على أن اختلافهما لا يمنع اتفاقهما في هذا الحكم، ألا ترى أنهما يتفقان في التعلق وفي /252/ كونهما قدرتين ونحو ذلك، فهلا اتفقا في إيجابهما للمقدور وفي أنهما لا يصلحان للضدين.
وبعد، فالذي دل على أن قدرة الباري تعالى غير موجبة من وقوع الفعل وانتفائه بحسب أحواله قائم في قدرتنا، فإن مقدورها يقف على أحوالا ثبوتاً وانتفاءً.
فصل
وأما الركن الثاني: فقد ذهب أهل العدل إلى أنها متعلقة بالضدين وأن البدل إنما هو في الوقوع لا في التعلق، وذهب جمهور المجبرة إلى أنها لا تتعلق إلا بمقدور واحد، ولا يتعلق بما يضاده ولا بما يخالفه ولا بما يماثله، وقال ابن الزوندي: يتعلق بالضدين، ويقارن مقدورها وصار إليه القليل من المجبرة هرباً من لزوم تكليف ما لا يطاق.
لنا: أنها لو لم تتعلق بالضدين لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق؛ لأنه ليس فيه إلا قدرة الكفر لا سيما إذا علم من حاله أنه لا يؤمن.
دليل، نحن نعلم بالضرورة في من يصح أن يحترك يمنة أنه يصح أن يحترك يسره بدلاً من الحركة يمنة في حالة واحدة.
فإن قيل: كيف يصح دعوى الضرورة في هذا والعلم بالقدرة والحركة، وكون أحدنا فاعلاً استدلالي.
قلنا: بل يعلم الكل على الجملة ضرورة الضرورة، والذي ادعينا الضرورة فيه هنا أن كل عاقل يعمل بكمال عقله أنه لا فصل بين نسبة الحركة يمنة والحركة يسره إلى القادر الواحد في الوقت الواحد، بل الصبي يعلم ذلك.
فإن قال: إن في القادر قدرتين، قدرة على الحركة يمنة، وأخرى على الحركة يسرة.
قيل له: لا يستقيم هذا على أصل الخصوم، فإن قدرتي الضدين تتضادان؛ ولأنه كان يجب حصول الحركتين جميعاً؛ لأن القدرة عندهم موجبة مقارنة.
دليل، لا شك أن القدرة على الحركة في المكان الأيمن في المسجد يصح أن يوجدها الله في أحدنا، وهو في المكان الأيسر، وإذا قدرنا وجودها وهو في المكان الأيسر لم يحل إما أن يتعلق بالحركة في المكانين، وهو المطلوب أو يخرج عن التعلق رأساً، وفي ذلك خروجها عما هي عليه في ذاتها؛ لأن تعلقها لذلك، وإما أن يتعلق بأحدهما وهو باطل؛ لأن انتقال محلها لو اقتضى اختلاف تعلقها لقدح ذلك في أن تعلقها لما هي عليه.
فإن قيل: لا يصح وجود القدرة في المكانين؛ لأنها توجب الحركة في أحدهما.
قيل: وهل توزعت إلا في ذلك، فكيف يعترض بنفس مذهبك على دليل قد نصبت لإفساده، لو أمكن هذا لما أمكن إبطال مذهب قط، ثم لم لا يصح والمصحح لوجودها /253/ هو كونه حياً، وهو في الموضعين على سواء.
فإن قال: كما لا يصح ذلك في نفس الكونين لا يصح في القدرة عليهما.
قيل له: ما الجامع أن أحد الكونين لو وجد في المكان الآخر لخرج عما هو عليه في ذاته، واتصف بصفة عنه؛ لأن الكون لما هو عليه في ذاته يوجب حصول الجوهر في جهة معينة، وليس كذلك القدرة، فإنها إنما توجب كونه قادراً وهو حاصل في الموضعين على سواء.
دليل، لو لم يكن أحدنا قادراً على الضدين لما كان لذلك وجه إلا تضاد القدرتين؛ إذ لو كانا مثلين أو مختلفين لصح اجتماعهما وتضادهما محال، وإلا وجب تضاد موجبهما وهو كون أحدنا قادراً على الضدين فيلزم إذا قدر الباري تعالى على الضدين أن يكون حاصلاً على صفتين ضدين؛ لأن تضاد الصفتين لا يختلف باختلاف الموصوفين بهما، ولا باختلاف كيفيَّة استحقاقهما.
ألا ترى أن كونه عالماً بالشيء تضاد كونه جاهلاً به في حالة واحدة، وكذلك كونه مريداً وكارهاً، ولا يختلف ذلك باختلاف الموصوفين، وجهة الاستحقاق؛ لأن تضاد الشيئين لما هما عليه، وبهذا يفارق الاختلاف، فإنه قد يكون لما هما عليه كالقدرة والعلم، وقد يكون لاختلاف المتعلق كالعلمين إذا تغاير متعلقهما.
وبعد، فلو تضاد قدرتا الضدين لتضادتا على الجملة كالعلم والإرادة ونحو ذلك، فكان لا يصح أن يوجد في إحدى بدنه قدرة على الحركة في جهة في حال يوجد في اليد الأخرى قدرة على الحركة في جهة أخرى.
دليل، إنما يعلم كون أحدنا قادراً بكونه فاعلاً، وإنما يعلم كونه فاعلاً بوقوع تصرفه بحسب قصده وداعيه وانتفائه بحسب كراهته وصوارفه، فلو لم تكن القدرة صالحة للفعل والترك لكان أحدنا محمولاً على الفعل مجبوراً عليه، فلا يقع بحسب أحواله، فلا يكون فاعلاً فيبطل كونه قادراً، فثبت أن الذي دلَّ على القدرة دل على أنها صالحة للضدين، وهذا سديد على أصل الخصوم في أن الترك ضد للفعل، فأمّا على أصلنا فلا يستمر إلا في الفعل الذي له ضد، ولا يمكن الإنفكاك عنه، ومن ضده كالحركة والسكون، وهو كاف في الغرض المقصود، فإنه لم يفرق واحد بين ماله ضد وبين ما لا ضد له.
وقد حاول بعض أعمارهم الإنفصال عن هذا بأن قال: أن المجبور على الفعل غير اقدر عليه، ونحن فرضنا الكلام في القادر على فعل معيّن، وصار كحركة المرتعش، فإنه غير قادر عليها بخلاف حركة الماشي، فيقال: هذا عين التخليط والجهالة، وهل ألزمناك إلا زوال الفرق فإن الماشي إذا كان إنما بقدرة على الحركة دون السكون كانت حركته بمثابة حركة المرتعش.
على أن من أصلهم أن كل فاعل في الشاهد مجبور فلا وجه لهذا التفصيل.
فصل
وأما الركن الثالث: وهو أن القدرة متقدمة على مقدورها، فقد خالف فيه أهل الجبر.
لنا /254/: ما قد ثبت أنها صالحة للضدين، فلو كانت مقارنة لوجب وقوعهما.
فإن قيل: إنما يتعلق بهما في وقتين فيتعلق بأحدهما في الوقت الأول، وبالثاني في الوقت الثاني.
قلنا: هذا يقتضي أن تعلقهما يتحدد فتصير متعلقة بالضد الثاني بعد أن لم تكن متعلقة به، وهذا بقدح في أن تعلقها لما هي عليه فليس إلا أن تعلقها بما تعلقت به ثابت في كل حال ما دام مقدوراً.
وبعد، فإنما وجب تعلقها بالضدين لكن يصح من القادر إبتار أحدهما على الآخر وإيقاعه بدلاً منه، وذلك يقتضي أن التعلق بهما ثابت في حالة واحدة.
فإن قال: هي بقدم أحد الضدين وتقارن أحدهما.
قيل له: قد بركت مذهبك في وجوب مقارنتها لمقدورها، والأمر الذي لأجله تقدمت على أحدهما حاصل في الآخر.
على أنه لا بد من أمر لأجله وقع أحدهما دون الآخر، وذلك الأمر هو الاختيار عند أهل هذه المقالة، أعني ابن الروندي وبعض المجبرة.
فنقول: أخبرونا عن هذا الاختيار، هل يجوز أن لا يحصل الفعل عنده فقد بطل قولكم بوجوب مقارنة القدرة لهذا الفعل المعيّن عند اختياره دون ضده أو هما مما يجب حصول الفعل عنده، فيعود الإلزام الذي هربتم له منه وهو تكليف ما لا يطاق؛ لأن الكفر قد صار واجب الوقوع عند الاختيار، فيكون التكليف بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق.
دليل، لا شك أن العقل إنما يحتاج إلى القدرة ليخرج بها من العدم إلى الوجود، وذلك يقتضي تقدمها عليه.
وتحقيقه أنه إما أن يحتاج إليها وهو معدوم، فهو الذي يقول أو يحتاج غليها، وقد وجد وهو محال؛ لأنه قد استغنى بوجوده عن القدرة، ولأنه لو احتاج إليها حالة الوجود لاحتاج إليها حالة البقاء والمحيل لاحتياجه غليها حالة البقاء هو الوجود فيه، يخرج عن تعلقه بالقدرة، وبهذا تفارق الإرادة، فإن تأثيرها هو في أن يقع الفعل بها على وجهٍ، فوجب أن يقارن أو أن يكون في حكم المقارن، وكذلك يفارق العلم، فإنه يحتاج إليه في الأحكام، فما يجب تقدمه يجب أيضاً مقارنته.
دليل، قدمنا أنه لا وجه من وجوه التعليق يقتضي استحالة انفكاك القدرة من المقدور إذ ليس يمكن الإشارة إلا إلى تعلق العلة بالمعلول والسبب المسبب، وقد أبطلناه، وأما تعلق التضمين فهو محال أيضاً؛ لأن ما يضمن بالشيء فهو مضمن بضده بدلاً منه، وذلك يقتضي تعلقها بالضدين، فيلزم وقوعهما.
دليل، وقع الاتفاق على أن كون الباري تعالى قادراً لا بد من تقدمه وإلا بطل حدوث العالم، وإذا كانت صفة الباري تعالى متعلقة على هذا الحد، فكذلك صفة أحدنا لما قدمنا من أن اختلاف كيفيَّة استحقاق الصفة لا تقتضي /255/ اختلاف تعلقها، وإذا وجب تقدم كون أحدنا قادراً فكذلك القدرة؛ لأنها علة في هذه الصفة فلا يتأخر عنها.
دليل، القول بوجوب مقارنتها يقدح في ثبوتها؛ لأنه متى وجب وقوعه عند وقوعها بطل طريقة الاختيار فيبطل كون أحدنا فاعلاً، فتبطل القدرة؛ لأن الطريق إليها هو كونه فاعلاً.
دليل، لو وجب مقارنتها لما احتاج العقل إلى آلة، ولا إلى العلم إذا كان محكماً، ولا إلى الإرادة، إذا كان جبراً ونحوه؛ لوجوب وقوعه عند وقوع القدرة، وذلك يقتضي زوال الفرق بين العالم والجاهل والبصير والضرير وبين الأمر والتهديد.
دليل، لو وجب مقارنتها لما كانت بأن يؤثر في الفعل أولى من أن يؤثر فيها لاستحالة انفكاك أحدهما عن الآخر، وليس له أن يقول: أن القدرة من فعل الله، والفعل من جهتنا؛ لأنا قد ذكرنا أن وجوب المقارنة تزيل كونه فعلاً لنا.
على أنه إذا جاز أن يكون من فعلنا مع أن حصوله واجب عند حصول القدرة جاز أيضاً في القدرة أن يكون من فعلنا، وإن وجب حصولها عند حصول المقدور.
وأيضاً، فعند الخصوم أن الأفعال كلها لله، ولهذا كان كلام أصحابنا معهم في هذه المسألة إنما هو على جهة الملاطفة والتوسع وجرياً على منهاج الحجاج، وغلا فيقيس إثباتها ينبي على كون أحدنا فاعلاً وقد منعوه.
دليل، لو وجب مقارنتها لجاز أن يقدر أحدنا على حمل مائة رطل، ولا يقدر على حمل ريشة؛ لأن الذي وقع هو حمل المائة الرطل، وخلاف هذا معلوم بالضرورة.
دليل، قد ثبت أن القدرة باقية، فيجب أن تكون متقدمة على بعض مقدوراتها، فكذلك البعض الآخر؛ لأنه لا قائل بالفرق، وقد خالفت المجبرة في بقائها
لنا: أن أحدنا لا يخرج عن كونه قادراً إلا إلى ضد أو ما يجري مجراه على وجهٍ لو لاه لاستمر قادراً، وذلك علامة البقاء في الألوان وغيرها.
وبعد، فيجب استمرار قدرة الباري تعالى ليصح منه أن يفعل في العاشر، فكذلك في الواحد منا؛ لأن الوجه الذي لأجله وجب استمراره هناك حاصل هنا؛ ولأن ما كان من حكم الصفة لا يختلف باختلاف كيفيَّة استحقاقها، فأما صحة الاختراع منه دوننا وتعلق قادريته بالأجناس كلها، فليس من حكم مجرد هذه الصفة حتى يلزم الاشتراك فيه، بل هو من أحكام كونه قادرا للذات، فاختلف.
وبعد، فقد ثبت تعلقها بالضدين، فإذا لم يصح وقوع أحدهما بها إلا بعد وقوع الآخر دل على صحة نفائها.
وبعد، فإذا طولب أحدنا برد الوديعة وبينه وبينها مسافة ثم مضى من الوقت ما يمكنه معه قطع تلك المسافة، ولم يردها حسن ذمه عند /256/ العقلاء، وهم لا يذمونه عل ىترك ما لا يقدر عليه.
ولا ينقلب عليا في العلم بالكتابة إذا أمر بها ومضى من الوقت ما يمكنه فيه فعلها؛ لأن الغلو مر وإن كانت لا تنفى فهي لا تختلف باختلاف الوقت إذا اتحد المتعلق، فالعلم بالكتابة لا يختلف سواء كان أحدنا بالمكان الأول أو العاشر، فمتجدد العلم كباقيه، فمتى أمرنا بالكتابة في المكان العاشر، فهو مأمورٌ بما هو عالم به، بخلاف القدرة فإن تأثيرها هو تأثير حقيقي.
والحاصل أن العلم إنما يتعلق بأحكام الفعل سواء كان الفعل في الوقت الأول أو لاعاشر والقدرة لا تتعلق إلا بفعل معين.
دليل، لو وجب مقارنتها لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق كما مر في نظائره؛ لأنه لو وجدت فيه قدرة الإيمان لوقع.
دليل، قال الله تعالى: {وستحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون} فلا يخلو إما أن يكونوا مستطيعين فلم يخرجوا أو كان في معلوم الله أنهم لو استطاعوا لما خرجوا، وفي كلامه الوجهين، أكذبهم الله تعالى، وفي ذلك إبطال مذهبهم، وقال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ومعلوم أن قد كلف الكافر بالإيمان، فيجب أن يكون في وسعه، وقال تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام فصرَّح أن الذي يقدر على الصوم ولا يفعله عليه فدية، وهذا يدل على أنها غير موجبة ولا مقارنة.
وقد زعم بعض الجهال أن الضمير في يطيقونه عائد إلى الفدى لا إلى الصوم تقديره: وعلى الذين يطيقونه الفداء، وهذا مباهتة، ويلزم عليه في من لا يفعل الفداء أن لا يجب عليه وأن يكون معذور إلا به يعذره عليه.
فصل
إذا ثبت وجب تقدم القدرة فحال المعذورات تختلف، فما كان منها مبتدأ كالإرادة أو مسبباً غير متراخ وجب كالتأليف والألم فإنما يجب تقدم القدرة عليه بوقت واحد، وما كان مسبباً متراخياً وجب تقدمها عليه كمدة التراخي مع الوقتين المذكورين.
وهل يجوز تقدمها على المبتدأ بأكثر ممن وقت واحد أم لا ظاهر كلام شيوخنا وهو الذي صرح به في التذكرة إلا أنه لا يجوز.
والأقرب جوازه؛ لأنا إذا حكمنا بصحة بقاء القدرة من الوقت الأول إلى العاشر على مثل ما فرضنا في رد الوديعة فلا بد من أن يكون قد تقدمت على مقدورها العاشر بعشرة أوقات، وهذا واضح.
وأيضاً فقد قال أصحابنا أن القدرة الواحدة لا تتعلق من الجنس الواحد على الوجه الواحد في الوقت الواحد إلا بمقدور واحد.
قالوا: واحترز بالوقت الواحد من الوقتين، فإنها يصح بها مقدوران في وقتين، وهذا يقتضي بها قد تقدمت على الثاني منهما بوقتين.
وقد استدل في التذكرة للمنع من ذلك بأنها لو تقدمت على المبتدأ بأزيد من وقت واحد لجاز تقدمها بأوقات /257/ كثيرة، فكان يصح من المريض أن يفعل الأفعال بقدرة موجودة.
وهذا يمكن اعتراضه بأنه كما يلزم ذلك في القدرة المتقدمة بزمان طويل يلزم أيضاً في القدرة المتقدمةبوقت واحد.
فيقال: هلا صح من المريض الفعل بالقدرة المتقدمة عن حال المرض بوقت واحد.
ولعل الوجه في الموضعين أن أعضاء المريض قد خرجت بالمرض عن أن تكون آلة، فلذلك لم يصح الفعل بها حال المرض، سواء تقدمت القدرة بوقت واحد أو أكثر.
فصل
في ذكر بعض ما يلزمهم في هذه المسألة.
يقال: أليس الكافر مأمور بالإيمان، وهو لا يقدر عليه فلا بد من بلى، فيقال: هذا غير تكليف مالا يطاق، وأكثركم يمنع من وقوعه وإن أجاز صحته.
ويقال: إذا كان لا يمكنه الانفكاك من الكفر فما الفرق بين كفره وطول قامته.
ويقال: أليس تأكيد القدرة في الفعل آكد من تأثير الآلة، فلا بد من بلى.
فيقال: إذا كان فاقد الإله عندكم معذوراً في الترك وجب مثله في فاقد القدرة، فيكون الكافر معذوراً في ترك الإيمان.
ويقال: متى يقدر أحدنا على الانتقال من الشمس إلى الظل؟ إن قلتم يقدر وهو في الشمس تركتم مذهبكم، وإن قلتم يقدر وهو في الظل فأي حاجة إلى القدرة حينئذٍ.
فإن قالوا: يقدره حال الانتقال.
قيل: ليس بين كونه في الشمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة الانتقال.
وكذلك يقال في رجل طلق امرأته وأعتق عبده هل يقدر على ذلك قبل وقوع الطلاق والعتق فهو الذي يقول أو بعده، فكيف يطلق أجنبية ويعتق حراً.
ويقال: ما عندكم في رجلين أحدهما زمن والآخر صحيح، أليس لا يقدران على القيام فلا بد من بلى.
فيقال: فلم كان الزمن معذوراً دون الصحيح في الصلاة من قعود.
ويقال: ما عندكم في رجل قائم على شاطئ دخله وهو صحيح الجوارح غير ممنوع من التوضي فتيمم وصلى وحلف بطلاق امرأته أنه لا يقدر على التوضي، هل تصح صلاته أو تطلق امرأته.
ويقال: ما عندكم في ذرة حملت خردلة أليس لا يقدر جبريل على حملها فلا بد من بلى.
فيقال: كيف يقدر على قلب المدن ونتق الجبال ولا يقدر على حمل خردلة.
ويقال: ما عندكم في رجل قتل نفسه أقدر على قتلها وهي حي، فهو الذي يقول أو هو ميت فكيف يقدر الميت على أن يقتل.
ثم إذا قد حصل القتل فعلى أي شيء قدر؟
ويقال: أليس الملائكة والأنبياء ما تركوا الكفر وسائر المعاصي رجاء لثواب الله ولا خوفاً من عقابه، بل لأنهم لا يقدرون على ذلك، ولو قدروا على ذلك لكانوا أكفر من خلق الله وأظلمهم، وكذلك في الشياطين ما تركوا الإيمان وسائر الطاعات إلا لعجزهم، ولو قدروا على ذلك لكانوا أفضل عباد الله وأتقاهم وأطوعهم، فلا بد من بلى.
/258/ فيقال: هذا من أسوأ الثناء على الله وأحسن الثناء على أعدائه، ولو قيل لرجل من المخالفين: إنك لا تترك المعاصي إلا عجزاً، ولو قدرت لكنت أعصى خلق الله، لأنكر ذلك ونفاه عن نفسه نفي مضطر إلى مجه.
ويقال لهم: ما عندكم لو قدرتم على قتل الأنبياء وهدم المساجد وتحريق المصاحف أليس كنتم تفعلونه، ولا تتركونه خوفاً من الله ولا رجاء له، ولا بد من بلى.
فيقال: فأي نقص أعظم عليكم من هذا؟
ويقال: هل عفا ملك عن جانٍ وهو يقدر على عقوبته أم لا؟ إن قالوا: لا، كابروا ولزم صحة العفو عمَّا لا يقدر عليه حتى يكون ملك الروم قد عفا عن أهل الإسلام، وإن قالوا: نعم، تركوا أصلهم.
ويقال: أخبرونا عن الزهاد في الدنيا كالنبي عليه السلام والصحابة والصالحين، هل زهدوا فيما لم يقدروا عليه، فيلزم أن يكون كل فقير زاهد حتى يزهد أحدنا في قصر السلطان ومملكته أو في ما يقدرون عليه، فهو الذي يقول.
ويقال: إذا قال الله للعبد: مالك لا تؤمن ولإبليس مالك لم تسجد؟ فقال: لأني لم أقدر على ذلك، وإنما قدرت على الكفر أليس صادقاً، فلا بد من بلى.
فيقال: فما معنى قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}.
ويقال: ما عندكم في من لم يحج مع أنه آمن صحيح البدن، هل يستطيع الحج أم لا؟ إن قالوا لا قيل: فإذاً الحج لا يجب عليه بنص الكتاب؛ لأن الله إنما أوجب على من يستطيع، وإن قالوا: يستطيع تركوا مذهبهم.
فصل [في مناظرات جرت في هذا الباب]
قال عدلي لمجبر: ما معنى قوله: {لو استطعنا لخرجنا معكم}؟ قال: صدقوا لو استطاعوا يخرجوا، قال: فما معنى التكذيب؟ قال: لا أدري.
قال الواثق ليحيى بن كامل: ما التوبة؟ قال : الندم على ما فات والعزم في المستقبل، قال: أفتقدر عليهما؟ قال: لا، قال: إذاً كنت لا تقدر عليهما، فما التوبة فانقطع، وقرى قارئ: {فاتقوا الله ا استطعتم} فقال مجبر: هذا بكسر قولا في الاستطاعة، قال معتزلي: كسرَه الله سبحان من يسرّ ولم يعسر، كيف وقد قال: {وما جعل علكيم في الدين من حرج}.
وقيل: لصقر المجبر: أكان فرعون يقدر على الإيمان؟ قال: لا، قيل: أفعلم موسى أنه لا يقدر؟ قال: نعم، قيل: فلم نعته الله؟ قال: سخرية.
اجتمع النظام والنجار للمناظر فقال له النجار: لم يدفع أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون، فسكت النظام فقيل له: لم سكت؟ قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق، فإذا التزمه ولم يستحي فماذا ألزمه.
ومر أبو الهذيل راكباً والحسين النجار على باب دار المهالبة، فقال النجار: انزل /259/ حتى أسألك، فقال أبو الهذيل: أتقدر أن تسألني؟ قال: لا، قال: أفأقدر أن أنزل؟ قال: لا.
وقال للنجار يوماً: أخبرني عن موسى حين أمر بإلقاء العصا، هل أعطي قدرة الإلقاء وهي في يده أو وقد ألقاها؟ إن قلت بالأول تركت مذهبك، وغن قلت بالثاني فقد ألقى من غير استطاعة، فما ثمرة الاستطاعة؟ قال: أعطى مع إلقائها، قال: هل في كفه أم لا ولا واسطة، فانقطع.
وقال مخبر لأبي الهذيل: هل تقدر على شيء؟ قال: نعم أقدر على أشياء أقدرني الله عليها، قال: فخذ تلك الصعوة على ذلك الحائط؟ قال: ذلك من استطاعة الناشق.