وإن قالوا: بالثالث، قلنا: أتريدون بأقوى الإمارات قول الآباء والأسلاف فيلزم إصابة أهل كل ملة أو قيام الأدلة، ففيه رجوع إلى وجوب النظر، وهو المطلوب؛ لأنها حينئذ توصل إلى المعرفة.
فصل
إذا بطلت هذه الأقوال فالدليل على وجوب معرفة الله تعالى أنها لطف للمكلفين في القيام بما كلفوه، ويحصل ما هو لطف بهذه الصفة واجب، فهذان أصلان.
أما الأول: وهو إن أنها لطف فلأن حقيقة اللطف هو ما يمتثل المكلف عنده ما كلفه لأجل أنه كلفه أو يكون أقرب إلى ذلك، ولا شك أن المعرفة بهذه الصفة فإن من عرف أن له صانعاً يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه كان أقرب إلى طاعته،
واعلم أن اللطف في الحقيقة هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب أو العقاب؛ لأنه الذي يدعوا ويصرف، لكن لما لم يتم إلاَّ بمعرفة المثيب والمعاقب سمى الجميع لطفاً، والظن، وإن ثبت له حظ الدعاء والصرف فهو لا يقوم مقام المعرفة ولا يتناوله التكليف لقبحه ولأنه إن كان اعتقاداً كما يقوله أبو هاشم فوجه قبحه جواز كونه جهلاً، وإن كان جنساً مستقلاً فهو لا يخلوا من اعتقاد تجوّز كونه جهلاً، وذلك الاعتقاد هو التجويز، فيكون الظان لثبوت الصانع مجوّزاً لنفيه والظانّ لعدله مجوزاً تجويزه.

وأما الثاني، وهو أن تحصيل ما هو لطف بهذه الصفة التي هي كونه لطفاً في جميع ما كلفناه واجب فلأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس فإنه إذا فعل الطاعات دفع عن نفسه ضرر العقاب ولا يتم فعلها طاعة إلا بعد معرفة المطاع ووجوب دفع الضرر عن النفس معلوم ضرورة مظنوناً كان أو معلوماً، إلا أن وجه الوجوب في المعلوم هو كونه دفعاً للضرر، وفي المظنون هو الظن لدفع الضرر، وقد ذهب أبو علي مرة إلى أن وجه وجوب المعرفة وجوب شكر النعمة، وكون أحدنا يتمكن بها من ذلك، وهو باطل؛ لأن شكر نعمة الله تعالى لا تجب إلا بعد معرفته، ومعرفة أنه وجه قصد الإحسان، وإن وجبا للشكر أمكن تأديته مشروطاً، وإن لم يحصل معرفته وذهب مرة إلى أن وجه وجوبها قبح تركها، وهو الجهل والظن، ونحوهما، وأبطله صاحب شرح الأصول بأن ذلك إنما يستقيم لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة، ومعناه أن المعرفة حينئذ تكون قد منعت من وقوع /22/ القبيح.
قال: وأما مع إمكان الإنفكاك بأن لا يفعلها ولا ما يضادها فإنما ذكره لا يستقيم، ولأبي علي أن يقول أن لا يفعل ترك، والترك عندي فعل فهو قبيح حقيقي، وهو عندكم كالقبيح من حيث كان جهة كافية في استحقاق الذم، وإذا كان كذلك فقد صار أحدنا لا ينفك عن المعرفة إلا إلى ما يستحق به الذم، ويمكن الجواب بأنه وإن كان كذلك إلا أن عدم فعله للمعرفة إنما يقبح إذا ثبت وجوب المعرفة، فلا يمكن أن يجعل وجهاً في وجوبها؛ لأنه دور.

فصل
ومعرفة الله تعالى مما يجب على جميع المكلفين لاشتراكهم في كونها لطفاً لهم، والذي يشتبه أن يقال يجوز أن يعلم الله من حال بعضهم أنه يفعل المطلوب فيه، وإن لم يعرف.
والجواب: إن ذلك لا يخرجها عن كونها لطفاً؛ لأنه معها بكون أقرب لا محالة إلى تأدية ما كلفه، وبعد فأحدنا مكلف بما عنده لا بما في معلوم الله تعالى.
وبعد، ففي علمنا بكفر الجاهل بالله ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأمة دليل على أنه ليس في المكلفين من هذه صفته.
فصل
ويلحق بها ما يترتب عليها مما يعد لطفاً من المعارف كمعرفة الحفظة وشهادتهم علينا وإنطاق الجوارح ونصب الموازين وعذاب القبر والحساب، ونشر الصحف، ونحو ذلك، ونحو معرفة الطبع والختم المذكورين في القرآن، وسماع القرآن وتتبع السنن وسماع الوعظ وأشباه ذلك.

فصل
وأقل ما يجوز أن يكلف الله المرء علماً عند أبي علي معرفة الله بتوحيده.
قال: لأن ما عدا ذلك علم بغيره من الأفعال.
وقال أبو هاشم: لا بد أيضاً من معرفة العدل والوعد والوعيد واستحقاق الثواب والعقاب؛ لأنه الذي يدعو ويصرف، ثم يجوز احترامه من بعد ذلك.
وقال القاضي: اللطف لا يراد لنفسه، فلا بد أن يكلف مع اللطف شياً من الملطوف فيه، ويتمكن منه، ثم نحو من احترامه.
فصل
والذي قد استقر عليه التكليف مع التبعية معرفة التوحيد والعدل والنبوءات والشرائع وما يتصل بكل واحد من هذه الأصول من مقدمات ولواحق.

فصل
وأول علم بالله تعالى عند القاضي وأبو الهذيل أن تعرف أن لهذه الحوادث محدثاً؛ لأنه قد يكون علمه على الجملة.
وقال أبو هاشم: أن تعرف محدثها بصفة من صفاته بناء منه على أن العلم الجملي لا يتعلق.
وقال أبو علي: أن تعرف أن لها محدثاً مخالفاً لنا، وهو كمذهب أبي هاشم؛ لأنه إنما يعرف أنه مخالف لنا إذا عرفه لصفة من صفاته.
فصل
ومعرفة الله تعالى مقدورة لنا لقدرتنا على سببها، وهو النظر من حيث يفق على قصورنا /23/ ودواعينا.
وقال الرازي في محصوله: ليست مقدورة لنا لا هي ولا النظر، وجعل الأمر بها وبالنظر في قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، و{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} أحد الأدلة على تكليف ما لا يطاق، وهذا قول ظاهر التهافت، ويكفي في شناعته أنه إقرار بالجهل بالله تعالى؛ لأن المعارف عنده نظرية لا ضرورية، وإقرار بإبطال النظر مع أنه إنما يبطل النظر بالنظر، وإقرار بأن جميع ما قاله في مصنفاته كان لا عن علم، وكل هذا يتوجه معه طي المناظرة.
وشبهته ما تقدم من أنا قد كلفنا بالمعرفة، فلا يخلو إما أن يعلم صفة ما كلفناه فيكون صفة ما كلفناه، فنكون قد كلفنا ما لم يعلم.
والجواب: أنا نعلم ماهية المعرفة بالتصور سواء كانت معدومة أو موجودة، وكلفنا بتحصيل تلك الماهية المتصورة، على أن معرفة السبب كافية في حسن التكليف بالمسبب كما سلف ذكره.

فصل
ومعرفة الله تعالى مما يجب على العاقل في كل حال إلاَّ حال السهو للوجه الذي لأجله وجبت في أول أحوال التكليف، وحراستها يكون بتحديدها حالاً فحالاً عند من يمنع بقاء العلوم بالاحتراز من العوارض والأضداد عند من يقول بنفائها.
فإن قال أحدنا يعلم أنه غير عالم بالله وجائزأن يعلم أحدنا الشيء ولا يعلم أنه عالم به إلا بتأمل مستأنف.
القول في النظر
هو مشترك بين معاني.
أحدها: نظر العين، نحو: نظرت إلى الهلال فلم أره، أي قلبت حدقتي السليمة في جهته.
وثانيها: نظر الرحمة، نحو: ولا ينظر إليهم يوم القيامة.
وثالثها: نظر المقابلة، نحو: داري تنظر إلى دار فلان.
ورابعها: نظر الانتظار، نحو: {فناظرة بم يرجع المرسلون}.
وخامسها: نظر الفكر، نحو: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض..} الآية، وهو المقصود هنا، ويسمى نظراً وفكراً وتأملاً وتدبراً ورؤية، وهو المعنى الذي يولد العلم إذا تكاملت شرائطه.
فصل
وهو جنس مستقل لأن له أحكاماً لا توجد في غيره من أفعال القلوب، ولا يصح رجوعه إليها، منها: أنه لا يصح إلا مع الشك والتجويز.
ومنها: أنه إذا حصل على شرائطه أزال ذلك الشك والتجويز بما يتولد عنه، ومنها: أنه يؤثر في وقوع الاعتقاد علماً. ومنها: أنه يلحق بفعله مشقة.

وذهب بعضهم: إلى أن المرجع به إلى حدث النفس والكلام الخفي، وهو باطل؛ لأن النظر يوجب حالاً دون الكلام، ويوجد مع فقد الكلام ويؤثر في وقوع الاعتقاد دون الكلام.
وذهب أبو الحسين وأبو الهذيل إلى أن النظر /24/ هو التأمل الذي يتضمن ترتب اعتقادات أو ظنون ليتوصل بها إلى اعتقادات أو ظنون، وهذا يوافق ما قاله الجمهور؛ لأن التأمل عندهم من أسماء النظر، وإنما نفى الخلاف في هل يولد غير العلم أم لا وسيتضح.
وما ذكره محمود بن الملاحمي من أن المرجع بالتأمل إلى تفريغ القلب عن الاشتغال بتذكر غير المقدمات المعصية إلى العلم المكتسب، وأن هذا هو الذي يحصل به المشقة، فغير صحيح؛ لأن أفعال القلوب كلها غير باقية، فلا يحتاج أحدنا في تفريغ القلب إلى مشقة، بل يكفيه أن لا يفعل سوى استحضار هذه المقدمات، وليس ما نتركه مما يشتهى فيلحق بتركه مشقة.
شبهة:
إنه لو كان التأمل هو النظر والنظر عندكم لا بد أن يوصل إلى العلم لكان التأمل كذلك، ومعلوم أنه قد يحصل التأمل من دون ترتيب المقدمات، فلا يوصل إلى العلم.
ويمكن الجواب أنا ندع في كل نظر، وكل تأمل أنه يوصل إلى العلم، بل قلنا ذلك في النظر الصحيح والتأمل الصحيح، وإنما يكون كذلك إذا تكاملت شرائط التوليد لا سيما وقد ذكر في معتمده أن من يقول أن النظر جنس برأسه لا بد من أن يشرط ترتيب العلوم ليتوصل إلى العلم.

فصل
وشروط وجوه النظر أن يكون القادر عليه شاكاً.
وقال القاضي: وأن يكون مجوزاً وإن نجح أحد المجوزين.
وقال أبو علي: يصح مع التقليد والتجنب، ولك هذه متقارنة؛ لأن المقلد والمنجب غير قاطعين.
وقال أبو عبد الله: يصح مع العلم، وهو باطل، لأن من قطع على حدوث العالم مثلاً كيف ينظر في هل هو محدث أم لا، ولأن أحدنا يتعذر عليه النظر في المشاهد ولا وجه لذلك إلا القطع عليه.
شبهته: إن أحدنا ينظر في دليل فيعلم المدلول ثم ينظر في دليل آخر فيعلم المدلول أيضاً، فكان يلزم تعذر النظر في الدليل الآخر.
والجواب: إنه ينظر في الدليل الآخر ليعلم أنه دليل لا ليعلم المدلول، فمتى علمه دليلاً آخر دعاه ذلك إلى أن يعلم(1) علماً آخر بالمدلول.
فصل
والكلام في تماثل النظر واختلافه كالكلام في العلم، فأما التضاد في الأنظار فغير واقع خلافاً لأبي علي.
لنا: إن شرط التضاد اتحاد المتعلق، وأن يكون التعلق متعاكساً، ويعاكسه مفقود هنا، وإيجاد المتعلق يقتضي التماثل، فأما النظر في شيئين فلا يسلم لأبي علي امتناعه، وإن سلمناه فهو لأمرٍ يرجع إلى الداعي لا للتضاد.
__________
(1) . في نسخة: يغفل.

فصل
والنظر يولد العلم خلافاً لأهل الحيرة والقائلين بأن الأدلة متكافية، وللقائلين بأنه لا طريق إلى علوم الدين إلا السمع، وللقائلين بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف /25/ وأن النظر بدعة.
لنا: إن العلم يوجد بحسب النظر في الكمية والمطابقة، وأن العقلاء يفزعون إليه عند التباس الأمور، فزع من يعلم أنه موصل إلى العلم.
فإن قال: هلا كان طريقاً إلى العلم لا مولداً له.
قيل له: طريق العلم يتعلق بما يتعلق به العلم، كالإدراك، وهاهنا متعلق النظر الدليل، ومتعلق العلم المدلول.
فإن قال: هلا كان داعياً إليه؟
قيل له: الداعي يختص شيئاً بعينه، والنظر ليس بأن يدعو إلى اعتقاد المدلول على صفة، أولى من غيرها، ولا يرد بذكر النظر؛ لأنه يدعونا إلى أن يصير مثل الصفة التي كنا عليها من قبل.
إن قال: هلا كان شرطاً؟ قلنا: من حق الشرط المقارنة.
فإن قال: هو شرط اعيادي بفعل الله العلم عنده كالحفظ عند الدرس كما يقوله بعض أهل المعارف.

قيل له: كان يجو اختلاف العادة فيه كالحفظ.
فإن قالوا: الأسباب يصح مقارنتها للمسببات، ويؤثر في وقوعها فقط لا في وقوعها على وجه، وليس هذا حال النظر .
قلنا: أما الأول فلأن شرط النظر التجويز، وهو لا يقارن العلم.
وأما الثاني، فهو شيء اختص به النظر دون سائر الأسباب لقيام الدليل.
فإن قال: قد يحصل العلم لأحد الناظرين قبل الآخر، وكذلك قد يحصل لأحدهما دون الآخر، ولو كان سبباً لحصل لهما على حد واحد.
قلنا: أما سرعة حصوله لأحدهما فمن حيث يتمكن من استحضار المقدمات قبل الآخر، فإن القلب خلق آلةً لذلك، والآلات تختلف في سرعة الفعل بها، وأما حصوله لأحدهما دون الآخر فمن حيث نظر على الوجه الصحيح.
شبهة: القائلين بالخيرة أن الناس اختلفت اعتقاداتهم من أن كلهم قد نظروا بل الرجل الواحد قد يعتقد صحة مذهب بالنظر زماناً طويلاً، ثم يعتقد بطلانه بالنظر، وأن الحق غيره، ولو كان النظر يوصل إلى العلم لاتفقت الأناسي والأحوال فيه؛ لاتفاقها في سببه.
والجواب: أنا نعلم بالضرورة بعد الاختيار أنه موصل إلى العلم إذا وقع على الوجه الصحيح، فلا تقدح الشبهة في ذلك.
وبعد فلم يدع في كل نظر أنه يوصل إلى العلم، وإنما يوصل إليه النظر الصحيح، فمن نظر على الوجه الصحيح حصل له العلم، فإن اعتقد خلافه من بعد فلشبهة تدعوه إلى فعل الجهل.
وبعد، فاتفقنا على أن الإدراك طريق إلى العلم مع أنه قد يختلف الحال فيه لضروب من اللبس بعرض، وكذلك الحساب.
ثم يقال لهم أبالضرورة علمتم أن النظر يؤدي إلى الحيرة، وهذه مكابرة أم بالنظر علمتم ذلك، فقد بطل /26/ مذهبكم.
شبهة: أهل التكافي إن كل أهل مذهب قد استدلوا بمثل دليل مخالفيهم، ورجح كل منهم مقالته بمثل ما رجح به خصمه، فلا مزية لدليل على ذلك.
والجواب: ما تقدم على أهل الشك.

4 / 75
ع
En
A+
A-