والإضلال والإغواء هو التلبيس، فلا يصح أن يجامع التكليف. وبعد فلو كان الله أضلهم عن الهدى لما أمكن الاحتجاج عليهم بالكتب والرسل، ولكان لا معنى للترغيب والترهيب والوعد الوعيد والتوبيخ في نحو: {فما لهم لا يؤمنون فما لهم عن التذكرة معرضين}، و{ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى}، ونحو ذلك.
وبعد، فالإضلال والإغواء الوارد على سبيل التلبيس إنما يصدر ممن يعجز عن المنع بالقهر كالشيطان.
وأما العقل فهو ما ثبت من أن الله تعالى عدل حكيم لا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يؤاخذهم بما لا يذنبون، وأن ذلك يؤدي إلى إبطال التكليف /232/ والكتب والرسل، ويرفع معنى الأمر والنهر ونحو ذلك، وبعد فكيف ينهى عن الإضلال والإغواء ويفعله والطارف من العقلاء ينزه نفسه من أن يفعل ما نهى عنه، ولهذا ولهذا قال شعيب عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح. وقال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، وفي الأخبار أنه نزل بقوم موسى بلاء، فسأل ربه عن سبب ذلك فقال: فيكم رجل نمام، فقال موسى: أخبرنا به يا رب لنقتله، فقال: كيف أعيب خصلة ثم أفعلها، وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
وبالجملة فلو نسبت إلى بعض المخالفين مثل ذلك فقلت كل ضلال وفساد منك وأنت أغويت على عبيدي وأضللتهم عن الرشد لواثبك مواثبة مضطر إلى أنك نسبت إليه صفات النقص فكيف يضاف إلى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
وأما السمع قلنا: فيه طريقان: إحداهما في أنه فعل هذا جميع الخلق وأرشدهم. والثانية: أنه لم يضل أحداً بالمعنى المختلف فيه.
أما الطريقة الأولى، فقال تعالى: {إن علينا للهدى} فبين أن عليه أن يهدي الناس. وقال: {هدى للناس وبينات}، وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}، وقال: {فإما يأتينكم مني هدى}، وقال: {قد جاءكم بصائر من ربكم}، وقال: {وعلى الله قصد السبيل، وقال: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع} ، وقال: {أويقول لو أن الله هداني}، وقال: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم}، وأمثال هذا كثير.
وأما الطريقة الثانية: فدليلها أنه تعالى أضاف الإضلال بالمعنى المختلف فيه إلى غيره، فقال: {وأضل فرعون قومه وما هدى}، {إن الذين يضلون عن سبيل الله} {ولأضلنهم ولأمنينهم}، {ليضل عن سبيل الله}، {قد ضلوا وأضلوا كثيراً}، {وأضلونا السبيلا}، {فأزلهما الشيطان}، واتبعوا ما تتلوا الشياطين}، {وزين لهم الشيطان}، {لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم}، {ربنا هؤلاء أضلونا}، {ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس} {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} وأمثال هذا كثير}.
فصل في شبههم
لا شبهة لهم من جهة العقل، ولكن لا تعلقوا بشبه سمعية، وقد قدمنا أنه لا يصح لهم الاستدلال بسمع قط، ويختص هذا المكان أن نقول: ما أنكرتم أن الله أنزل القرآن إضلالاً لخلقه وأن الحق في خلاف ما جاء به، ونحن نجيب على تقدير صحة استدلالهم بالسمع فمن الآيات قوله تعالى: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} ونحوها.
والجواب: أن هذه الآية وجميع ما يذكرونه هنا، فما ورد فيه الإضلال /233/ مطلقاً ليس بصريح بمحل النزاع الذي هو خلق الإضلال فلا تعلق لهم فيها، والمعنى هنا: يهلك من يشاء وينجي من يشاء، فقد تقدم أن معنى ضل هلك وضاع، وكذلك معنى أضل أهلك، إذا وردت مطلقة، ويجوز أن يكون المراد الثواب والعقاب أو الحكم والتسمية أو خلق ما عنده يظهر الضلال والهدَى كل هذه معانٍ ظاهرة في اللغة مطابقة للعقل، وما ادّعوه غير ظاهر في اللغة، ولا مطابق للعقل، ويحتاج إلى حذف وإضمار.
ومنها: قوله: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عند الخصم؛ لأن الله لا يضل بالقرآن بل يخلق الضلال، وكذلك الهدى، وأيضاً فلم يصرح بمحل النزاع، فيقول: خلق الهدى والضلال، والمراد يعذب بالكفر به كثيراً، ويثيب بالإيمان به كثيراً، والباء ترد في اللغة بهذا المعنى كما قال تعالى: {بما كفروا} أي لأجل كفرهم ويجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية أي يحكم فيه بضلال كثير ويهدي به كثير، وأن يكون المراد يكفر عند إنزاله، ويهتدي كثير كل ذلك صحيح، بدليل قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} فبين أن هذا الإضلال بعد فسقهم ولأجله وما كان كذلك فهو عقاب أو جارٍ مجراه.
ومنها قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله}.
والجواب: ما تقدّم من أن المراد التسمية والنهي عن الاختلاف في ضلالهم، فقد سماهم الله بذلك، ويجوز أن يكون المراد أتريدون أن تنجوا من أهلك الله. ويوضح هذا: أن الله تعالى فسر الإركاس بالإضلال، وجعله جزاء بما كسبوا، والجزاء على الكفر هو الإهلاك والعقوبة، ومنها قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً}.
والجواب: لا تعلق في ظاهرها لأنه لم يقل: يضله عن الدين؛ ولأن الجعل مشترك بين معان، ولم يذكر على أي معنى يجعل صدره ضيقاً، ولأنه إما أن يكون الهداية والإضلال هو نفس الشرح والتضييق، وهذا باطل بالاتفاق؛ لأن الكفر والإيمان ليس من السعة والضيق في شيء، إما أن يكون موجباً عن السعة والضيق، وهو أيضاً باطل؛ لأنه لا تأثير لذلك في الهداية والضلال، وإلاّ وجب في الرجل الضخم وسيع الصدر أن يكون إيمانه أكثر من غيره؛ ولأن الهدى والضلال عند الخصم بخلق الله لا بالشرح والتضييق، والمراد عندنا بالهداية والضلال الثواب والعقاب.
وفيه ثلاث تقديرات: أحدها أن يكون التقدير فمن يرد الله أن يثبته في الآخرة بإيمانه يشرح صدره للإسلام بأن يسهله عليه ويثبته بالألطاف وزيادة التوفيق، وليس الشرح الحقيقي الذي هو فكل بعضه من بعض، ومن يرد أن يعاقبه في الآخرة بكفره أو فسقه يجعل صدره /234/ ضيقاً بالخذلان وسلب الألطاف والتوفيق، كما قال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.
وثانيها: أن يكون التقدير فمن يرد الله أن يثيبه يشرح صدره بما يورده عليه من البشارة ومن يرد أن يعاقبه يجعل صدره ضيقاً حرجاً بما يورده عليه من الغموم والبشارة بالنار ويكون ورود جميع ذلك حالة الموت، ويؤيّد هذا ما نعلمه من أن الكافر في الدنيا غير ضيق الصدر وإنما هو منشرح الصدر بكفره.
وثالثها: أن يكون التقدير: فمن يرد الله أن يثيبه يشرح صدره في الآخرة بما يوصله إليه من الثواب للإسلام، أي لأجل الإسلام، ويدل على صحة هذه المعاني قوله بعد ذلك: {كذلك يجعل والرجس على الذين لا يؤمنون}، فبين أن هذا التضييق والإضلال جزاء على الكفر وترك الإيمان، الرجس هو العذاب، وأيضاً فالظاهر أنه بعد وقوع الكفر، ومذهب الخصم أن الضلال هو بخلق الكفر، وذلك يتأتى في كونه جزاءً على الكفر، وكذلك الكلام في كون شرح الصدر جزاء على الإيمان.
ومنها: قوله تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة}.
والجواب: أن المراد فريقاً أنجى وفريقاً حق عليهم الهلاك بدليل أنه في قصة المعادين بعد الموت حيث قال: كما بدأكم تعودون}، وعلل قوله: {حق عليهم الضلالة} بقوله: {أنهم اتخذوا الشياطين أولياء.
ومنها: قوله حكاية عن موسى: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء}.
والجواب: لم يقل يضل بها عن الدين، والمراد تهلك بها من تشاء؛ لأن لفظة هي عائد إلى الرجفة، وبالاتفاق أن الرجفة لا يضل بها أحد عن الدين، ولأن قوله: {أتهلكنا بما فعل السفهاء} قرينة في أن المراد بالإضلال الهلاك، وأما الفتنة في الأصل فهي مأخوذة من فتنت الذهب إذا طَبَخْتَه في الكَانُون لاستخراج خبثه، ثم استعير للعذاب لما كان عرضاً عن النار كما يعرض الذهب عليها، قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} أي يعذبون، ثم استعمل في كل عذاب، قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين المؤمنات}، أي عذبوهم، وقال: {والفتنة أشد من القتل}، ثم يقل إلى الامتحان والابتلاء لما كان بالمحنة والبلاء يظهر المخلص من المرتاب يشبهها بالفتنة الذي يظهر بها خالص الذهب من خبثه، قال تعالى: {ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}، أي يمتحنون، بما يظهر عنده المخلص من المرتاب، وقال: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام، أي يمتحنون، ومنه قوله: {وفتناك فتوناً} أي امتحناك بمحن هذبتك وخرجتك، ثم استعير للإغواء عن الدين لما كان عند الغواية يستحق العذاب المشبه بالفتنة الحقيقية. قال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك} ونحوه.
ومنها: قوله: {ربنا إنك آتيت فرعون..} إلى قوله: {ليضلوا عن سبيلك}.
والجواب: هذا معارض بقوله: {لعله يتذكر /235/ أو يخشى} وبقوله: {ولقد أخذنا آل فرعون} إلى قوله: {لعلهم يتذكرون}.
وبعد، فلا تعلق لهم في ظاهرها؛ لأنه لم يقل ليضلهم؛ ولأن الضلال عند الخصم لا يكون بإيتاء الزينة بل بخلق الكفر فيهم؛ ,لأنه لو كان كما قال الخصم لم يستحقوا أن يطمس على أموالهم لأنهم قد فعلوا ما لأجله أعطوا إياها، والمعنى أن موسى عليه السلام قال ذلك على وجه التبعيد أي ما آتيتهم لأجل ذلك كما يقول الرجل بعبده: أكرمتك وربيتك لتعصيني وتخالف أمري، أي ما أكرمتك لذلك، بل لضده، ويدل على صحة هذا المعنى أن موسى إما أن يقول ذلك إخباراً لله تعالى به، وهو محال؛ لأنه كيف يخبره بما يعلمه وعلى جهة الاستفهام، وهو أيضاً محال، إذ لا صيغة للاستفهام، ولأنه كان لا يجوز أن يقول ربنا اطمس على، وهو مستفهم عما لأجله أتاهم، ويجوز أن تكون لام العاقبة أي وعاقبتهم ذلك.
ومنها: قوله: {وأضله الله على علم}.
والجواب: لم يقل وأضله عن الدين، وجائز أن يريد الهلاك أو العذاب أو الحكم أو التسمية أو الوجدان كما تقدم، ويدل على صحة هذه المعاني أن الله جعل ذلك جزاء على كونه اتخذ إلهه هواه.
ومنها قوله: {يثبت الله الذين آمنوا..} إلى قوله: {ويضل الله الظالمين}.
والجواب: لم يقل يثبتهم، بخلق الثبات فيهم، ويضل بخلق الضلال، وهو المتنازع.
والمعنى: يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا بالإلطاف والإعانة، وفي الآخرة بالثواب لأجل القول الثابت، كما قال: يهديهم بإيمانهم، لأجل إيمانهم، ويهلك الضالمين، يدل على صحة هذا أنه جعل ذلك جزاء.
ومنها: قوله: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدّاً}.
والجواب: لم يقل يمدهم في الضلالة، والمعنى يمد له في العمر، أخباراً بذلك عن حلمه، وأنه لا يعاجل بالعقوبة، وليرتدع من يرتدع، ولتتأكد الحجة على المصر، ويجوز أن يكون المعنى يمد له من العذاب كما قاله في آية آخرى.
ومنها قوله: {إن الذين آمنوا ثم كفروا..} إلى قوله: {لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً}.
والجواب: لا خلاف أن الله هدى جميع المكلفين بمعنى الدلالة، وقد قال تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}، والمعنى لم يكن الله ليغفر لهم في الآخرة ولا ليهديهم سبيلاً إلى الجنة، بل إلى النار. كما قال في آية أخرى: {ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم}.
يؤيد هذا أنه جعله جزاء على كفرهم، ومذهب الخصم يقتضي أن عدم الهداية هو بخلق الكفر، وذلك يبطل ظاهر الآية.
ومنها: قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} قالوا: فلولا أنه يجوز أن يضل لما صح أن يسألوه الهداية.
والجواب: هذا لا يستقيم على أصل الخصوم /236/ لأنه لم يقع هذا السؤال إلا من المؤمنين، فكيف يسألون ما قد أعطوا، وهل هو إلا بمثابة قولهم: اجعلنا، واجعلنا من بني آدم، وذلك طلب الحاصل.
وبعد فلا فائدة في السؤال على مذهب الخصم؛ لأنه إن كان يريد الهداية وقعت، وإن كان لا يريد استحال أن تقع سواء سألوا أم لا.
وفي الآية عندنا معنيين: أحدهما: أن المعنى أرشدنا إلى الحق ودلنا عليه ووفقنا له، وهذا وإن كان قد فعله تعالى فالدعاء به جائز كما في سائر الأدعية التي تُعبّدنا به لمصلحة.
المعنى الثاني: أن يكون التقدير ارشدنا الصراط المستقيم في الآخرة، وثبتنا عليه يوم تزل الأقدام.
ومنها: قوله: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}.
والجواب: المراد ليس عليك ثوابهم، وليس عليك أن تحكم عليهم وتسميهم، ولكن الله يثبت ويسمي من يشاء وهم المطيعون.
ومنها: قوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم}، فأضاف الزيادة إلى الآيات والله هو فاعل الآيات وفاعل السبب فاعل المسبب.
والجواب: إن أرادوا أن الآيات هي التي زادت فمحال؛ لأنه لا فعل لها، وإن أرادوا أن الله زاد عندها فهو خلاف الظاهر، والمعنى إزدادوا عندها، وأضيف إلى الآيات تجوّزاً لما كان عندها كقوله: {فلم يزد
هم دعائي إلا فراراً}، وكما يقول الواعظ: ما زادتك موعظتي إلا شرّاً، وما زدت غلامي بإحساني إلا مخالفة.
ومنها: قوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}.
والجواب: المراد بالفتنة الامتحان والبلوى بما يظهر عنده إيمان المؤمن وكفر الكافر، وتمييز الخبيث من الطيب كما سلف في نظائره، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه} ولم يرد ما ذهب إليه الخصم وإلا كان التقدير وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً لنغويهم به، ومن هذا القبيل قوله: {لنبولكم بالشر والخير فتنة}، وقوله: {إنا قد فتنا قومك من بعدك}، وقوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} أي اختياراً وامتحاناً، فإن الكافر المرتاب يقول: ولم كانت تسعة عشر ولم تكن أقل أو أكثر، هلا كانت عشرين تكميلاً للعقد ونحو ذلك مما يظهر به ريبة المرتاب، ومثله قوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا}، فأخبر أنه امتحنهم بما تظهر به ريبتهم، ثم رد عليهم بقوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} واللام في قوله: {ليقولوا} لام العاقبة، ومثله قوله: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أي امتحان وعذاب في الدنيا بالمصائب والشدائد أو عذاب أليم يتعجل لهم كسائر الأمم، ولو كان كما قاله الخصم لكان التقدير: فليحذر الذين أضللتهم عن أن أضلهم.
ومنها: قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم..} الآية.
والجواب: ما تقدم من أن التقدير /237/ من يرد الله عذابه، ومعنى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، أي يحكم بطهارتها في الدنيا وينجيها في الآخرة.
ومنها قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}.
والجواب: أنه دعاء تعبّدنا به كما سلف في نظائره، ويجوز أن يكون المراد لا يعذبنا؛ لأن الزيغ قد ورد بمعنى العذاب في قوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} بدليل أنه جعله جزاء على زيغهم، ولو كان كما قالوه لكان تقديره: فلما أزاغ الله قلوبهم أزاغ الله قلوبهم، ويجوز أن يكون المعنى أزاغ الله قلوبهم عن رحمته، بأن سلبها التوفيق والإلطاف.
ومنها: قوله: {وكذلك نصرّف الآيات وليقولوا درست} فبين أن غرضه أن يقولوا ما هو كفر.
والجواب: أن الغرض بالتصريف ضد ما قالوه، وهو التذكرة والتكرار، ولو كان كما قالوه لكان كمن يقول ذكرت لفلان حاجتي وكررتها لينساها، والمعنى لئلا يقولوا درست كما قال تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} أي لئلا تضلوا، وحذف لا في مثل هذا كثير، قالت الخنساء:
فآليت آسى على هالكٍ .... وأسأل نائحة ما لها
وقال أبو حنبل الطائي:
لَقَدْ آلَيْتُ أَغْدُرُ في جِداعِ .... وَإِنْ مُنِّيتُ أُمَّاتِ الرّبَاعِ
لأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ .... وأنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
فكيف يقول: آليت أغدر، ثم يقول: لأن الغدر في الأقام عارٌ، فولا أن التقدير لقد آليت لا أغدر، ويجوز أن تكون لام العاقبة كأنه قال: يصرف الآيات ويكررها، وعاقبتهم أن يقولوا درست، ويجوز أن يكون المعنى بقوله: وليقولوا درست، التهديد الوارد في صورة الأمر كقوله: {وليوفوا نذورهم}.
ومنها قوله حكاية عن إبليس: {رب بما أغويتني} وأشباهها، وذلك تصريح بأنه أغواه.
الجواب: إنما حكى الله قول إبليس فمن أين لكم أن إبليس صادق، وما أنكرتم أن يكون كحكايته عن المشركين قولهم لو شاء الله ما أشركنا، ولا بد للخصوم من الاعتراف بأنه كاذب؛ لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين، وهو كاذب من وجهين، من حيث لا يقدر على الإغواء إلا الله عندهم، ومن حيث لم يغوِ جميع الناس، وبعد فالظاهر يقتضي أن الإغواء آلة لإبليس في الإضلال، وهو باطل بالاتفاق منا ومنهم.
وبعد فلم يقل بما أغويتني عن الحق وهو محل النزاع، والمعنى بما أغويتني أي خيّبتني عن رحمتك؛ لأن الغي والغواية في أصل اللغة هو الخيبة والحرمان، قال تعالى: {فسوف يلقون غياً} وقال الشاعر:
ومَنْ يَلْقَ خيراً يَحْمَدِ الناسُ أمرَه .... وَمَن يَغْوِ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائما
ويجوز أن يكون التقدير بما أغويتني أي حكمت علي بالغواية وسميتني غاوياً.
ومنها: قوله: حكاية عن نوح {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} /238/.
والجواب: إنما أخبر أن نصحة لا ينفع أن أراد الله أغواهم، فمن أين للخصم أن الله قد أراده وفعله وهو المتنازع.
وبعد فلم يقل إن كان الله يريد أن يغويكم عن الدين.
وبعد فعند الخصم أن النصح فعل الله فيكون التقدير ولا ينفعكم نصح الله إن أراد الغواية. وبعد فما باله عليه السلام يشتغل بنصحهم وقد علم أنه لا ينفع، وأن الله منعهم عن القبول، والمعنى لا ينفعكم نصحي أن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته وعفوه لأجل إصراركم، وهذا واضح لأن النصح لا ينفع إلا من قبله، وقد قال بعض العلماء أن نوحاً أوردها على طريق الإلزام والتوبيخ لهم؛ لأنهم كانوا يرون أن الله الذي أغواهم وأراد غوايتهم، فقال: إن كان الأمر كما زعمتم فلا ينفعكم نصحي، وهذا كما نقوله نحن للخصوم، وإذا كان كما قلتم فلا ينفع الأمر والنهي والرسل والجهاد والوعظ.
ومنها، قوله: {ربنا غلبت علينا شقوتنا}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لأن الغلبة لا تصح إلا من الحيّ القادر، وأما فهي في الأصل العَنَاء والتعب، يقال: شقي شقاوةً وشقاءً، ويقال للفقير المحروم: شقيّ، أي تاعب في دنياه، ومعنى الآية: ربنا غلبت علينا شقوتنا، أي تعبنا وعناؤنا وعذابُنا، ويجوز أن يريد غلبت علينا معاصينا وظلمنا، وزادت على حسناتنا وسميّ ذلك شقوة لما كان يؤدي إليها.
ومنها: قوله: {كذلك زيّنا لكلّ أمةٍ عملهم} وأشباهها.