وأما الشرور التي هي الإغواء والصد عن الدين وسائر المعاصي فإن إضافتها إلى الشيطان /225/ ليس مما يختص به المجوس، بل قد قال به اليهود والنصارى والنبي عليه السلام إنما شبه القدرية بالمجوس في مذهب يختصون به دون سائر فرق الكفر.
على أن الذي أضفناه إلى إبليس من الإغواء والوسوسة والصد عن الدين ونحو ذلك، قد أضافه الله إليه ورسوله والسلف الصالح، ولو ادعى كونه ضرورة من الدين لصح، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في مسألة: هذا ما رآه أبو بكر فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله تعالى ورسوله منه بريئان.
ومثله قال عمرو وابن مسعود: وهذا شيء لا ينكره إلا جائر عن الحق، وأيضاً فالشرور التي هي المعاصي مما تستلذه النفس، والظاهر من مذهب المجوس أنهم لا يضيفونه إلى الشيطان؛ لأنه من الخير عندهم.
وأما الآثار فقد روى في الفائق أنه قال: ((لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون أن الله تعالى قدر المعاصي عيهم وعذبهم عليها، قيل: ومن المرجئة؟ قال: قوم يقولون الإيمان قول بلى عمل)).
وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي بإسناده أن رجلاً قدم على النبي عليه السلام من فارس فقال النبي: ((أخبرني بأعجب ما رأيت))، قال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قالوا: قضاه الله وقدره، فقال عليه السلام: ((أما إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم يعملون المعاصي ويقولون الله قدرها عليهم، الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله)).
وعن الأصمع ابن نباتة، قال: قام شيخ إلى علي بعد انصرافه من صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدرة؟ فقال رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تَلْعةً إلاَّ بضاء وقدر) فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال له: (مه أيها الشيخ بل أعظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين)، فقال الشيخ: كيف والقضا والقدر ساقانا؟ قال: (ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم يأت من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلف يسيراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكروهاً ولم يرسل الرسل /226/ إلى خلقه عبثاً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) فقال الشيخ: فما القضا والقدر اللذان ما سرنا إلاَّ بهما؟ قال: (هو الأمر من الله والحكم، ثم تلا {وقضا ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه} فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته .... يوم الحساب من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً .... جزاك ربك عنا فيه إحسانا
وعن الحسن البصري أن الله بعث محمد والعرب قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى مصداقة في قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها..}الآية، وفي قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} ونحوها.
وعنه أيضاً أن من المخالفين قوماً يقصرن في أمر دينهم ويعملون فيه بزعمهم على القدر، ثم لا يرضون في دنياهم إلا بالجد والاجتهاد في الطلب والأخذ بالحزم فإذا أمرت أحدهم بشيءٍ من أمر الآخرة قال: لا أستطيع قد جفت الأقلام وقضى الأمر، ولو قلت له: لا تتعب نفسك في طلب الدنيا وفيها مشاق الأسفار والحر والبرد والمخاطرة، فإنه سيأتيك ما قدر لك، وكذلك لا تسق زرعك ولا تحرسه ولا تعقل بغيرك ولا تغلق باب دارك ولا تلتمس لغنمك راعياً فإنه لا يأتيك في جميع ذلك إلا ما قدر لك لأنكر ذلك عليك ولما رضي به في أمر دنياه، وقد كان وقد كان أمر الدين بالاحتياط أولى.
وسئل جعفر بن محمد عليه السلام عن القدر فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله ومالم تستطع أن تلومه عليه فهو فعل الله يقول الله: لم كفرت ولا يقول: لم مرضت.
وسئل محمد بن واسع عن القدر فقال: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة يسألهم عما أمرهم ولم يسألهم عما قضا عليهم.
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات]
قال عدلي لمجبر: ما تقول في علي رضي الله عنه هل قاتل معاوية لعنه الله على شيء جعله الله لمعاوية وقضاه له أم على شيء جعله لعلي وقضاه له؟ فقال: بل على شيء جعله لمعاوية وقضاه له، قال: فمعاوية إذن أحسن حالاً من علي حيث رضي بما قضى له ولم يرض علي بذلك فانقطع المجبر.
وقال عدلي لمجبر: أكان قتل يحيى بن زكريا وسائر الأنبياء بقضاء الله وقدره؟ قال: نعم، قال: أفترضون به؟ فسكت.
وقال عدلي لمجبر: أنتم إذا ناظرتم المعتزلة قلتم بالقدر وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف قال: إذا كسرت جاريته كوزاً يساوي فلساً /227/ ضربها وشتمها ونسي مذهبه.
وقيل لمجبر: أيقضي الله بالفساد ويخلقه؟ فاستلقى وقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غير الله.
وصعد سلام الفارسي المئذنة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر ليضربها فقال الغلام: القضا والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضا والقدر أحب إليّ من كل شيء أنت حر لوجه الله.
ورأى شيخ بأصفهان رجلاً يفجر بأهله، فجعل يضرب امرأته وهي تقول: القضا والقدر فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنَّة وأخذت مذهب ابن عباد، فتنبه وألقى السوط وقبَّل بين عينيها واعتذر إليها، وقال: أنت سنيّة حقاً، وجعل كرامة على ذلك.
ورأى مجبر رجلاً يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ قالا: القضا والقدر، فقال: الخيار ما قضا الله، فلقب بالخيار فيما قضى الله فكان إذا دعي به غضب.
وقال مجبر لعدلي: ما تقول في مناظرة آدم لموسى حيث قال: ذلك شيء قضي علي وقدر فانقطع موسى، فقال العدلي: لو كان ذلك عذراً لآدم لكان عذراً لجميع العصاة، ولما كان لله على الناس حجة، فقال المجبر: هو عذر للجميع، لكن ليس لهم أن يقولوا بمثل مقالة آدم، فقال العدلي: أذن مثلنا كما قال الشاعر:
إذا مرضنا آتيناكم نعودكم .... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
فقال المجبر: نعم هو كذلك.
ناظر عمرو بن عبيد أبا عمرو بن العلى فقال عمرو: هل تجد في كلام العرب أن أحداً فرط في ما لا يقدر عليه فقال أبو عمرو: لا فقال عمرو، فما معنى قوله يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله فسكت أبو عمرو.
وتشاجر عدليّ ومجبر في من القدرية فجاءوا إلى مجوسي فقالوا: يا مجوسي: ممن المجوسية؟ قال: من الله، فقال العدلي للمجبر أينا يوافقه؟
وقال تلميذ لسلام الفارسي: مررت الليلة بآية تدل على أن يوسف كان قدرياً وهي قوله: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} فقال سلام وانا مررت في قصة موسى بآية توهمني فيه ذلك وهي قوله: {هذا من عمل الشيطان}. فقال آخر: ولقد رأيت أعجب من هذا قوله: {لا أملك إلا نفسي وأخي} فلم يرض أن يقول: أملك نفسي حتى قال: أملك أخي، فقام معتزلي وقال: أما رضيتم بمذهب موسى ويوسف حتى تردون عليهما فسكتوا.
وحكى الحاكم عن بعض المجبرة أنه قال: لزنية أزنيها أحب إلي من عبادة الملائكة، قيل له: لم قال لعلمي بأن الله قضاها علي ولا يقضي إلا ما هو خير لي.
وسأل جماعة عمرو بن قايد عن القدر فقال: أقيموا ربكم مقام رجل صالح إن كان ما قيل حقاً فلا تعاتبوه، وإن كان كذباً فلا تبهتوه.
ودخل معتزلي على محمد بن سليمان فأمر بضرب عنقه فضحك فقال: كيف تضحك في هذه الحال؟ قال: أرأيت لو قام رجل في /228/ السوق وقال: إن محمد بن سليمان يقضي بالجور ويفعل الظلم ويجمع بين الزانيين ويريد كل فساد فاعترضه رجل آخر، فقال: كذبت، بل يقضي بالحق ولا يفعل الفواحش ولا يريدها أيهما أحب إليك فقال: من دفع عني وأحسن الثناء عليَّ فقال المعتزلي: لا أبالي إذا أحسنت الثناء على رب العالمين، فانقطع ومن حوله من المجبرة وخلَّى سبيلهم.
فصل في شبههم
في هذه المسألة تعلقوا بأخبار أحادية لا تقبل في مثل هذه المسائل إلا مؤكدة، ولكنا نجيب على تقدير صحتها.
فمنها القدر كله من الله خيره وشره.
والجواب: أراد بخيره النعم والعافية والخصب وكثرة الأموال والبنين وبشره الأمراض والقحط والموت، فإن هذا هو السابق إلى الأفهام، والمعلوم من قصده عليه السلام وسمى شراً جرياً على عادة اللغة، ألا ترى أنهم يقولون: فلان بشر إذا اشتد مرضه وأهل البلد الفلانية بشرٍ إذا كانوا في قحط وغلا.
ومنها القدر سر الله في أرضه فلا تفشوه.
والجواب: ما تقدم، بل هذا آكد؛ لأن المشهور عنه عليه السلام الحث على الصبر على المصائب، وكتمانها كالأمراض ونحوها، ولو كان المراد ما ذكروه لما جاز لشهود الزنا أن يشهدوا به ولا جاز ذم العصاة ولا حكاية المعاصي ولا الاعتراف بالذنوب؛ لأن كل هذا أفشا للقدر.
على أن المخالفين لم يمتثلوا هذا الخبر؛ لأنهم أشد الناس إفشاء للقدر فلا يقع واقعة من خير أو شر إلا أعلنوا فيها بالقدر، فهلاَّ كفوا عن ذلك لئلا يفشوه.
ومنها مناظرة آدم عليه السلام لموسى عليه السلام وسلف ما هو جواب عنها.
وتعلقوا من الكتاب العزيز بآيات ليس في ظاهرها تعلق، منها قوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً}، فبين أنه بعث المؤمنين على محاربة الكفار وجرأهم عليهم، وكذلك بعث الكفار على المؤمنين وجرَّأهم عليهم ليقضي ذلك
والجواب: ليس في ظاهرها من هذه الدعوى شيء، والمراد بالقضاء التمام، فقلل الكفار في أعين المؤمنين ليجتروا عليهم تثبيتاً لهم ونصراً وقللّ المؤمنين في أعينهم لئلا يجتروا منهم خذلاناً لهم ليتم ما وعد من نصر المؤمنين وخذلان عدوهم وهلاكهم بأيدي المؤمنين. ومنها قوله: {قضي الأمر الذي فيه تستفيان}.
والجواب: أن لفظ الأمر ليس فيه تصريح بما يدعيه الخصم، وهو من الألفاظ المشتركة.
وبعد، فلو أراد يقضي خلق لاقتضى ذلك أن يكون قد وجد في تلك الحلال وهو لم يقع إلا بعد مدَّة، والمراد بالقضا هنا الحكم أي حكم به وعلم. ومنها قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
والجواب: إنما يقتضي ظاهرها أن كل ما خلفه تعالى فهو بقدر وذلك مسلم، فأما إن كان كل شيء فقد خلقه بقدر فلا لأنه تعالى شيء ولم يخلق نفسه بقدر، وكذلك قدرته وعلمه ومتى قالوا: هذا خصه الدليل.
/229/ قيل: وكذلك أفعال العباد خصها الدليل، لو سلمنا أن ظاهرها يقتضي ما قالوه.
قال بعض المفسرين إنه تعالى خلق جميع ما يجاري به من العقاب والثواب بمقدار، ولهذا ذكره بعد قوله {ذوقوا مس سقر}. ومنها قوله: {وكل شيء عنده بمقدار}.
والجواب: المراد بالعند هنا الحكم والعلم كما يقال: المسألة عند أبي حنيفة كذا أي في حكمه وعلمه وكل الأشياء في علمه تعالى وحكه بمقدار لا يزيد ولا ينقص، وليس المراد بالمقدار القدر؛ لأن ذلك لم يرد. ومنها قوله: {لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.
والجواب: أن ذلك لم يستعمل بمعنى القضا والقدر في شيء من اللغة، وإنما يستعمل في معانٍ:
أحدها: بمعنى الإيجاب نحو: {كتب عليكم الصيام}ز
وثانيها: الإخبار: نحو: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر}.
وثالثها: الحكم والعلم نحو: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} ونحو: {كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله} وليس في شيء من هذه المعاني للخصم فرج. ومنها قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا}.
والجواب مع ما تقدم أنه قال لنا ولم يقل علينا، والمراد الثواب؛ لأنه تعالى قال: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} ثم أمرهم الله بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم من الثواب أو النصر لا ما يتربصه به الكفار. ومنها قوله: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فأخبر أن ذبحهم بلاء منه.
والجواب: أنه لا تعلق في ظاهرها؛ لأن البلاء كما يطلق على المحنة يطلق على النعمة، كما قال: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً} وهو هاهنا مصروف إلى النعمة؛ لأنه ابتداء بذكر الإنعام، فقال: {وإذ نجيناكم} إلى قوله: {وفي ذلكم} أي وفي ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة، ولو سلمنا أن المراد المحنة، فإنما هي بالتخلية بينهم وبين فرعون وخذلانهم، وكونه لم يدفعه عنهم كما خليّ بين الكفار وبين أنبيائه حتى قتلوهم على جهة الامتحان ليصبروا فيعظم ثوابهم ولغير ذلك من المصالح. ومنها قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} فبين أنه يقضي بالمعصية والفساد.
والجواب: ليس في الآية ذكر أن الله أشربهم، ومن الجائز أن يكون الشيطان.
وبعد، فقد قال بكفرهم ففسر معنى الإشراب بأنه هو الكفر والعبادة لغير الله، وأيضاً فكيف يعاقب الله على معصية بمعصية، والمعنى أن قوله: {وأشربوا} ليس له فاعل غيرهم، لكن لا يرد شربوا بهذا المعنى في اللغة، وقد يرد الفعل على هذه الصيغة، ولا فاعل له سواء المعفول به مع جواز أن يرد على خلاف هذه الصيغة كقوله: {ولما سقط في أيديهم} ونحو: {فألقى السحرة ساجدين} وقد يرد بمثل هذه الصيغة ولا فاعل له سوى المفعول به، ولا يجوز وروده على غيرها نحو: أعجب فلان بكذا، أو سر بكذا، وهذه الآية من هذا الباب يقال: أشرب قلب فلان مودة فلان، ولا يقال /230/ شربها وإن كان ذلك هو المراد.
تنبيه
قد ثبت أن القضاء والقدر يستعملان في معان بعضها صحيح وبعضها فاسد في حقه تعالى، وكل لفظة هذا حالها فإنه لا يجوز عندنا إطلاقها بالنفي ولا بالإثبات لإيهام الخطأ، فلا يجوز إطلاق القول بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره لإيهامه معنى الخلق والأمر، ولا إطلاق القول بأنها ليست من قضائه وقدره لإيهام زوال العلم والكتابة والأخبار ونحو ذلك مما هو صحيح في حقه تعالى، وكذلك الكلام في كل لفظة هذا سبيلها من المشتركات لا بد فيها من التقييد بما يزيل الإيهام.
القول في الهدى والضلال
الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو: {إن علينا للهدى} وبمعنى التوفيق نحو: {والذين اهتدوا زادهم هدى}، وبمعنى الثواب: نحو {سيهديهم ويصلح بالهم} في قصة المقتولين، ونحو: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} وبمعنى الفوز والنجاة نحو: {لو هدانا الله لهديناكم} أي نحو لو أنجانا الله لأنجيناكم لأنكم أتباع لنا، فلو نجينا لنجيتم، ونحو: {والله لا يهدي القوم الظالمين} الكافرين أي لا ينجيهم، وبمعنى الحكم والتسمية نحو: {فمالكم في المنافقين فئتين} إلى قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} المعنى مالكم مختلفين فيهم فبعضكم يسميهم مهتدين، وبعضكم يسميهم بخلاف ذلك، أتريدون أن تسموا مهتدياً من سماه الله ضالاً وحكم بذلك عليه، ومنه قول الشاعر:
ما زال يهدي قومه ويضلنا .... جهلاً وينسبنا إلى الكفار
وأما الضلال ففيه لفظتان: ضل وأضل.
أما لفظة ضل فقد تكون لازمة نحو: ضل الشيء أي ضاع وهلك، ومنه قوله تعالى: {قالوا: ضلوا عنا} أي ضاعوا، وقوله: {ضل من يدعوا إلا إياه} أي ضاع وبطل، وقد تكون متعدية نحو: ضل فلان الطريق والدار، وضل عنهما إذا جهل مكانهما، ومنه قوله تعالى: {فقد ضل سواء السبيل}.
وأما لفظة أَضلَّ فتأتي على وجوه:
أحدها أن تكون بمعنى ضلّ المتعدية، وتكون الهمزة للفرق بين ما يفارق مكانه وبين ما لا يفارق.
قال أبو زيد: يقال ضل الطريق ولا يقال أضلها لما كانت لا تفارق مكانها، ويقال أضلّ بعيره، ولا يقال: ضل عن بعيره، لما كان البعير يفارق مكانه. اللهم إلا أن يكون البعير لم يفارق مكانه بأن يكون مربوطاً أو محبوساً كان كالطريق يقال فيه ضلّ عن بعيره ولا يقال أضله.
وثانيها: أن يكن من ضل اللازمة التي بمعنى ضاع وبطل فترد الهمزة للتعدية إلى واحد، فيقال: أضله أي أضاعه وأبطله، ومنه /231/ قوله تعالى: {أضل أعمالهم} أي أبطلها.
وثالثها: بمعنى الحكم والتسمية، يقال: أضل فلان فلاناً أي حكم عليه بذلك وسماه به كقوله: (ما زال يهدي قومه ويضلنا) البيت. وكقول الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم .... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
ومنه قوله تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله}.
ورابعها: بمعنى الوجدان والمصادقة، يقال: أصللت فلاناً، أي وجدته ضالاً كما يقال: أجبنته وأنجلته، أي وجدته كذلك، وعليه قوله تعالى: {وأضله الله على علم} أي وجده وقد حمل أيضاً على معنى الحكم والتسمية، وعلى معنى العذاب.
وخامسها: أن يفعل ما عنده ويضل ويضيفه إلى نفسه مجازاً لأجل ذلك كقوله تعالى: {يضل به كثيراً} أي يضل عبده كثير وإن جاز أن تحمل هذه الآية على معنى يحكم فيه بضلال كثير.
وسادسها: أن يكون من ضل المتعدية وتزاد الهمزة للتعدية إلى مفعول ثان، فتصير متعدية إلى اثنين نحو: أضله الطريق، ومنه قوله تعالى: {وأضلونا السبيلا}، وقوله تعالى: {ليضل عن سبيله} بالضم، وإن كاد ليضلنا عن آلهتنا ونحو ذلك، وهذا هو الإضلال بمعنى الأعق أو هو محل الخلاف بيننا وبين المجبرة، وليس في القرآن ولا في السنة شيء مضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى، فلا يكون للخصوم في السمع شبهة قط.
فصل
ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لم يضل عباده عن الدين ولا خلق فيهم الضلال.
وقالت المجبرة: إن الله هو المغوي عن الدين، المضل عن الرشد المانع عن سواء السبيل، وإن كل ضلال هو فاعله.
ودليلنا: اللغة والمعنى والعقل والسمع، أما اللغة فلم ترد لفظة أضل بمعنى خلق الضلال ولا لفظة هدى بمعنى خلق الهدى، وبعد فمن حمل غيره على سلوك طريق خيراً لا يقال هداه إليها، وكذلك من صرف غيره عن طريق خيراً لا يقال أضله عنها.
وأما المعنى فهو أنه لا خلاف بيننا وبينهم أن التكليف لا يصح إلا مع البيان.