما وقعت ممن كان قادراً لعيها دون الأخرى، ويصير كمفارقة من يستحق الذم على فعل القبيح لمن لا يستحقه في أن التفرقة حاصلة بأمر متقدم.
قالوا: القادر حال وجود القدرة، إما أن يكون فاعلاً أو ممنوعاً أو ممتنعاً، وإذا لم يكن ممنوعاً ثبت أنه فاعل أو ممتنع، والامتناع فعل، فلم يكن بد من مفارقة القدرة للفعل.
قلنا: هذا محض الدعوى وصريح الخبط، ومن أين أن القادر لا يخلو حال وجودها من هذه الأقسام، وهل توزعتم إلا في ذلك، ولو لا فساد ما قلتم للزم قدم العالم أو صحة المنع على الباري تعالى.
وبعد فهذا كلام فارغ على أصلكم؛ لأن عندكم إذا وجدت قدرة الكفر استحال على الكافر المنع والامتناع.
وبعد /263/ فهذا تقييم للشيء على نفسه وعلى ضده؛ لأن الامتناع عندكم فعل، والمنع عندكم عجز، فكأنكم قلتم: القادر إما فاعل أو عاجز أو فاعل.
قالوا: إذا صح وجود الفعل مع وجود العجز، فكذلك يصح مع وجود القدرة.
قلنا: إن أردتم أنه يصح وجود الفعل مع العجز عنه فغير صحيح، فكذلك لا يصح وجوده مع القدرة عليه، وإن أردتم مع العجز عن غيره، فكذلك يصح مع وجود القدرة على غيره.
قالوا: الفعل يدل على كونه قادراً، وحق الدليل المقارنة.
قلنا: إنما يدل على أنه كان قادراً ثم ينظر في هل استمر به هذا الوصف أم لا، ولسنا أيضاً نسلم أن الدليل تجب مقارنته كما سلف.
قالوا: الولاية لله والعداوة والمحبة، ونحو ذلك ثبت حال الفعل، فكذلك القدرة.
قلنا: وما الجامع؟ ثم لسنا نسلم ما ذكرتم وإنما يحصل حال الفعل استحقاق الولاية، ألا ترى أن الولاية والمحبة هي إرادة تعظيم المطيع، وذلك إنما يحصل ف الوقت الثاني من فعل الطاعة.
قالوا: الآلة يجب مقارنتها كاليد والعين واللسان، فكذلك القدرة لاستوائها في احتياج الفعل إليها.

قلنا: إنما يكون هذا جامعاً لو ثبت أن العلة في مقارنة الآلة هو مجرد احتياج الفعل إليها.
وبعد فليس كل آلة يجب مقارنتها، بل تنقسم، فما كان منها لمجرد الوصلة إلى الفعل وليس بمحل له ولا جار مجرى المحل فإنه يجب تقدمه فقط، وإن حازت مقارنته كالقوس للإصابة وهو هذا الذي يمكن تسببه القدرة من الآلات؛ لأنه إنما يحتاج غليها ليخرج العقل با من العدم، فإذا وجد زالت الحاجة.
ومنها ما يكون وصلة ومحلاً أو يجري مجرى المحل فيجب تقدمه من حيث هو وصلة، وتجب مقارنته من حيث هو محل كاللسان للكلام واليد للبطش والعين للإدراك عند من يجعله معنى والسكين للقطع، وبهذا شبَّه البغداديون القدرة حيث أوجبوا مقارنتها مع التقدم.
ومنها ما يجب مقارنته فقط لكونه محلاً أو جارياً مجراه كالصلابة في الأرض للمشي.
قالوا: قال تعالى: {إنك لن تسطيع مع صبراً} فنفى استطاعة الصبر لما لم يوجد.
قلنا: الطاهر يقتضي أنه لا يستطيع في المستقبل، وهذا يستوي فيه تقدم القدرة ومقارنتها.
وبعد فليس المراد نفي الاستطاعة حقيقة، وإنما المراد أنك تستثقل الصبر وتشق عليك كما يقول لا أستطيع النظر إلى عدوي، أي ينقل على ذلك، وإن كان ينظر إليه في الحال.
يوضحه أنه لو أراد نفي القدرة على الصبر في الحقيقة لم يكن لتعليق ذلك بالجهل فائدة؛ حيث قال: {وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا}.
وبعد فقوله: {ستجدني إنشاء الله صابراً} يدل على أنه لم يرد نفي القدرة، وإلا كان تكذيباً للعالم.
وبعد فقوله: {لا تؤآخذني بما نسيت} وقوله: {قد بلغت من لدني عذراً} /264/ يدل على أن السبب في عدم الصبر هو النسيان لا فقد القدرة، وغلا كان يقول لا تؤاخذني عالم تقدر عليه؛ لأن المقام مقام اعتذار.

قالوا: قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} فلا سبيل إلى تصحيح ما نسبوه إليك من السحر والشعر والجنون، وليس في ظاهرها للخصم متمسَّك، لو سلمنا أن الظاهر يقتضي ما قالوه فالمراد التشبيه، أي فضلوا فكأنهم لا يستطيعون سبيلاً، كما يقوله السيد متهدداً لعبده: لم تستطع أن تناولني الكوز.
بالجملة: فالآية وردت مورد التوبيخ، ولو كان كما ذكره الخصم لما كان للتوبيخ معنى.
القول في استحالة البدل
عن الموجود الحاصل لما ألزمهم أصحابنا على مذهبهم في الاستطاعة أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق، عظم عليهم ذلك وجعلوا يحتالون للانفصال عن هذا الإلزام، فمرة يقولون: كان يجوز الإيمان بدلاً من الكفر ،مرَّة يقولون: المأمور بالإيمان منهي عن ضده الذي هو الكفر وهو قادر على الكفر، فالعقوبة على فعل الكفر لا على ترك الإيمان، ونحو هذا من التخليط والخبط، إلى أن جاء الأشعري ومتبعوه فكشفوا القناع وصرَّحوا بتكليف مالا يطاق، وسيأتي الكلام عليهم.
وإنما نتكلم الآن على الذين أجازوا البدل عن الموجود، فنقول: أتريدون أنه يصح الإيمان من الكافر فرجال كفرة، فهذا يؤدي عندكم إلى اجتماع الضدين أو يصح بشرط أن لا يكون كان منه الكفر وكان بدله الإيمان، فهذا باطل؛ لأنه لو جاز البدل عن الموجود الحاصل لجاز مثله في صفات الأجناس وصفات الباري تعالى، فيجوز أن يكون الجوهر سواءً بشرط أن لا يكون كان جوهراً ويجوز أن يكون الباري جاهلاً بشرط أن لا يكون كان عالماً، وكان بدله جاهلاً لاستواء الجميع في الثبوت، وقد التزم بعضهم في ذلك صفات الباري تعالى، ومن لم يلتزمه لم يبرز فرقاً.
فإن قال: الفرق أن صفات الأجناس وصفات الباري واجبة بخلاف وجود الكفر.
قيل له: هذا فرق من وراء الجمع المذكور.
وبعد، فنحن نلزمه جواز البد لفي كون هذه الصفات واجبة، فنقول: يجوز أن تكون جائزة بشرط أن لا يكون كانت واجبة، فيتوجَّه الإلزام.

وبعد فتأثير القدرة عنده على جهة الإيجاب فكيف يدعي أن وجود الكفر جائز؟
دليل، لو جاز البدل عن الموجود لجاز عن الماضي بجامع أن لكل واحد منهما إحالة وجود، فيجوز أن يؤمن لأن بدلاً عن الكفر الواقع بالأمس بشرط أن لا يكون كان وقع ويكون بدلاً منه الإيمان الآن.
دليل، البدل كالشرط فلا يدخل إلا في المستقبل، وذلك لأنه لا يدخل إلا في أمرين يستحيل اجتماعهما، ولهذا فصرناه على المتضادات، فيكون معنى قولنا يصح وجود أحد الضدين بدلاً من الآخر أنه يصح أن يوجد كل واحد منهما بشرطان لا يوجد الآخر، فقد عاد البدل إلى الشرط وهو لا يدخل إلا /265/ في المستقبل، فكذلك البدل.
دليل، لا بد أن يتعلق البدل والمبدل منه بالقادر، فيقال: يصح أن يفعل هذا بدلاً من ذلك، وهذا يقتضي تقدم كونه قادراً عليهما، فأمَّا إذا وقع أحدهما فقد خرج عن تعلقه بالقادر، وصاد وجوده مختلاً لوجود ضدَّه من حيث أن الشرط في وجود أحدهما عدم الآخر كما تقدم.
دليل، القول بالبدل يقتضي أن يكون الكفر موجوداً معدوماً، فمن حيث وجدت قدرته يجب وجوده، ومن حيث يجوز وجود الإيمان، يجب عدمه لاستحالة اجتماع الضدين.
دليل تجويز البدل لا ينجي من القول بتكليف ما لا يطاق؛ لأنه إنما يجوز الإيمان عندهم بشرط أن لا يكون فيه قدرة الكفر، فتكليفه به مع وجود قدرة الكفر تكليف لما لا يطاق لعقد شرط الجواز على أصلهم.
دليل، لو صح تكليف الكافر بالإيمان بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر يصح تكليف العاجز بشرط أن لا يكون كان فيه العجز لاستوائهما في عدم القدرة على الإيمان.
وقد فرقوا بوجوه منها إن قالوا: الكافر يصح منه الإيمان ويتوهم بخلاف العاجز.
قلنا: إن التوهم فهو ترجيح أضعف أحد المجوزين من غير ترجيح.

وعلى الجملة نقول: هل تريدون يصح منه الإيمان أو يتوهم حال كفره، فهذا تجويز لاجتماع الضدين، فقولوا مثله في العاجز أو يقولون يصح منه أو يتوهم عند بقدير زوال الكفر، فكذلك يصح من العاجز أو يتوهم عند تقدير زوال العجز.
على أنه ليس من الإيمان يفعل بالصحة أو التوهم، وإنما يفعل بالقدرة فلا فرح فيما ذكروه.
قالوا: العاجز فيه ضد الإيمان بخلاف الكافر.
قلنا: بل الكافر فيه أضداد كثيرة، وهي الكفر وقدرته وإرادته والقدرة الموجبة لإرادته.
على أنه لا بد أن يكون الكافر عاجزاً عن الإيمان لا سيما على ما يقوله في أن العجز ليس بمعنى، وإنما المرجع به إلى زوال القدرة.
وأيضاً فإذا استوى العاجز والكافر في عدم القدرة على الإيمان فقد استويا في تكليف مالا يطاق فلا تأثير للفرق الذي ذكروه.
قالوا: الكافر مطلق محلاً غير ممنوع.
وأيضاً فإذا استوى العاجز والكافر في عدم القدرة على الإيمان فقد استويا في تكليف مالا يطاق فلا تأثير للفرق الذي ذكروه.
قالوا: الكافر مطلق محلاً غير ممنوع.
قلنا: أتريدون مع حصول الكفر وقدرته وإرادته، فلا معنى حينئذٍ للتحلية، وإلا كان مخلاً بينه وبين أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين، وإن كان لا يصح منه أو يريدون مع تقدير زوالها، فكذلك العاجز عند تقدير زوال العجز.
وبعد فالإيمان إنما يفعل بالقدرة لا بالتحلية والإطلاق، وإلا كانت الجمادات مطلقة مخلاً.
وبعد، فالإطلاق والتخلية وعدم المنع تبع للقدرة، فلا يقال: هذا ممنوع من كذا إلا إذا كان قادراً عليه، لولا هذا لكان الباري تعالى ممنوعاً من الجمع /266/ بين الضدين.
قالوا: الكافر لو شاء لآمن بخلاف العاجز.
قلنا: لا تأثير للمشيئة مع فقد القدرة، لا سيما في أصلكم في أن القدرة موجبة سواء وجدت إرادة أم لا.
على أن هذا ليس أولى من عكسه، فيقال: لو آمن لشاء لتلازم الإيمان والمشيَّة ولأنهما من فعل الله لفعله لسببهما وهو القدرة الموجبة.

40 / 75
ع
En
A+
A-