والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عند الخصوم؛ لأنه لا عمل للأمة.
والمعنى: زينا لكل أمة عملهم الذي كلفوه، فإن الله زين الحق بالأمر به والحث والترغيب فيه كما قال تعالى: {وحبّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} أي بالأمر والحث والترغيب، {وكره إليكم الكفر} بالنهي والزجر ونحو ذلك.
يوضحه: إما أن يريد عملهم الذي قد فعلوه، وهو باطل لأن ما قد مضى لا يحتاج إلى تزيين، بقي أن يريد المستقبل وهو إما أن يريد عملهم الذي نهو عنه، وهذا باطل لتأديته إلى ما سلف ذكره من إبطال التكاليف والكتب والرسل ولزوم كون فاعله مطيعاً أو يريد عملهم الذي كلفوه وهو المطلوب.
القول في أن الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد القبائح
وقد ذهب أهل الجبر إلى أنه تعالى يريد الواقعات وإن كانت كفراً وظلماً وسباً لنفسه، وقبلاً لإنشائه، ونحو ذلك، ويكره ما لا يقع وإن كان عدلاً وإيماناً وشكراً له، ونحو ذلك وسبيلنا أن نتكلم معهم في هذين الطرفين.
أما الطرف الأول: وهو أنه تعالى يرد الطاعات، فدليله أنه أمر بها والأمر /239/ لا يكون أمراً إلا بالإرادة على ما تقدم تفصيله، وكما يريدها، فلا يصح أن يكرها؛ لأن كراهة الحسن قبيحة؛ ولأن الكراهة إنما تعرف بالنهي، وهو تعالى لم ينه عنها بل أمر بها.
وأما الطرف الثاني: وهو أنه لا يريد القبائح، فدليله العقل والسمع.
أما العقل، فهو أن إرادة القبيح قبيحة، والعلم بذلك ضروري في الشاهد عند زوال اللبس وجوه الشبه، ولهذا لو قلت لبعض العقلاء بل لبعض الصبيان: إنك تريد كل ظلم وقبيح وفساد لأنكر ذلك ونفاه عن نفسه نفي مضطر إلى أنه صفة نقص، وأنه قبيح، ولا وجه لقبحه إلا كونه إرادة للقبيح؛ لأنا عند العلم به نعلم قبحه، وأن جهلنا كل أمر وعند الجهل بذلك لا يعلم قبحه، فيجب فيما شارك إرادة القبيح في كونه إرادة للقبيح أن يقبح.
فإن قيل: العلم بالإرادة نفسها استدلاليٌّ، فكيف يعلم قبحها ضرورة؟

قلنا: العلم بالإرادة على الجملة ضروري كسائر الأفعال؛ لأنا نعلم ضرورة تعلق أفعالنا بقصودنا ودواعينا، وذلك فرع على العلم بأن لنا قصود ودواعي على الجملة، بل قد نضطر إلى قصد غيرنا.
دليل كل عاقل يعلم بكمال عقله أن الحكيم لا يريد سب نفسه، وقتل: رسله وعبادة غيره، ولا يكره ما أمر به من طاعته وعبادته والعدل والإحسان.
دليل، لو كان تعالى مريداً للمعاصي لكان الفاعل لها مطيعاً؛ لأن من فعل ما أراد المطاع وصفة أهل اللغة بأنه مطيع، وقولهم: بل المطيع من فعل ما أمر به المطاع غير مسلم، وإن سلمناه فلا ينجيهم؛ لأن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.
يوضحه أن العبد متى علم من سيده أنه يكره الفعل ثم أمره به على لسان رسول يعلم صدقه كان له أن يقول: إني علمت أنك تكرهه ويعذره العقلاء بذلك إذا لم يفعله.
دليل: قد ثبت أن الأمر بالقبيح قبيح، والذي أوجب كونه أمراً هو الإرادة، فيجب أن تكون قبيحه؛ لأن تأثيرها في ذلك على طريق الإيجاب، فبهذا يفارق القدرة على القبيح وصار الحال فيه كالحال في المسبب، فإن قبحه يقتضي قبح السبب، فإذا قبح الأمر القبيح قبح ما يؤثر في كونه أمراً بالقبيح.
دليل: قد ثبت أن الله تعالى قد نهى عن القبائح والنهي إنما يكون نهياً بالكراهة، وإلا لم ينفصل عن التهديد كما تقدم في كون الأمر أمراً بالإرادة، وإذا كان كارهاً لها وجب أن لا يكون مريداً لها.
وأما السمع فنحو قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} إلى ما يؤدي إلى اليسر وهو الطاعة، {ولا يريد بكم العسر}، وعندهم أن كل عسر فقد أراده الله.
/240/ وقوله: {إنما يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {ويريد الذين يبتغون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} ولا خلاف أن الخطاب للجميع وعندهم أنه لا يريد هداية الكفار، بل يكرهها وأن كل ميل فهو الذي أراده.

وقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون}، وهذا لام الغرض بلا شبهة، وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع فبين أن غرضه بالإرسال الطاعة والعرض والإرادة واحد بلا خلاف، وقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة}، وقوله: {ليذكروا}، {ولقد يسرنا القرآن للذكر}، {ولعلهم يتقون} وأشباه ذلك مما بين فيه أن غرضه الطاعة.
ومن قوي ما نعتمده قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} وأشباهها فإنه تعالى حكى عن المشركين نفس مذهب الخصوم ثم أكذبهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} ثم قال: {حتى ذاقوا بأسنا} والبأس هو العذاب، والله لا يعذبهم على الصدق ثم تحداهم في إقامة البرهان على ما قالوه بقوله: {قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا} وهذا لا يقال إلا للمبطل، ثم بين أنهم يتبعون الظن، وأنهم يخرصون والخرص هو الكذب، وهذا لا يقال للصادق، فإن كانوا كاذبين كما أخبر الله تعالى، فهو المطلوب، وإن كانوا صادقين كان تكذيبهم كذباً.
وما يهذى به الخصوم من أن المشركين صادقون فيما قالوه، لكنهم أوردوه على سبيل الاستهزاء فهو تجاهل، وليس التكذيب بأكثر مما في الآية، ولو صح هذا لما صح في القرآن تكذيب قط، وليس إيراده على طريق الاستهزاء يقتضي وصفهم بالكذب كما لو قال اليهودي محمد نبي.
على أن الله الذي خلق فيهم الاستهزاء على مذهب الخصم، ولو شاء لما أوردوا هذا الاستهزاء فأين موضع التكذيب حينئذٍ.
وأما استدلالهم على تأويلهم هذا بقوله في آخر الآية: {قل فلله الحجَّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فهو أعجب من تأويلهم، فإنا إنما نجتهد في أن يكون الحجة البالغة لله، وإنما يكون كذلك إذا كان الكلام على ظاهره، وكما قلناه، وأما إذا كان الله خلق فيهم الشرك وأراده منهم وكره إيمانهم ومنعهم منه وكذبهم وهم صادقون، فأي حجة له ليهم فضلاً عن أن تكون بالغة.

ومما يدل على قولنا قوله: {وماالله يريد ظلماً للعباد} والنكرة في سياق النفي للاستغراق، وعندهم لا ظلم إلا وقد أراده، وقوله بعد عده المعاصي {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} ومع كونه مكروهاً كيف يكون مراداً، وقوله: /241/ {والله لا يحب الفساد} وأشباهها، وقوله: {ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} ومعلوم أن الرضى والمحبة والإرادة واحد، بدليل أنه لا يصح إثبات بعضها ونفي البعض كالجلوس والقعود.
وأما قولهم: أحب جاريتي ولا يقال أريدها، فمعناه أحب الاستمتاع بها؛ لأن المحبة لا تعلق بنفس الذات من حيث هي حاصلة باقية، فلا جزم جاز أن يقال أريد الاستمتاع بها، وليس إذا تجوز بلفظ المحبة مع حذف المضاف أو بمعنى العشق لزم مثله في لفظ الإرادة، وإن كانا بمعنى واحد.
فصل
في بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأنه تعالى يريد المعاصي، يقال لهم: أليس الله تعالى أراد من الكافر الكفر، فماذا تريدون أنتم منه، فإن قالوا: الكفر كفروا، وإن قالوا: الإيمان قيل لهم: أي شيء خير له هل ما ذا أردتم له أو ما أراده الله؟ فإن قالوا: ما أراده الله، قيل: فكان الكفر خيراً له من الإيمان، وإن قالوا: ما أردناه، قيل: فكأنكم أحسن اختياراً له من الله فأنتم إذاً أحق بالحمد والشكر.
ويقال: إذا كان الله أراد من أبي جهل الكفر وكذلك أراده منه إبليس وأراد منه النبي الإيمان كان إبليس موافقاً لله في الإرادة والنبي مخالفاً له، فهل خير له أن يفعل ما أراده الخالق أو ما أراده المخلوق.
ويقال: إذا أمر الله الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر فأيهما أولى بالوقوع، هل ما أراده الله فيكون الكفر أولى من الإيمان؟ أو ما أمر به فيكون ما فيه تعجيزه عندهم أولى بالوقوع؟
ويقال: أليس أراد الله الشرك وسب نفسه وقتل أنبيائه ومحاربة أوليائه وكل قبيح فلا بد من بلى.

فيقال: أتريدون ذلك فإن قالوا نعم، خرجوا من الدين، وإن قالوا:: لا، قيل: فكيف تنزهون أنفسكم عما وصفتم به أحكم الحاكمين.
ويقال لهم: هل الله أهل لوقوع ما أراده؟ أم أهل لوقوع ما لم يرده؟ إن قلتم بالأول فكأنكم قلتم هو أهل؛ لأن يشرك به ولسوء الثناء عليه، وقتل أنبيائه وتكذيب آياته، وإن قلتم بالثاني فكأنكم قلتم هو أهل لوقوع ما يدل على عجزه وضعفه.
ويقال: أليس لله على الكفار حق وهو أن يعبدوه فلا بد من بلى.
فيقال: هل أراد منهم أداء حقه أم كرهه إن قالوا: أراده تركوا مذهبهم، وإن قالوا: كرهه، قيل: فيجب أن يسقط عنهم؛ لأن صاحب الحق إذا كرهه ولم يرده فقد أسقطه لا سيما وهو غير محتاج إليه، ولا هو عندهم ممن يكلف للمصلحة.
ويقال: لو كان أحدكم /242/ ملكاً وأراد من رعيته شيئاً يفعلوه، هل يستحقون المثوبة أو العقوبة؟ إن قالوا بالأول تركوا مذهبهم، وإن قالوا بالثاني أحالوا.
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات]
قال الجاحظ لأبي عبد الله الجدلي: هل أمر الله المشركين بالإيمان؟ قال: إي والله، قال: فهل أراده منهم؟ قال: لا والله، قال: فهل عذبهم على ذلك؟ قال: إي والله، قال: فهل هذا حسن؟ قال: لا والله.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول في رجل زعم أن ما كان في وقت النبي عليه السلام من الكفر والفجور وعبادة الأوثان والفتن فهو من النبي وبفعله وإرادته؟ قال: أقول أنه كافر زنديق، قال: لم قال لسوء ثنائه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فلو قال ذلك في أبي بكر وعمر، قال: أقول يقتل ويرجم لطعنه في الصحابة، قال: فلو قال ذلك في الله فسكت.
وجاء مجبر إلى نصراني فداوى عينه من مرض كان فيها، فقال للنصراني: قد وجب على حقك، فأريد نصحك، قال: وما ذاك؟ قال: أسلم، قال: أتريد نصيحتي وإسلامي؟ قال: نعم، قال: فهل الله يريد نصيحتي وإسلامي، قال: لا، قال: فأيكما أحق أن أعبده؟ فسكت.

فصل [في شبههم]
قد تعلقوا من جهة العقل بشبهتين:
أحدهما: أن قالوا، الإرادة مطابقة للعلم، فما لا يعلم الله وقوعه لا يصح أن يريده.
والجواب يقال: هذا محض الدعوى ومحل النزاع، وبعد فكيف يصح ذلك وعندهم أن كونه مريداً ككونه عالماً في أنها تستحق للذات أو لمعنى قديم، فلم كانت أحدها بأن يطابق الأخرى أولى من العكس، وهلاَّ كانت الإرادة مطابقة للقدرة كما هي مطابقة للعلم أو دون العلم أو هلاَّ كان العلم والقدرة مطابقين للإرادة وما وجه هذه التحكمات من غير دليل.
قالوا: إرادة ما لا يكون تمني.
قيل لهم: هذا من أساطيركم الباطلة وغلطاتكم الظاهرة؛ لأن التمني من قبيل الكلام لا من قبيل الإرادة، فإذا قال أحد: يا ليت كان كذا فيما له فيه نفع أو دفع ضرر، قيل: تمنَّى.
قالوا: خلاف المعلوم مستحيل والله لا يريد المستحيل.
قيل لهم: ومن سلم لكم استحالة خلاف المعلوم، ولو كان مستحيلاً لما صح وصف الله تعالى بالقدرة على إقامة القيامة الآن، ولا أن يزيد في خلقه ولا ينقص؛ لأنه يعلم أن ذلك لا نفع.
وأيضاً فكان لا يصح من النبي عليه السلام أن يريد من أبي جهل الإيمان، وقد علم أنه لا يقع؛ لأنه كيف يريد المستحيل، وهل هو إلا بمنزلة إرادة الجمع بين الضدين.
وأيضاً: فلو وجب وقوع المعلوم واستحال خلافه لبطل معنى الاختيار والإرادة، فلا يكون إليها طريق ولا لها فائدة.
الشبهة الثانية، قالوا: لو وقع في ملك الله ما لا يريد لدل على عجزه قياساً على الشاهد.
والجواب: أوَّل ما في هذا أنهم /243/ يمنعون من قياس الغائب على الشاهد، ويقولون: لا يقاس بالناس، فكيف قاسوا هاهنا.
وبعد فهو معارض بالأمر فيقول: لو وقع في ملك الله خلاف ما أمر به وما نهى عنه لدل على عجزه قياساً على الشاهد، بل مخالفة أمر الملك في الشاهد أدل على عجزه من مخالفة إرادته.

وبعد فإذا أراد الملك من الرعية أمراً فإنما يدل مخالفتهم على عجزه إذا كان له في ذلك الأمر جلب نفع أو دفع ضرر، فحينئذٍ يدل على عجزه؛ لأنه لو قدر لقهرهم لتوفّر دواعيه، وأمَّا إذا أراد منهم ما يعود نفعه إليهم لم يدل على عجزه.
يوضحه أن النبي عليه السلام والمسلمون يعلمون اختلاف اليهود والنصارى إلى كنائسهم، ولم يدل ذلك على إرادتهم له، ولا عجزهم عن المنع منه، وكذلك فإن الملك إذا أمر رعيته بأمر يصلحهم لم يدل فقده على عجزه.
وبعد فلو كان كما ذكروه لكان الله قد أمر بما يدل على عجزه وبعث الرسل لذلك وعاقب لم لا يقع وهذا شيء بعيد لا يلتزمه مميز.
شبهة ثالثة، قالوا: أخبر الله بأن الكفر يقع وأمر بمجاهدة الكفار، فلا بد أن يريد الكفر الذي لا يكون خبره صدقاً إلا به، ولا تتم المجاهدة إلا به، وإلا كان قد أراد تكذيب نفسه.
والجواب، يقال: وكذلك أخبر النبي عليه السلام أن الحسين يقتل، وكذلك أمر بالاغتسال من الزنا، فكان يجب أن يريد قتل الحسين والزنا؛ لأنه لا يكون خبره صدقاً ولا لأمره فائدة إلا به والتزام ذلك جهالة شنيعة.
فصل
وأما السمعيات فقد قدمنا منعهم من الاستدلال بالسمع لكنا نتكلم على تقدير صحة استدلالهم، فمنها قوله: {وما يشاءون إلا أن يشاء الله}.
والجواب: إما أن يريد أن جميع ما يشاءون لا بد أن يشأه أو يريد، وما يشاءون هذا الشيء المخصوص إلا وقد شاءه الله تعالى، فالأول باطل؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه يشاء خلاف ما يشاءون بقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وبقوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} وبقوله: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً}.
وأيضاً فمعلوم أن أكثر ما يريده المخالفون لا يوجد، ولو أراده الله لوجد.

والثاني: لا فرج لهم فيه؛ لأن هذه الآية قد وردت في ثلاثة مواضع كلها عقيب ذكر الطاعة، فتقديره وما يشاءون الطاعة إلا وقد شاءها الله، وكذلك نقول نحن؛ لأنه تعالى قد أمر بها، قال تعالى: {فمن شاء ذكره} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي الذكر، وقال: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي اتخاذ السبيل، وقال: {فمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي الاستقامة، وهذا غاية الترغيب في هذه الأمور، كما إذا قال السيد العلامة /244/: اعلم أنك لا تفعل إلى زيد مكرمة إلا وقد أردتها فإن هذا غاية الحث على إكرامه.
ومنها قوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} وأشباه ذلك.
والجواب: المراد لو شاء الله لمنعهم قهراً، وهذا مسلم وفائدته نفي العجز عن نفسه، على أنه ليس في ذلك أكثر من أنه لو شاء ما اقتتلوا، وما فعلوا، ومن أين أنه قد شاء أن يقتتلوا ويفعلوا وهو محل النزاع، ألا ترى أن المسلمين لو شاءوا لمنعوا اليهود عن المضي إلى كنائسهم ولم يدل على أنهم قد شاءوا المضي إليها.
ومنها قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، وأشباه ذلك.
والجواب: ما تقدم من أن المراد مشيئة القهر ونفي العجز عن نفسه.
يوضحه أنه قال: لجمعهم ولم يقل: لاجتمعوا، فهو إنما نفى فعل نفسه، وهو الإكراه لا مشية فعلهم الذي هو الإيمان.

يزيده وضوحاً أن الله تعالى أورد ذلك تسلية لنبيه عليه السلام لما اشتد أسفه على فقد إيمانهم فقال: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} يصيروا عندها ملجئين ولو شاء الله أن يلجئهم لفعل فلا تكونن من الجاهلين، فإنه لا يريد منهم الإيمان كرهاً وإنما يريده اختياراً ليصح بقاء التكليف واستحقاق الجزاء، ويجوز أن يكون المراد لجمعهم على الهدى الذي هو الثواب، فلم يصرح بآي معاني الهدى أراد ونحن قد بينا أن الهدى لم يرد بمعنى خلق الإيمان في اللغة.
ومنها قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة..} إلى قوله: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}.
والجواب: قد قدمنا أنه لا يقع الإيمان ولا غيره من الطاعات إلا بمشيَّة الله، ويجوز أن يكون المراد إلا أن يشاء الله يكرههم، ولو لا هذا لما كان ليورد الآية ذماً لهم وإخباراً من شدة عتوهم؛ لأنهم والحال هذه معذورون.
نعم، لما كانوا يقترحون على النبي ويتعنتون في طلب الآيات أخبر الله تعالى أنه ماترك شيئاً يؤمنون به عنده مختارين، وأنه لو فعل ما فعل ما آمنوا إلا مضطرين.
ومنها قوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} فأخبر أنه يستدرجهم بالفسق لإتمام مشيّئته.
والجواب: أن ظاهرها يقتضي أنه تعالى أمرهم بالفسق، وهو باطل بالاتفاق، والمعنى قيل أمرناهم من الميزة ففسقوا وبطروا فاستحقوا العذاب، وقيل: أمرناهم بالطاعة على ألسنة الرسل ففسقوا بمخالفة الأمر فاستحقوا العذاب، وعلى كل حال فالله تعالى فعل بهم ذلك على وجه العقوبة على عصيانهم، بدليل قوله: مترفيها، فإن هذا لا يقال إلا للعاصي، وقد قرنت الآية بالتشديد أي جعلناهم أمراء وكبراء بالإمهال والإنعام فيخالفون ما يجب لنا من الشكر والطاعة بالكفر والفسق فنهلكهم عند ذلك.
ومنها قوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.

والجواب: لم ترد الإذن بمعنى المشيَّة والإرادة في حقيقة اللغة ولا في مجازها، وإنما تستعمل بمعنى الأمر نحو {فإنه نزله على قلبك بإذن الله}وقوله {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} ونحو {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} أي بأمره وإيحائه بنصب الأدلة.
وحكى عن عمر بن عبيد أنه قال: أمر إلي محمد بن سليمان فجئته وعنده مصحف منشور وسيف مسلول، فقال: اخرج من هذه الآية وإلا ضربت عنقك، فقلت: ما هي، فقال: قوله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} فقلت: {بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم} فقد أذن الله لك في الإيمان، فقال: ما أسرع جوابك كأنه في كمّك، وكذلك يستعمل الأذن بمعنى الإباحة والإطلاق كقوله تعالى: {فأنكحوهنَّ بإذن أهلهن} ونحو {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ونحو {فأذن لمن شئت منهم} وتستعمل بمعنى العلم، كقوله: {فقل أذنتكم على سواء} وكقول الشاعر:
آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْماءُ .... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وعلى هذا تحمل هذه الآية، ويكون في تعليقه بالعلم فائدة، وهي تهديد لفاعل السحر، ويجري مجرى قوله: {إن الله بما تعملون بصير} ونحوها، فإن المراد في جميع ذلك التهديد على أن الضر الحاصل عند السحر هو من فعل الله تعالى بمجرى العادة، ولهذا نفع تأثيره في الأماكن المتباعدة، ومن دون مماسة.
ومنها قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} الآية، فبين أنه كره خروجهم مع النبي عليه السلام، وهو طاعة.
والجواب: بل هو معصية؛ لأنه تعالى نهى عنه بقوله: {اقعدوا} وعلل وجه النهي والكراهة بكونه مفسدة، فقال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم..} الآية. وقال: {قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} ومع التصريح بالنهي عن الخروج وكراهته وأنه مفسدة كيف يقال أنه طاعة.

37 / 75
ع
En
A+
A-