ومنها: قوله تعالى: {ولقد ذرنا لجهنم كثيرا..} الآية، فبين أنه خلق لجهنم فيجب أن يريد منهم ما لأجله يدخلونها.
والجواب: إنما يقتضي الظاهر أنه خلقهم لها لا أنه يريد مالأجله يدخلونها، وجائز أن يريد العقاب، وإن لم يرد سببه كما يريد منهم التوبة، وإن لم يرد سببها وهو المعصية، ويريد إقامة الحد على الزاني، وإن لم يرد ما لأجله وجب.
وبعد فهي معارضة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وبعد فلام كي لا تدخل على الأسماء.
والمعنى، ولقد خلقنا خلقاً وعاقبته دخول جهنم، فهي لام العاقبة مثلها في قوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً}/246/ والمعلوم أنهم ما التقطوه إلا ليكون لهم قرَّة عين، وقال الشاعر:
ولِلموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها .... كما لِخَراب الدَّهرِ تُبنى المساكِنُ
وقال آخر:
أَمْوَالُنا لِذَوِي المِيرَاثِ نَجْمَعُها ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيها
وقال آخر:
وقد سمنوا كلباً ليأكل لحمهم .... وما فعلوا بالحزم إذا سمنوا الكلب
ومثل هذا الجواب في قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً}، وقوله: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} وأشباه ذلك.
واعلم أن جميع ما ذكروه في هذا الباب معارض بقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ونحوها مما يدل على أن العباد مختارون في أفعالهم.
شبهة، قالوا: أجمعت الأمة على قولها ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والجواب: لا نسلمه وإن سلمناه فمعارض بإجماعها على قولها لا مرد لأمر الله، وعلى قولها: استغفر الله من جميع ما ذكره الله فجوابهم جوابنا.
والتحقيق في الموضعين أن مراد الأمة ما شاء الله كان من أفعاله، ومالم يشأ منها لم يكن بدليل أن مراد الأمة بذلك وصف اقتدار الله تعالى ولا يتم هذا إلا إذا قصدوا أفعال نفسه.
وأما قولهم: إن شاء الله فإنما ترد لاتفاق الكلام وإرجائه لا على جهة الشرط.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أن الله تعالى يمنع العباد مما أمرهم به لأجل أنه كرهه ولم يرده. منها قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم..} الآية.
والجواب: لا تعلق بظاهرها ؛لأن الختم لا يمنع من الإيمان من حيث يفعل في داخل القلب، ولا يأتيه من خارج، ولو أتاه من خارج لما منعه الختم كما لا يمنع ختم الكتاب والكيس من فضهما.
وبعد فالمنع إنما يعقل في حق القادر والكافر عندهم لا يقدر على الإيمان.
وبعد فلا معنى للختم على أصلهم؛ لأن الله تعالى إن فعل الإيمان في القلب لم يضر الختم، وإن لم يفعله لم ينفع عدم الختم.
وبعد فهذه الآية وشبهها معارضة بقوله: {أم على قلوب أقفالها} وقوله: {فأنى تؤفكون} {فآنى تصرفون} ونحوها مما يدل على أنهم غير ممنوعين.
وبعد.. فلم نقل ختم على قلوبهم من الإيمان، وهو محل النزاع.
إذا ثبت هذا، فالمعنى بالختم هنا السمة والعلامة، كما هو في أصل اللغة، وهي علامة توسم بها قلب العاصي لتعرفه الملائكة، فلا بإيراد الخواطر والألطاف وليتميز لهم الكافر من المؤمن كما قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} وفي الحديث: ((أن الرجل إذا عصى نكتت في قلبه نكتة سوداء)).
ويجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية والإخبار بأنهم لا يؤمنون، يقال: ختمت عليك أنك لا تفلح كما يقال: حكمت فأخبر تعالى بأنهم سواء /247/ أنذروا أم لا، لا يؤمنون، وذكر الختم والغشاوة مبالغة في الأخبار، ويجوز أن يكون المراد التشبيه لما لم ينتفعوا بقلوبهم وحواسهم في سماع المواعظ والاعتبار بالمخلوقات تشبيهاً بالمختوم عليها كما قال تعالى: {صم بكم عمي} فإنه لم يرد ذلك على جهة الحقيقة فإن المعلوم خلافه بدليل، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، ولكن لما كان لهم قلوب لا يعقلون بها أي لا يستعملونها وأعين لا يبصرون بها، كذلك شبَّههم بمن لا قلب ولا بصر له، فلما لم يستعملوا هذه الآلات فيما لأجله خلقت، وعلى هذا قال الشاعر:
أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
فلو لا ما قلناه لتناقض كلامه
وقال آخر:
كيف الرشاد وقد صرنا إلى ملاءٍ .... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقال آخر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
ومثله قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى..} الآية وأشباهها. ومثل هذا يقع الكلام في قوله: {وطبع الله على قلوبهم}، وقوله: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} أي بعلم وسم أو على جهة التشبيه أو على جهة الخذلان.
ومنها قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً} إلى قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه} فبين أنه يمنعهم سماع القرآن وفهمه.
والجواب: هذا الظاهر لم تقل به أحد لوقوع الإجماع على أنه يجب البيان، وأن الله لا يكلف مالا يُعلم، ولا يمنع المكلفين من فهم ما كلفهم، وقد قال تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}، وقال: {لتبيين للناس} وذمهم على عدم التدبير، والمشهور أنهم كانوا يفهمونه، وقد قال كذلك: {نسلكه في قلوب المجرمين}.
وبعد فلا بد من العدول عن الظاهر إلى التقدير؛ لأنه قال: {أن يفقهوه} ولم يقل: لئلا يفقهوه، وللآية معان صحيحة:ـ
أولها: أن يكون المراد بالجعل الحكم والتسمية كما سلف بيانه، وعليه قول الشاعر:
جعلتني باخلاً كلا ورب منى .... إني لأسمح كفا منك في الكرب
وثانيها: أن يكون المضير في يفقهوه عائد إلى الحجاب وتقديره مستوراً لا يفقهوه أي لا يعلموه في حال ما أنت مستوراً به، كما يقضي به سبب نزول هذه الآية.
وثالثها: أنا ذكرنا أنه لا بد من التقدير فتقديره لأن يفقهوه، فيكون قد بين أن غرضه أن يفقهوه وتقدير حرف واحد خير من تقدير ثلاثة حروف، ولأن تقديرنا موافق لدلالة /248/ العقل ومحكم الكتاب.
فإن قيل: كيف يكون الكن والوقر مفعولين للفهم؟
قلنا: صار القرآن لكثرة تكراره وتصريف آياته كالغطاء على قلوبهم، وكالوقر في آذانهم لكي يفقهوه، وتعذر إليهم ويصير الحال فيه كالحال، فيمن ترفع له صوتك وتكرر كلامك وتدور إلى جهة وجهه، كلما صرفه عنك لتقرر عليه أنه قد سمع وفهم وتزيح علته في ذلك.
ورابعها: أن المروي أنهم لما سمعوه وفهموه كفروا به، وكانوا عند تكراره يسبون النبي عليه السلام ويزدادون كفراً وعتواً فمنعثهم الله من فهمه وسماعه عند التكرار لما صار سماعهم له عند التكرار كالمفسدة.
ومنها قوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم..} الآية.
والجواب: المراد نقلب في الآخرة؛ لأنه لم يذكر الوقت؛ ولأنه جعله عقوبة لكونهم لم يؤمنوا به أول مرَّة، ولا يجوز أن يعاقب على الكفر بخلق الكفر، فهو بمنزلة قوله: {يوم نقلب وجوههم في النار}.
وبعد، فلم يقل نقلب أفئدتهم عن الإيمان، وهو محلّ النزاع؛ ولأنه يقتضي أنهم كانوا آمنوا بقلوبهم ثم قلبها أو يجوز أن يكون المراد بسلب الألطاف والتوفيق وبالخذلان.
ومنها قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون..} الآية.
والجواب: لم يقل سأصرفهم عن فهمها أو عن الإيمان، ولأن الصرف إنما يكون عما يقدر عليه وهو لا يقول به الخصوم.
والمعنى: سأصرفهم عن إبطالها والقدح فيها والزيادة فيها والنقص منها، ونحو ذلك كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
وأما قوله تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} فهو على جهة الدعاء.
ومنها قوله تعالى: {اعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}.
والجواب: لم يقل يحول بينه وبين الإيمان. وأيضاً فإنما أخبر بأنه يقدر على ذلك، فمن أين قد فعله.
والمعنى: أنه تعالى عبَّر بذلك عن الموت؛ لأن الحيلولة بينهما توجب الموت، ومن أعلا درجات الفصاحة أن يخبر عن الشيء بسببه أو بما يقع عنده، كما قال طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى .... وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فأخبر عن الموت بما يكون عنده من قيام العوَّاد، والله تعالى حثهم على التوبة قبل الإماتة.
يوضحه أن اللام في المرء لام الجنس، وليس الحيلولة الشاملة إلا الموت.
ومنها قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا /249/ قلبه عن ذكرنا}.
والجواب: هذا لا يتم على مذهبهم؛ لأن الغفلة لا تمنع من الذكر إن فعله الله تعالى، وزوالها توجبه إن لم يفعله، والفعل يستعمل في اللغة في الطريق الذي لا منار له، وفي القدح الذي لا يصيب له، يقال في الأقداح ثلاثة غُفْل، أي لا يصيب له، وفي الشيء الذي لا سِمَة له يقال: أغفَل إبله إذا لم يسمها. قال الشاعر:
أنحن وهن أغفال عليها .... وقد ترك الصلا بهنَّ نارا
أي ترك الصلا عليهن سمة.
ومعنى الآية: {ولا تطع من أغفلنا قلبه} عن سمة الخير، فلم يسمه بها كما وسمنا بها قلوب المؤمنين في قولنا: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} ويجوز أن يكون لمعنى أغفلنا أي وجدنا قلبه غافلاً أو بمعنى لم أسمه.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أنه تعالى يحمل العباد على نواهيه، ويوقعهم في معاصيهم لأجل أنه أرادها.
فمنها قوله تعالى: {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تأزهم أزاً}.
والجواب: هذا لا يصح على مذهب القوم؛ لأنه لا تأثير للشياطين في الأزّ، والفاعل له هو الله تعالى.
والمعنى بالإرسال هنا هو: التخلية والتسليط على جهة العقوبة والخذلان لما لم يطيعوا كما يقال: أرسل فلان كلبه على الناس، وأرسل غنمه على الزرع ونحو ذلك، وكما قال تعالى: {وأرسلنا عليهم الطوفان والجراد..} الآية. هذا إ ن لم يكن المراد بالإرسال في الآخرة.
يوضح هذا كله أنه جعل الإرسال عقوبة على كفرهم.
ومنها قوله {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}، قالوا: تدل على أنه قد أراد منهم الطغيان.
والجواب: أن المد في الطغيان بالمعنى الذي ذهب إليه الخصوم غير معقول في اللغة، ولا يستعمل، وإنما المد هو الإنشاء في الأجل، وقوله: {في طغيانهم يعمهون} كلام مستأنف، أي في حال عمهم في الطغيان، ولولا هذا لوجب أن يكون قوله: {يعمهون} جواباً ليمدهم محروماً، والرفع دليل الاستئناف، ومعنى الاستهزاء أنه أمهلهم ليتأكد الحجَّة عليهم، وهم يحسبون أنه لا يعذبهم حيث اغتروا بالإهمال، فهو كالمستهزئ بهم بالإمهال، ولو كان كما قالوه من أنه فعل بهم الطغيان وأراده، لكان قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} لا معنى له؛ لأنهم لا يتمكنون من الهدى.
ومنها قوله: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً} فقد صرح بأنه يفعل الشك فيهم.
والجواب: لم يستعمل المرض بمعنى الشك في اللغة قط، وإلا كان يجب أن يسمى الشاك مريضاً، والمريض شاكاً، وإنما يستعمل المرض في الألم حقيقة، وفي الغم مجازاً، يقال: /250/ أنا مريض القلب من كذا، أي مغتم، ولما كان في قلوب الكفار غم شديد من أمر النبي عليه السلام والمؤمنين لأجل ما أعطاهم الله من العزة والنصر، فأورد الله هذا إما على الدعاء عليهم، كأنه قال: زادهم الله غمى، وهو يتضمن الدعاء للمؤمنين، أي بما يزدادون من النصر والعزة، أو يكون على جهة التحقيق بأن الله زادهم غمى بما زاد به المسلمين مما لأجله يغتم عدوهم.
ومنها قوله: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} وقوله: {فمن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً}.
والجواب: أنه قال: فزينوا ولم يقل ليزينوا، والفاء كما ترد للإخبار بوقوع الغرض المقصود بالفعل المتقدم، نحو شربت الماء فرويت، فقد يقع لنفي الغرض المقصود والإخبار بوقوع عكسه نحو: أنعمت عليك فكفرتني وأمنتك فخنتني، وقد يرد بمطلق الإخبار بوقوع فعل عقيب فعل، ومعنى الآية أن النقيض هنا بمعنى التخلية والتسليط والخذلان، ولا خلاف في أن الله تعالى مكن الشيطان من الوسوسة والخديعة والدعاء إلى الضلال، لكنه ليس له عليهم سبيل إلا باختيارهم، كما قال تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلاَّ أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقال: {وما أنتم عليه بفاتنين إلاَّ من هو صال الجحيم}.
وبعد، فلا خلاف أن خلق الشيطان ووسوسته غير موجبين لضلال أحد، أما عند أهل العدل فلأن الله تعالى لا يخلق ما هو مفسدة، وامَّا عند أهل الجبر فلأن الموجب للضلال هو أن يخلقه الله فيه، ولا تأثير للشيطان ولا غيره.
ومنها قوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} {وأملي لهم إن كيدي متين}.
والجواب: لا فرج لهم في هذه الآية؛ لأنه لم يقل سأحملهم على الكفر؛ ولأن الآية وردت مورد الوعيد، فكيف يتوعد على الكفر بكفر، ولأنهم كانوا كفاراً قبل هذا الاستدراج الذي جعله عقوبة على الكفر.
والمعنى: سنهلكهم من حيث لا يعلمون؛ لأن الاستدراج مأخوذ من الدَرج، وهو الهلاك، يقال: درج فلان صبياً أي هلك، ودرج الناس قرناً بعد قرن، وفي حديث أن خديجة سألت عن أطفال درجوا في الجاهلية، أي هلكوا، وقال الأعشى متهدداً:
لنستدرجنك القول حتى تهزَّه .... وتعلم أني لست عنك بملجم
وقوله: {وأملي لهم أن كيدي متين} أي وأمهلهم في الأعمار لتتأكد الحجة.
ومنها قوله: {فزادهم رجساً إلى رجسهم} فأضاف الزيادة إلى الآيات وهو فاعلها.
والجواب: ما تقدم من أن المراد وازدادوا عندها نحو {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}.
فإن أهم التكليف علم العقائد، وإن الظفر بالحق فيه مراحل الفوائد، وأنه قد كثرت فيه الأهواء وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق، وشكلوا بنيات الطريق، فمن شق قسطاً ولى بجحد المشاهدات، ويحاول دفع الضرورات ويحاول دفع الضرورات، وملحد يبكي الصانع ويضيف التأثير إلى الطبائع، وفلسفي ينفي عن الله الاختيار ويعول على العقل والفلك الدوار وباطني يقول بالسابق والتالي، ويعمد غير الله، ولا يبالي، ومطرفي بقصر تأثير الصانع على الأصول، وهو لم يحصل من إثباته تعالى على محصول، وثنوي يقول بالقديم الثاني /2/، وآخر يتلوه في قديم المعاني، وبرهمي ينفي النبوة رأساً، وذمي لا يرى في تكذيب الرسل بأساً، ومجس يشبه الله تعالى بالمجدثات، ويثبت له الخوارج والآلات، ومخير يعتذر للسباطين والعصاة، ويحمل مساوي العباد على الله، ومزح يتعلل بالإخلاص والأمالي، ويبني دينه على حرف التواني، ورافض يبغض شيوخ الإسلام، ويحبط من الغلو والتعصب في ظلام. فهذه أصول فرق الصلالة، والذين تفرعت عنهم كل جهالة، كل منهم بمذهبه فرح مسرور، ورجاهم الكل على قطب الغواية تذور، ليس على غير الباطل يعولون، ويوم تقوم الساعة يومئذ يحسر المبطلون، لقد صدق الله عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وصاح بهم إلى مخالفة الحق فاستمعوه، واستفز بمكره منهم من استطاع وصار له من علماء السوء أتباع، يدعون له إلى كل بدعة وضلال، ويبالغون في نصرته بالأقوال والأعمال، قد انتصب منهم في كل فرقة أمير يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويسلك منهم في كل بدعة منهجاً، اقتداء بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وشقفوا لهم بالتمويه على كل مهواة، فاستمالوا بشبههم أفئدة الطغام، وأنزلوا على قضيتهم جمهور العلوام، إلى أن صارت الطائفة المحقة فرقة من نيف وسبعين فرقة، فلست تكاد ترى للحق محباً، إلا من يصغي لسماع الحجة قلباً، ولا يظفر بمنصف
القول في الاستطاعة
هي المعنى الذي يوجب لمن اختص به كونه قادراً، وهي ترادف القدرة والقوة والطاقة، بدليل أنه لا يثبت بعضها مع نفي البعض /251/ وإنما لا يقال في الله تعالى: مطيق؛ لأن العرف قد خص استعمال الطاقة بما يتوصل إليه بمشقة.
فصل
المقصود في هذا الباب بيان أن الكافر قادر على الإيمان والمؤمن قادر على الكفر، وقد خالف في ذلك أهل الكفر بأمرهم.
والكلام في هذه المسألة يدور على ثلاثة أركان:
أحدها: أن القدرة غير موجبة لمقدورها. وثانيها: أنها متقدمة عليه. وثالثها: أنها متعلقة بالضدين وبتمامها يتم الغرض، وقد عرفت أن الكلام هنا هو مع من يثبت القدرة منهم، فأما من ينفيها كالجهميَّة فالكلام معهم في هذه المسألة لغو.
أما الركن الأوَّل: فعندنا أن القدرة غير موجبة لمقدورها، وخالفت المجبرة.
لنا: أنها لو كانت موجبة لم يحل إما أن توجب إيجاب الأسباب، فيكون مقدورها فعلاً لله؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب، وتقدم فساده، ويلزم أن لا توجب إلا في محلها؛ لأنه لا جهة لها بخلاف الاعتماد، ويلزم صحة وجودها، ولا مقدور بأن يفقد شرط توليد أو يمنع مانع منه، وعندهم أنه يستحيل تخلفه عنها؛ لأن فيه إبطال المقارنة، وإما أن يكون إيجاب العلل، وهو باطل؛ لأن العلل لا توجب الذوات، ولأن ما صدر عن العلة لا يضاف إلى فاعل قط، ولأن المعلول لا بد أن يختص بمن اختصت به العلة، ومعلوم أن أكثر المقدورات منفصلة من القادر؛ ولأن القدرة مشروطة بالبنية والحياة، فيجب أن يكون معلولها كذلك؛ لأن ما كان شرطاً في العلة كان شرطاً في معلولها كالعلم، فإنه لما كان مشروطاً بالبنية والحياة كان كونه عالماً كذلك، ولولا هذا لصح حصول العلة مع استحالة المعلول.
وبعد، فلو كانت موجبة لمقدورها لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع.
وبعد، فسيبين أنها صالحة للضدين، فبطل كونها موجبة، وإلا وجب حصولهما.
وبعد، فكان لا يصح وصف أحدنا بأنه قادر كما لا يصح وصف المرمى به من شاهق بأنه قادر على الهوي والجامع زوال الاختيار وحصول ما يوجب الفعل في الموضعين.
وبعد فكان يلزم مثله في قدرة الباري تعالى.
فإن قالوا: إن قدرته تعالى قديمة فيخالف قدرنا.
قلنا: هذا لا يصح على أصلكم؛ لأن عندكم أن القدم لا يقتضي التماثل والاختلاف، وغلا وجب كونها مثلاً لله تعالى.